من لم يجرب الحرب لا يمكنه وصفها، ومن لم يجرب الحروب في غزة لا يعرف شيئاً عنها. لكن من جرب الحرب الأخيرة وكتبت له الحياة بقية سيتحدث عن زيارة الموت وتفاصيله، والهذيان سيكون التعبير الحقيقي عما حدث ويحدث، فالصدمة والرعب أكبر من أن ترويهما خيالات الكتاب.
«لقد هرمنا»، هكذا أرسل أحد الأصدقاء الذي أعرف فائض حيويته وحبه للحياة، وكثيرون يتساءلون عن نهاية هذا الجنون الذي انفتح في وجوههم. فكل الحروب كانت مجرد عينات صغيرة أمام هول ما يحدث من حريق لم تشهده منطقة أخرى في العالم على امتداد التاريخ المدجج بالحروب.
في هذه الحرب التي وقفت غزة شاهدة على الحياد الجارح للإخوة والأصدقاء حتى الذين فتنوها بالنصر، لكنها تنزف بصخب السؤال الذي يعني النجاة من الموت بالنسبة لأناس يعدون حياتهم بالدقائق، فكل واحدة منها تحمل قدراً يجرف أعزاء وأحبة لا علاقة لهم بكل ما يجري، كل ما يعرفونه أنه كان هناك نصف أو ربع حياة كانت مليئة بالحزن والهَمّ فرضت عليهم في غزة فارتضوها … ولكنهم كما يقول المثل لم ترتضِ بهم.
الحقيقة صعبة هذه المرة لأنه لا يبدو أن هناك نهاية قريبة لهذه الحرب.
فإسرائيل فقدت توازنها إثر ضربة السابع من أكتوبر وتضرب بكل ما تملكه من قوة غير آبهة بالمجتمع الدولي ولا بالمدنيين ولا بالتظاهرات التي تجوب كبرى العواصم، ولا بالمحاكم التي يمكن أن تحاكم قادتها على كل جرائم الحرب البائنة بينونة كبرى ولا تحتاج لتحقيقات، فالتجويع المتعمد ونزوح السكان أكثر وضوحاً في عالم فقد قيمته لكثرة ما أصيب بالعمى.
في إسرائيل بعد الضربة تولّد إجماع على إنهاء حكم حركة حماس في قطاع غزة بصرف النظر عن مجريات الأحداث وإمكانية ذلك، وهذا يعني حرباً طويلة تلاحق فيها إسرائيل كل غزة وتصل لكل مكان، وهذا الأمر مدعوماً من الولايات المتحدة بل هي صاحبة القرار ومعها أوروبا، فلم يكن من المصادفة أن يتم تشبيه «حماس» بداعش أو بالنازية من قبل نتنياهو في اليوم الأول للحرب ولا أضيف كثيراً إذا ما أضفت أن جزءا كبيراً من العرب ينتظر نهاية حماس.
قامت إسرائيل بقصف جوي مروّع قبل أن تبدأ عمليتها البرية، لكن الأهداف التي وضعتها لا تتحقق بالقصف الجوي. والجرح العميق الذي تسبب بتلك الهزة العنيفة للمشروع لا تعالجه الطائرات مهما ألقت على غزة مما تحمل من صواريخ ومن ذخيرة، ولا بد لها من النزول على الأرض.
ولأن الأهداف التي وضعتها كبيرة كان على الفلسطينيين أن يتهيؤوا لحرب طويلة فإسقاط حماس وإنهاؤها يعني أن تدخل اسرائيل كل بيت والبحث عن محتجزيها يعني التنقيب تحت كل حجر، وتلك مهمات لا تكفي أسابيع لإنهائها. تلك هي الحقيقة .
ذهبت إسرائيل في هجومها أبعد مما يجب لتحرج أصدقاءها الذين يقفون على رأس منظومة ثقافية تتعارض مع ما ترتكبه ضد المدنيين والأطفال، وزادت من الضغط حداً لم يحتمله الناس الذين يتساءلون عن نهاية هذا الكابوس الذي لا يشبه سابقيه دون أن يدركوا هذه المرة أن إسرائيل لديها غطاء دولياً لملاحقة حركة حماس وللاستمرار.
قد يصاب العالم بحرج نتاج القتل العنيف والكثيف ونسب الأطفال والنساء وحجب المساعدات التي يريد الإسرائيلي من خلالها دفع السكان للرحيل والهجرة ودفعهم نحو سيناء ذاتياً، ولكن الناس التي لم تندفع فإن دمها يضع العالم في حالة حرج شديد ما يعني أن علينا الفصل بين القصف الإسرائيلي العشوائي الذي يطال المدنيين ولا يرى العالم أي مبرر له وحجب المساعدات وتجويع شعب وبين الحرب البرية.
الحرب البرية التي تهدف لإزاحة حماس تحظى بإجماع دولي يبدأ من واشنطن وينتهي في تل أبيب وما بينهما من عواصم عربية وأوروبية تختلف حول الشكل المكمل للحرب بالعقاب والإعدام الجماعي من الجو. ما يعني أن ضغط العالم ربما سيتزايد على إسرائيل لتجنب المدنيين وإدخال المساعدات فلا تستطيع الصمود كثيراً أمامه وستقدم تنازلات في هذه الجوانب وقد بدأ إدخال الوقود أول من أمس لكن الدبابات الإسرائيلية لن تجد صوتاً في العالم يطالب بوقف عمليتها لأنها بنظرهم تقوم نيابة عنهم بتنفيذ مهمة هي مطلب لهم جميعاً، ما يعني أن الحرب البرية لن تهدأ قريباً فإسرائيل تحدثت عن أشهر طويلة لتلك العملية.
أثناء كتابة هذا المقال كانت آخر صور المذبحة تأتي من مدرسة الفاخورة في مخيم جباليا، الجثث موزعة بين صفوف الدراسة وفي الردهات والدم يسيل بلا حساب والأطفال الذين يمزقون القلب يموتون في حضن أمهاتهم.
كيف للعقل البشري أن يستوعب ما يجري، قال صديق في العقد الثامن من عمره سافر إلى مصر إنه يتمنى الموت لهول ما رأى من مشاهد تحولت إلى كوابيس ترافقه لن يستطيع العيش معها.
قال لي ما لا يمكن أن يمر في الذاكرة دون أن تبكي … كيف رأى الأبناء يدفعون لسائق تاكسي كي يتخلص من جثمان أبيهم الشهيد دون أن يذهبوا معه لأن لا ضمان لهم بالحياة إن تحركوا …وكيف رأى الأرض مفروشة بالجثث في طريقه الطويل والكثير الكثير من كوابيس لن تشفى منها روح غزة إن بقي لها حياة، ويبدو أنه بات حلماً لا يصدق.