حرب الحلفاء الأمريكية “العادلة!” على العراق تحتفل بعيد ميلادها الثلاثين (1) ..
تقديم وترجمة: حامد فضل الله / برلين
نشر بتاريخ: 09 نيسان/أبريل 2021
حرب الحلفاء الأمريكية “العادلة!” على العراق تحتفل بعيد ميلادها الثلاثين1.
بقلم فولف فتزِل2 ـ Wolf Wetzel
تقديم وترجمة حامد فضل الله / برلين (أوراق ألمانية)
لقد مرت 30 عاما، منذ غزو القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة للعراق. يستعرض الكاتب والصحفي فولف فتزل، مسار تلك الحرب، كاشفا بين الوعود والدعاية والاكاذيب والحقائق والأهداف الفعلية لهذه الحرب وعواقبها الكارثية على الاقتصاد والمجتمع العراقي، كما تطرق إلى دور الأحزاب الألمانية في هذه الحرب، ويرى أن هناك سبباً موضوعياً للغاية، لإلقاء نظرة على هذه الحرب، التي يصفها بسخرية “الحرب العادلة”، ويقارن بين الأوضاع العالمية الحالية والسابقة … مع الأهمية القصوى للبحث في عوامل الحرب الأمريكية الفعلية في العراق، فأن الأهمية الأكبر تبرز في إبراز العواقب التي تسببت بها تلك الحرب على الشعب العراقي والتي ولَّدت بدورها حرب عام 2003، التي خاضها الولايات المتحدة وجمهرة من الحلفاء دون غطاء من مجلس الأمن الدولي، والتي أدت إلى ما أبشع الكوارث وإلى ما هو عليه العراق حالياً، حيث يسوده نظام سياسي طائفي فاسد وتتعرض خيراته وموارده المالية والنفطية إلى النهب المستمر وانتشار واسع للبطالة وفقر مدقع لنسبة عالية من سكان البلاد، في دولة تعتبر واحدة من أغنى بلدان المنطقة بثرواته النفطة وخيراتها الأخرى، وخضوعها الكامل لدور الدولة العميقة والميليشيات الطائفية المسلحة المرتبطة بإيران ومصالحها في العراق مباشرة. ومن المفيد حقاً أن يتابع الكاتب والصحفي المميز الوضع بالعراق ليكتب عن حقائق الوضع الراهن بعد هاتين الحربين 1991 و2003 ليوضح للشعب الألماني والعالم معنى الحرب الحديثة وعواقبها على الشعوب، فالحروب لا تحل المشكلات القائمة، بل تزيدها تعقيداً وتنتج مشكلات جديدة أكثر تعقيداً وإيذاءً.
النص
لن يتفاجأ المرء تماماً عندما يجد أن “الأسباب “الجيدة” المقدمة اليوم هي نفس الأسباب التي تم سحبها بيد سحرية من القبعة قبل 30 عاماً
سوف يتم تخصيص هذه المساهمة للإجابة على الأسئلة المتفجرة اليوم، كما كانت قبل 30 عاماً
ــ هل كانت الأسباب، التي تم طرحها في السابق لخوض الحرب، قابلة للتدقيق الآن؟
ــ هل كان تقديم الأسباب، بهدف إخفاء أهداف حرب مختلفة تمامًا؟
ــ هل توجد ما تسمى بحرب “عادلة”، تدَّعي الدول الإمبريالية أنها تخوضها؟
ــ من الذي استفاد بالفعل من هذه الحرب؟ السكان، المضطهدون أو أولئك الذين يجنون ثمارها؟
دخلت القوات العراقية الكويت، في 2 أغسطس 1990. حيث ظهر في البداية كأنه صراع إقليمي عربي داخلي، ليتطور في الأشهر التالية إلى حرب الحلفاء الأمريكية الأولى في منطقة الخليج بعد الحرب العالمية الثانية.
اختلفت أسباب التهديدات المفتوحة للولايات المتحدة بشن حرب على العراق، حسب الفئة المستهدفة ووفقاً للهَوى: كان احتلال الكويت السبب الأول، وثم الادعاء أحياناً، بأن العراق كان على وشك امتلاك أسلحة نووية. وبين ذلك، كانت هناك الأسباب الأقل نبلاً للحرب، وهي ببساطة المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة. وهذا ما سمعه الجنود في السعودية، الذين زارهم الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990: “شريان الحياة الاقتصادي للعالم” مهدد. سمع الجنود في الصحراء وقلة قليلة منهم في الغرب، عن هذه الأسباب المخزية للغاية لرجل نصب نفسه “شرطي عالمي”.
ما تم تسويقه في الغرب على أنه ضبط النفس الخارق وأكبر قدر ممكن من الصبر، يرجع فقط إلى حقيقة أن الولايات المتحدة وحلفائها كانوا بحاجة هذه المرة لإكمال أكبر انتشار للقوات في منطقة الخليج بعد الحرب العالمية الثانية: “بنهاية 1990 كان هناك 676000 جندي، و3600 دبابة، و1740 طائرة مقاتلة، و150 سفينة حربية تتمركز لاستعادة الكويت. قدمت الولايات المتحدة “حوالي ثلثي القوات”.
كما كانت الحكومات الغربية في نفس الوقت مشغولة بالكامل لتحويل صديقها وحليفها السابق، صدام حسين، إلى “جزار” و “ديكتاتور” من أجل هزيمة المعارضة الداخلية المناهضة للحرب على أراضيها. وليس من المستغرب الا تنطوي منذ البداية، أكاذيب الحرب. فقد كانت المصالح العسكرية والإمبريالية والاقتصادية لحلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج شفافة وواضحة للغاية، حيث كان النفط الرخيص والأنظمة الديكتاتورية، هي الأكثر مقدرة لخدمة مصالح الغرب.
عملية عاصفة الصحراء
بدأ حلفاء الولايات المتحدة في 17 يناير 1991، بقصف العراق بعملية عاصفة الصحراء. كما كانت في نفس المساء، مظاهرات ومسيرات في العديد من المدن والأماكن في ألمانيا. شارك أكثر من 4000 من معارضي الحرب في مظاهرة عفوية في فرانكفورت. كان الطيف، الذي تجمع بعضه يومياً من أجل المظاهرات والتجمعات في الأسابيع التالية، واسعاً ومتبايناً ومتناقضاً: فقد تراوح بين حركات السلام، والخضر وأعضاء النقابات والحزب الديمقراطي الاجتماعي والجماعات المناهضة للحرب والجماعات المستقلة.
كانت تقارير الحرب أكثر غموضا. صور مثل غرفة عمليات الولادة: ضوء أخضر وامض، خطوط عريضة غامضة لـ “الشر”، علامة تقاطع، هدف، تدخل جراحي، سحابة من الدخان. لقد قصف حلفاء الولايات المتحدة “أهدافاً مشروعةً” في العراق ليلاً ونهاراً، ومثل المعجزة، في التلفزيون ووسائل الاِعلام، لم يقتل أحد، لا قتلى ولا جرحى ولا دمار. “لا دماء من أجل النفط” – لقد تلاقت صور الحرب على الأقل، مع هذه الرغبة بطريقة كاذبة.
استمرت حرب قصف الحلفاء ضد العراق بأكثر من 2000 غارة جوية يومياً، كما استمرت جمالية الحرب أيضاً. قُدمت الحرب في وسائل إعلام، مشتتة ومفككة، كلعبة كمبيوتر. أن الحقيقة البسيطة متمثلة في أن الآلاف قد لقوا حتفهم بالفعل في هذه الحرب، التي تحولت إلى استياء معادٍ لأمريكا.
الضحايا، الذين يمكن رؤيتهم
أطلق الجيش العراقي في 18 يناير 1991 ثمانية صواريخ سكود على إسرائيل. وتبع ذلك خمس هجمات صاروخية أخرى. تغيرت تقارير الحرب فجأة. أصبحت للحرب الآن ضحايا يمكن رؤيتهم. تتفكك الضحايا في حرب الحلفاء الأمريكية ضد العراق إلى مظهر تجريدي. تمت في إسرائيل استعادة العلاقة بين الهجوم العسكري والتدمير المقصود. كانت هناك يوميا صور لمنازل مدمرة، ومصابين، وحفر صواريخ أخطأت هدفها. أصبح الناس مرئيين وهم خائفون، يتوقون بهلع، من هجمات جديدة، ويحاولون حماية أنفسهم. عرض إعلامي مثالي يمكن وصفه من الناحية النفسية: لقد تم تحول حزن ضحايا حرب الحلفاء الأمريكية ضد العراق إلى إسرائيل.
كان لصواريخ سكود هدف سياسي أساسي. لقد أرادت الحكومة العراقية استخدام العدو المشترك “إسرائيل” للحصول على دعم سياسي وعسكري في العالم العربي.
كانت صواريخ سكود من وجهة نظر عسكرية، بمثابة ضربة – لخصومهم: “لقد تعرضنا لعشرات ضربات الصواريخ، على الرغم من الخوف والتوتر والإنذارات اليومية تقريبًا، فإن هذه الحرب هي” حرب عظيمة “بالنسبة لنا”، هكذا عبر وزير الدفاع السابق إسحاق رابين.
لقد أخطأت صواريخ سكود هدفها السياسي بالكامل تقريباً. لم تنجح حسابات القصف لكسب “الشعوب العربية الشقيقة” إلى جانب العراق، واستغلال الصراع الإسرائيلي / الفلسطيني.
كما ضربت صواريخ سكود ألمانيا أيضاً، وسط يسار سابق غير برلماني، تجمع بشكل أساسي داخل وحول حزب الخضر. لا يزال حزب الخضر يقدمون أنفسهم على أنهم حزب معارض، والذي وضع نفسه كمسالم ورافض بشكل قاطع أي مشاركة ألمانية في مهام الحرب. لكن فيما يتعلق بالسياسة الواقعية، كان من الواضح أن المسار معد للمشاركة في الحكومة أيضاً. وظهر جليا بوجوب التضحية بالسلام. كانت المشاركة في الحكومة تعني أكثر من أي وقت مضى الموافقة على العمليات الحربية وأن تلقي بالمبدأ الساري سابقًا “أوشفيتز3 لن تتكرر أبدًا – لن تعود الحرب مرة أخرى”، في مزبلة التاريخ.
لقد كانت صواريخ سكود على إسرائيل فرصة مثالية لعكس المبدأ المأثور: من أجل منع “أوشفيتز” ثانية، على المرء أن يشن حرباً!
الكلب ابننا
كان عمر النظام العراقي أكثر من 25 عامًا، وكان صدام حسين “رجلنا في الشرق”. كان النظام العراقي من الدول العلمانية القليلة في هذه المنطقة. لا يوجد قرآن ولا إسلام، وفوق كل شيء، لم تكن الأصولية الدينية هي المبدأ السياسي للديكتاتورية العراقية، وإنما – عقلية التعاليم الغربية – واعتبارات براغماتية. كما أن النظام لم يكن ثابتًا أيديولوجيًا. لقد مارس التعامل السياسي مع الجميع، سواء أكان ذلك مع الاتحاد السوفيتي أم مع الغرب. الهدف الرئيسي، أن يبدو مفيدًا وخادماً لنظامه الخاص. باختصار، تم تشكيل النظام بالكامل من خلال العقلانية الغربية. قمع المعارضة الإسلامية والشيوعية في بلده، وحظر الحزب الشيوعي وأعدم أتباعه. تعرض نضال الأكراد من أجل الحكم الذاتي، للاضطهاد بجميع وسائل دولة حديثة مستنيرة، وأسيء استخدامه (في الحرب ضد إيران) وتم إحباطه (بمساعدة تنازلات لم تُستبدل، مثل وضع الحكم الذاتي من عام 1970) – أساليب ليست شرقية بالكامل، وهي ليست غريبة “علينا.”
قال خبير الشرق الأوسط في البنتاغون، هوارد تيشر، باختصار: إن صدام حسين يكون “ابن كلب”، لكنه يكون الكلب ابننا.
كل هذه الجرائم العادية المعتادة لهذا النظام العراقي لم تكن، في حد ذاتها أو مجتمعة، سبباً للغرب لإسقاط النظام. على العكس من ذلك: لقد كانت شرطا للتعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري مع “العالم الحر”. كان لصدام حسين مسيرة رائعة، كرجل من الغرب ولنظامه العسكري. عندما هاجم الجيش العراقي إيران في عام 1980، تدفقت الدماء، والقروض، وتدفق النفط، وحقق “الغرب الحر” أرباحاً مبهرة ووفيرة. وكان كل شيء على ما يرام. في حرب الثماني سنوات، لم يقل “الغرب الحر” كلمة واحدة عن إنذار أممي، أو حظر اقتصادي أو حظر أسلحة، أو حتى تهديد بالتدخل عسكريا لإنهاء هذه المذبحة التي كلفت مليون شخص. “الإيرانيون والعراقيون تم اللعب بهم، وضد بعضهم البعض بطريقة ساخرة وعديمة الضمير. كانت النتيجة التي تحلم بها الولايات المتحدة، هي الوصول إلى المأزق أو الطريق المسدود بين الدولتين المتحاربتين في حرب الخليج.
باسم القانون الدولي
من أجل شن حرب، ليس من الحكمة القول بان المرء معتاد على سيطرة العالم – خاصة عندما أصبح الاستعمار في شكله القديم مكلفاً للغاية.
لذلك يجب أن تكون هناك أسباب نبيلة وإيثارية، يمكن للمرء أن يخوض بسببها الحرب، بل ويجب عليه أن يخوضها. ويأتي على رأس هذه الأسباب، إنكار الذات، انتهاك (أي الدفاع) للقانون الدولي، وهو قانون دولي يمثل في الواقع إنجازاً في جوهره المادي.
لم يهتم قادة الولايات المتحدة بشكل عام، بالقانون الدولي كثيراً. لكن الائتلاف السياسي لتحالف الحرب، كان مطالبا بمبرر نبيل – خاصة من جانب حزب الخضر، الذي كان على عتبة المشاركة في الحكم.
هل يوجد تبرير “يساري” للحرب أيضاً؟
لنترك الاِجابة عن هذا السؤال جانباً، إذ أن هؤلاء المسؤولين التنفيذيين اليساريين للقانون الدولي لم يعودوا يستحقون حتى الإشارة إليهم. لا توجد شعوب ممثلة في الأمم المتحدة، بل هي ممثلة لمزيجٍ عاديٍ جداً من الحكومات (المنتخبة) والديكتاتوريات والدمى ــ والأنظمة. بل وحتى حكومات الولايات الـ 150 أو نحو ذلك لديها القليل أو لا شيء لتقوله. لأن الهيئة الحاسمة، لمجلس الأمن، تتكون من كوم غير شرعي من القوى الاستعمارية السابقة (إنجلترا وفرنسا) والقوى العالمية الثلاث المهيمنة (الصين والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي). تملك حق النقض ويطبق – حتى لو انقلب العالم كله رأساً على عقب، أي في هذه الحالة حوالي 150 دولة من دول الأمم المتحدة. ما تبقى هو ميثاق الأمم المتحدة و “نظام الأمن الجماعي” العالمي المتجسد فيه. ويجب طرح السؤال، من أجل العدالة على الأقل، عن سبب عدم مطالبة نفس مؤيدي الحرب بعملية عسكرية للأمم المتحدة ضد تركيا الشريكة في الناتو، التي احتلت جزءاً من قبرص لسنوات، أو ضد المملكة المغربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، التي احتلت منذ فترة طويلة الصحراء الغربية، أو ضد إسرائيل التي احتلت أو ضمت الأراضي المصرية والسورية والأردنية منذ عام 1967؟
أو بتعبير أخر: ما الذي يميز احتلال الكويت، عن الغزو الأمريكي لبنما أو غرينادا (ناهيك عن إجمالي 200 تدخل أمريكي تقريبًا في القرن العشرين)، وقصف المدن الليبية بالمقاتلات الأمريكية (1984)؟ أو من تلغيم موانئ نيكاراغوا (1984) في سياق الحرب غير المعلنة للولايات المتحدة ضد الساندينستيين في نيكاراغوا؟
ما الذي يصنع الفارق في القانون الدولي بين صدام حسين والملك الحسن، أو رئيس الوزراء أوزال، أو رئيس الوزراء بيغن، أو الرئيس ريغان (دون ذكر العديد من أمثال بينوشيت وماركوس وفرانكو)؟ كيف ينجح مدافعو حقوق الإنسان، بإعلان صدام حسين، “عدو للجنس البشري”، و”طاغية شرقي”، بينما “يدافعون” عن مجرمي القانون الدولي الآخرين؟
بينما يبرر معظمهم بإطناب تأييدهم للحرب ضد العراق، لكن عندما يتعلق الأمر بهذه الأسئلة، فإنهم يصابون بصمم ملحوظ وحاد. يمكن أن ينظر المرء إلى فضل أو ميزة هانز ماغنوس إنزينسبرغر4، عندما أوضح في كلمة الحرب (“شبح هتلر”)، التي حظيت باهتمام لافت. في مجلة دير شبيجل الأسبوعية، في 4 فبراير 1991) وأظهر فيها بوضوح، ما هو مهم:
” خلافا لشخصيات مثل فرانكو وباتيستا وماركوس وبينوشيه ونصف مائة من هذا النوع، فصدام حسين لا يهدف إلى قمع شعب وحكمه واستغلاله فحسب، بل ينتمي إلى نوع الحكام المستبدين، الذين يذخر بهم التاريخ. نعم، يحاول المرء أن يقول، إنها طبيعة عَالم الدول، نهجهم الذي يخضع لحساب المصالح وهذا بدوره يمكن التنبؤ به.”
لا يمكن للمرء أن يعبر بشكل أكثر جدارة، عما نطق به إنزينسبرغر3 والعديد من دعاة الحرب اليساريين الآخرين منذ فترة طويلة. التسلط والقمع والاستغلال ليست إعلانات للحرب ضد الإنسانية – إنها تنتمي إلى “طبيعية عَالم الدول”، إلى طبيعته الذاتية. لا يتم احتساب هذه التضحيات طالما “أن الفائدة يمكن حسابها”، لم يعودوا خائفين من هذا النظام العالمي الإمبراطوري، بل من التصور، بأنه يمكن أن يصبح خارج نطاق السيطرة وينقلب ضدهم، أي إلى أولئك المتمتعين بالامتيازات أنفسهم.
صمت مؤيدي الحرب
لم يستخدم حلفاء الولايات المتحدة الدعاية الحربية للقتال في ألمانيا على نطاق واسع فحسب، بل “الجبهة المؤيدة للحرب ” أيضاً: تحدثوا عن “حرب عادلة” ضد “دكتاتور” الذي انتهك الضمانات القانونية الدولية، وأضطهد شعبه بقسوة – وبشكل عام – شكل تهديدا للسلام العالمي. “جزار” لا يمكن القضاء عليه إلا بالملاذ الأخير، “الحرب”، لمنع ما هو أسوأ. أن النقد في صفوف الحركة المناهضة للحرب، بأن حلفاء الولايات المتحدة لا يشنون حرباً “عادلة”، بل حرباً إمبريالية مألوفة، لم يصل بعد إلى دعاة الحرب اليساريين. إن هذه الحرب لم تكن تتعلق بإقصاء دكتاتور ولكن حول استعادة النظام الإمبراطوري في ظل الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية، قد تلاشى في العدم.
التناقض القائل بأن حلفاء الولايات المتحدة لا يشنون حرباً “جراحية” لحماية السكان المدنيين، تمت مواجهته بصور حرب نظيفة التي أتاحها لهم مراقبو الحرب.
ما ظهر من استسلام العراق فاق كل التخمين والمخاوف. فظهر شيئًا فشيئًا، بُعد استراتيجية شن الحرب، الذي يمكن مقارنته بالحرب القاتلة للولايات المتحدة في فيتنام.
من لعبة الحرب إلى “قنص الديك الرومي”
أكثر من 90 في المائة من الحرب كانت عبارة عن مذبحة مروعة: “إذا خرجوا من خنادقهم للقتال، فإن جنود سلاح المشاة سوف يقتلونهم. إذا بقوا في خنادقهم، فأننا نحرثهم وندفنهم أحياء”.
كان لمعظم الأسلحة، ومعظم القنابل التي استخدمت لهذا الغرض، هدف واحد: قتل أكبر عدد ممكن من الأعداء في أكبر منطقة متاحة، وبأقل تكلفة ممكنة.
تماشيا مع هذه الاستراتيجية العسكرية، تم تقسيم المناطق إلى “صناديق قتل” (مناطق الموت)، والتي تم قصفها لفترة طويلة حتى لا يتحرك شيء بعد ذلك: “الجيش العراقي يُذبح، ولم يكن هناك من يساعده إلا صدام حسين”.
حتى انسحاب الجيش العراقي من الكويت المحتلة، وهو الهدف الظاهري لحلفاء الولايات المتحدة، تحول إلى مجزرة. قطعت طرق الانسحاب، ونسفت الجسور: “كان الأمر أشبه بإطلاق النار على الديك الرومي.
سلام مع قتلى أكثر من الحرب
أكد حلفاء الولايات المتحدة ومؤيدي الحرب مراراً وتكراراً، بأن هذه الحرب ليست موجهة ضد السكان المدنيين. لقد استمروا، حتى تحت حماية رقابة الحرب في تكرار هذه الكذبة. إن هذه الحرب، مثل أي حرب أخرى بعد الحرب العالمية الثانية، التي شنت باسم القيم الغربية، تعني التدمير المنهجي للبنية التحتية المدنية لأي بلد. حرب جعلت السكان المدنيين، ليس من قبيل الصدفة، بل عمدا كارثة لسياسة الحرب التي لم تكن تريد كسب الحرب فحسب، بل أرادت قبل كل شيء إملاء السلام. “سلام”، الذي لا يمكن تحقيقه في معظم مناطق العالم إلا، إذا تم أخذ مصالح الغرب في الاعتبار وبأفضل طريقة.
رمزي كلارك، المدعي العام الأمريكي السابق، كان مع فريق تصوير في العراق خلال حرب الحلفاء الأمريكية على العراق. ثم أسس لجنة دولية أعلنت عن جرائم الحرب المرتكبة هناك. في كتابه “عاصفة الصحراء – جرائم الحرب الأمريكية في الخليج” الصادر في ألمانيا عام 1993، يسرد تدمير أهداف الحرب الأهلية التي تم الإعلان عن شرعيتها:
“تعطلت في الساعات الأولى من الحرب، إمداد الطاقة الكهربائية العراقية بأكثر من 90 بالمائة، دمر سلاح الجو الأمريكي أهم 11 محطة كهرباء و119 محطة طاقة أصغر. تعرضت أهم ثمانية سدود في العراق للضرب المتكرر ولحقت بها أضرار جسيمة، تم تدمير أربع، من أهم سبع محطات ضخ. أصابت القنابل والصواريخ 31 محطة لمعالجة المياه العذبة في المناطق الحضرية ومعالجة مياه الصرف الصحي – في بغداد وحدها، كان هناك 20 محطة، كما تم قصف شبكة الهاتف العراقية لتصبح غير صالحة للعمل في الأيام الأولى من الحرب. تم تدمير 400000 من 900000 خط. تضررت أربعة عشر مكاتب للاتصالات السلكية واللاسلكية بشكل لا يمكن إصلاحه، وتعطلت ثلاثة عشر أخرى لفترة غير محددة. في البلد الذي يقسمه نهرين كبيرين، تضرر 139 جسراً أو دمر. تعرضت الزراعة العراقية وإنتاج الأغذية وتخزينها وتوزيعها لهجمات مباشرة ومنهجية. يتم إنتاج نصف جميع المنتجات الزراعية في الأراضي المروية؛ تعرضت جميع أنظمة إدارة المياه المستخدمة لهذا الغرض للهجوم، بما في ذلك السدود والقناطر ومحطات الضخ وأنظمة الصرف الصحي. وتعرضت 28 مستشفى مدنياً و52 مركزًا صحياً للقصف بالقنابل. تم قصف العديد من منشآت الإنتاج: تضررت سبعة مصانع نسيج، بالإضافة إلى خمسة مصانع هندسية ميكانيكية، وخمس شركات إنشاءات، وأربعة مصانع لتجميع المركبات. صناعة النفط العراقية كانت أيضا هدفا ذا أولوية عالية. قصفت الطائرات الأمريكية 11 مصفاة نفط وخمسة خطوط أنابيب ومنشآت إنتاج والعديد من ناقلات النفط. وأغرقت ثلاث ناقلات، وأضرمت النيران في ثلاث ناقلات أخرى. ”
لم يكن الأمر يتعلق بكسب الحرب، بل بإملاء “السلام”. اقتبس رمزي كلارك عن العقيد جون أ. واردن الثالث، الذي حدد استغناء العراق عن التصنيع كهدف واضح لحرب الحلفاء الأمريكيين: “صدام حسين لا يستطيع استعادة إمدادات الكهرباء بمفرده. يحتاج إلى مساعدة. إذا كان تحالف الأمم المتحدة يسعى بالفعل لتحقيق أهداف سياسية، فيمكنه أن يقول: “صدام، إذا وافقت على كل هذا، فسنسمح لخبرائنا بإعادة ترتيب إمدادات الكهرباء الخاصة بك، على المدى الطويل، هذا اسلوب ضغط جيد”.
توصل البروفيسور نعوم تشومسكي إلى نتيجة مماثلة:
“لقد كان للهجوم على أنظمة المياه والطاقة والبنية التحتية الأخرى، نفس تأثير إدارة الحرب البيولوجية تماماً. أن هذا التصعيد ليس له علاقة له بالحرب بتاتاً. كان الغرض من الحرب البيولوجية والهجوم على البنية التحتية هو إيذاء السكان لفترة ما بعد الحرب حتى تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها السياسية في المنطقة. هذا هو الإرهاب الدولي على نطاق هائل”.
لم تكن هذه الحرب تستهدف إضعاف العدو عسكرياً فحسب، بل كانت تستهدف
السكان المدنيين أنفسهم أيضاً؛ تثبت الأرقام الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة، أنه يمكن قتل عدد أكبر من الناس بسلام، أكثر من الحرب نفسها: “تحدثت منظمة الأغذية والزراعة عن مليون حالة وفاة في عام 1995، وقدمت منظمة الصحة العالمية في عام 1996 تقريراً، يثبت بأن معدل وفيات الأطفال قد زاد ستة أضعاف وأن غالبية السكان يعانون من سوء التغذية”.
في السلام استمرار الحرب
لم يعد نظام صدام حسين “ابن الغرب” إلى أسياده. مما أدى ذلك إلى الحرب التالية ــ عام 2003، والإطاحة به وتغيير النظام والضم الفعلي، أي الاستحواذ على آبار النفط لصالح حلفاء الولايات المتحدة.
أصبح العراق منذ ذلك الحين، مشهداً خرباً. عائدات النفط، التي تشكل أكثر من 90 في المائة من الدخل القومي، تتدفق إلى أيدي قلة، كما هو الحال دائماً. الظروف المعيشية أسوأ مما كانت عليه في عهد صدام حسين. لقد انهار النظام الصحي الذي كان من بين الأفضل في المنطقة. الماء والكهرباء والحياة والمستقبل متوفرة لساعات فقط.
يمكن للمرء في العراق، أن يرى إلى أين تؤدي الحروب “العادلة”!. يجب على المرء أن يجعل هذا البرنامج إلزامياً لجميع المؤيدين للحرب ــ بدون حماية بوليسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- Wolf Wetzel, der US-alliierte Krieg gegen den Irak. Ein „gerechter Krieg“ feiert seinen 30. Geburtstag, Nachdenken Seiten, 04 April 2021.
2 – فولف فتزل (مواليد 1956) كاتب وصحفي وناشر ألماني.
3 ــ أوشفيتز أحد معسكرات الاِبادة النازية (الاشتراكية القومية)، حوالي 90 في المئة من المعتقلين كانوا يهود، وتراوح عدد القتلى من 1.1 إلى 1.5 مليون.
4 – Hans Magnus Enzensberger
هانز ماغنوس إنزينسبرغر (مواليد 1929) شاعر وكاتب ومترجم ألماني