أزمة التعليم العالي وفرص المستقبل
أ.د. محمد الربيعي
في فترة أكثر من 60 عاماً منذ تأسيس أول جامعة، لم يتم تطوير نظام التعليم العالي في العراق بأية صورة من الصور وظل يراوح في مكانه فتدهور مستواه ونوعيته مقارنة بالتعليم في دول المنطقة والعالم وأصبح مملا للطلبة. يتضح ذلك من خلال أداء الجامعات في جودة التعليم والبحث العلمي،
وفي الوضع الوظيفي السيئ لخريجيها، وفي سجل الإنجاز الضعيف في تلقي المنح العالمية والجوائز والتقدير والاعتراف العالمي واعتماد البرامج، وفي انعدام تمويل البحوث، وفي ضعف الاهتمام بالمناهج وببيداغوجيا التعليم الحديثة، وضعف اهتمام الطلبة بالتعلّم، وكذلك في ضعفها في التصنيف المؤسساتي (لا توجد جامعة عراقية واحدة في أفضل 500 جامعة في العالم في أي من التصنيفات الرئيسة). وعلاوة على ذلك، فإن وضع الجامعات الاهلية التي تنتج نسبة كبيرة من الخريجين في العراق هو أكثر سوءاً.
أهم الأسباب الشائعة لتردي التعليم العالي هي:
القبول
وفقاً لتقارير مختلفة، فإن نسبة الالتحاق الإجمالية في التعليم العالي في العراق تزداد بشكل غير منضبط، وتعكس حالة التوسع الذي تشهدها الكليات الاهلية وترهل الجامعات الحكومية وسياسة القبول المتخبطة عدداً ونوعاً والخاضعة لضغوط أعضاء من مجلس النواب والممارسات الخاطئة والإجراءات غير العادلة والتميزية والتي لا تكترث لمتطلبات السوق وحاجته وما يكتسبه الطلبة من مهارات وخبرات ضرورية. كما أن انتشار ظاهرة الغش في الامتحانات الحكومية للدراسة الإعدادية وحصول الآلاف من الطلبة على معدلات كاملة يجعل من الصعوبة توزيع الطلبة بصورة عادلة على الاختصاصات الجامعية المختلفة.
الجودة
يعد ضمان الجودة في التعليم العالي من بين أهم التحديات التي تواجه العراق اليوم. ومع ذلك ، لا تركز سياسات الحكومة على جودة التعليم ، وما تزال الكليات والجامعات في العراق غير قادرة على تلبية الحد الأدنى من المتطلبات المنصوص عليها في لوائح الاعتماد الدولي، وجامعاتنا اليوم ليست في وضع يمكنها من ناحية جودة تعليمها من تحديد مكانها حتى بين الجامعات العربية وجامعات “الدرجة الثالثة” في العالم.
التدخل السياسي
إن تزايد تدخل السياسيين من خارج الجامعات وخصوصاً أعضاء مجلس النواب في إدارة التعليم العالي قد أطاح بكل أمل في الاستقلالية النسبية لمؤسسات التعليم العالي وأضر كثيراً بمستويات التعليم فيها. هذا بالإضافة الى انشغال التدريسيين بالقضايا والأمور المعيشية والسياسية في البلد واهتمامهم بالمناصب الإدارية ووسائل الحصول عليها في سبيل تطوير حياتهم المهنية عبر طريق الارتباط السياسي والمهني بالأحزاب الفاسدة.
البنية التحتية والمرافق الضعيفة
تعد البنية التحتية السيئة تحدياً آخر لنظام التعليم العالي في العراق، ولا سيما المختبرات والمكتبات والمرافق الرياضية ووسائل الراحة والترفيه والتي تعاني من نقصها كثير من الجامعات الحكومية والكليات الأهلية خصوصاً.
ويشكّل نقص أعضاء هيئة التدريس في عدد من الجامعات الناشئة وعدم توفر التدريسيين المتدربين في الجامعات الغربية والمؤهلين جيداً والاحتفاظ بأصحاب الخبرة الطويلة من كبار العمر تحديات أمام تحسين جودة التعليم.
البحث العلمي السطحي والزائف
هناك تركيز زائد على بحوث طلبة الدراسات العليا الممولة ذاتياً وهي بحوث سطحية تشوبها المصداقية وذلك بسبب عدم توفر موارد مالية حقيقية للبحث العلمي، فضلاً عن محدودية عدد أعضاء هيئة التدريس المتميزين لتقديم المشورة للطلاب.
معظم الطلبة ليس لديهم خبرة أو معرفة سابقة بالبحث العلمي ولا يحضون باشراف أو تدريب ملائم مما يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على أبحاثهم. علاوة على ذلك، فإن مؤسسات التعليم العالي العراقية معزولة عن العالم وضعيفة الارتباط بمراكز البحث العالمي وضعيفة المعرفة باحتياجات الصناعة المحلية والعالمية وبمشاكل الإنتاج.
هيكل الحوكمة الضعيف
تواجه إدارة التعليم العالي تحديات هائلة نتيجة المركزية المفرطة والهياكل البيروقراطية والافتقار إلى المساءلة والشفافية والكفاءة المهنية. ونتيجة للزيادة في عدد الجامعات والكليات والطلاب المنتسبين، زاد عبء الوظائف الإدارية للجامعات بشكل كبير وتم تحميل الأكاديميين مسؤوليات كثيرة خارجة عن مهمات إنتاج ونشر المعرفة وتسبب ذلك في سوء الأداء في الجامعات.
وبينما تواجه كل من مؤسسات التعليم العالي الحكومية والأهلية المشاكل المذكورة أعلاه تنشغل القوى السياسية في الصراعات السياسية حول الوظائف الوزارية والجامعية بعيداً كل البعد عن أهداف ومهمات التعليم العالي الحقيقية. وأصبحت التعيينات الإدارية في يومنا هذا تخضع لأعلى الاعتبارات الطائفية والحزبية، وأصبحت بالإضافة للفساد الشكوى الرئيسة لدى التدريسيين والأكاديميين.
وبينما تعاني الجامعات الحكومية من نقص كبير في التمويل عمل مجلس النواب وأذرعه الأحزاب والقوى السياسية على ضمان استمرار حاجة الجامعات وفقرها، واستمر التدخل في شؤونها وفرض الإملاءات على الوزارة والجامعات مما أدى الى تخبط كبير في سياساتها خصوصاً سياسة القبول ومعادلة الشهادات وفِي إضاعة فرص منافستها عالمياً في وقت يشكو فيها التدريسيين من انعدام كفاءة وعدالة إدارات جامعاتهم. ويبدو أن إنهاء هيمنة القوى السياسية على التعليم سيكون العامل الرئيس لتحسين أداء مؤسسات التعليم العالي. أما الكليات الاهلية فلا قيمة لها في الإنتاج العلمي الوطني فيما عدا القيمة الحقيقية الوحيدة التي تضيفها هو تخريج أعداد كبيرة من العاطلين كل عام.
الطريق إلى الأمام؟
على مدى أكثر من خمسة عشر عاماً كتبت كثيراً وقدمت العديد من المقترحات ووضعت استراتيجية لإصلاح التعليم العالي بالرغم من اهتمام الأوساط الاكاديمية بها لم يرَ منها التطبيق الا النزر اليسير لذلك لا أرغب في إعادتها كلها وسأحاول التركيز على بعض الحلول الأساسية والتي يمكن اعتمادها في الوقت الحاضر.
تجديد مؤسسات التعليم العالي الحكومية
من أجل أن تتطور الجامعات سيتعين علينا تغيير نظام التعليم الحالي بما يتضمن إلغاء وزارة التعليم العالي ومنح الجامعات استقلاليتها الإدارية والأكاديمية وتأسيس المجلس الأعلى للجامعات ومجلس البحث العلمي وإلغاء أسلوب تعيينات إدارات الجامعات الفوقية والمبنية على المحاصصة واستبدالها بأسلوب ديمقراطي يعتمد على خيارات الهيئات التدريسية، واحترام الحريات الاكاديمية.
ويجب على الجامعات أن تتوصل إلى رؤية وبرامج جديدة تعالج على وجه التحديد مشكلة المناهج القديمة والتلقين واحتياجات الدولة والصناعة والاقتصاد والمجتمع، وعلى أساسها تلتزم الجهات الفاعلة على مستوى الدولة بتوفير الدعم الكامل للجامعات.
التعاون الخارجي
يجب على الدولة تعزيز التعاون بين الجامعات العراقية وأعلى الجامعات الغربية والعالمية وأيضاً إنشاء روابط بين مختبرات البحث العراقية ومراكز البحث التابعة للمؤسسات العالمية لتحسين الجودة والبحث التعاوني.
نهج متعدد التخصصات
يجب أن يكون هناك نهج متعدد التخصصات في التعليم العالي حتى لا تقتصر معرفة الطلاب على مواد الاختصاص وإنما يجب ان يشمل تعليم المهارات واللغات وأخلاق المهنة.
تطوير التعليم الاهلي
توسع التعليم العالي الأهلي في العراق بسرعة كبيرة في العقدين الماضيين ورافق هذا التوسع تدهور الجودة وفساد المؤسسات، فاذا أراد العراق تحسين هذا القطاع فما عليه إلا جعل التعليم الأهلي غير ربحي وكما هو عليه في مختلف أنحاء العالم فلقد ثبت أن الربحية هي أساس فساد التعليم. كذلك يجب أن تكون مؤسسات التعليم العالي الأهلية بعيدة عن الانتماءات السياسية وتُدار من قبل هيئات إدارتها وليس من قبل المستثمرين وأن تكون هياكلها مزودة ببنيات تحتية ومرافق جيدة.
أخيراً، إذا كان العراق يريد حقا أن يحقق تنمية اقتصادية واجتماعية، فإنه بحاجة إلى الاستثمار في رأس المال البشري والعائد من التعليم وزيادة الإنفاق على تطوير قدرات ومهارات ومواهب أساتذة وطلبة الجامعات العراقية.