“روميو وجوليت”
(مغزى الحب عَبر لُعبة الضوء والعَتمة)
لندن: علي كامل
اثنا عشر ممثلاً، خمس سكاكين مغروزة على خشبة المسرح، سُلّم مصنوع من الحبال يتدلى من شرفة جوليت، سريرٌ أبيض بمثابة غرفة جوليت تمَّ توظيف قضبانه لتكون شرفتها مرة، وقضبان سجن مرة أخرى.
هذه هي كل مُعّدات عرض المخرج التجريبي نِل بارليت لمسرحية شكسبير “روميو وجوليت” على خشبة مسرح (Lyric) في ضاحية Hammer Smith غرب العاصمة لندن.
***
مسرحية “روميو وجوليت”، رغم خاتمتها المأساوية، هي على الأرجح، أعذب قصة حب على مرّ العصور.
كتب شكسبير هذه المسرحية عام 1595 قبيل سلسلة مآسيه وكوميدياته الشهيرة، مقتبساً ثيمتها من القصيدة الطويلة “روميوس وجوليت” التي كتبها آرثر بروك عام 1595، بعد أن حوّرها وأضاف اليها شخصيات أخرى من مخيلته. فمركوثيو، الشخصية المحورية في نص شكسبير مثلاً، لم يكن له وجود في نص آرثر بروك، فضلاً عن بناء الحبكة وحوارها الشعري.
لم يتكئ المُخرج نِل بارتليت على الطبعات السائدة لنص روميو وجوليت، إنما اعتمد على نسختين إحداهما (Qood Quarter)، وهي النسخة غير المكتملة من مخطوطة شكسبير الأصلية. أما الثانية فهي (Bad Quarter) التي استندت إلى ذاكرة اثنين من الممثلين كانا قد قدّماها مباشرة بعد كتابة شكسبير لها.
ما فعله بارتليت، المُخرج، هو أنه مازج بين النسختين بعد أن أقصى كل ما بدوره أن يعوق العمل الجسدي للممثل على خشبة المسرح، محاولة منه تأمّل الاستجابات الراهنة والمعاصرة لممثليه لغرض اقتفاء واكتشاف ما تبقّى لاستكمال النص الأصلي.
تقنياً، اعتمد المخرج على عنصرين رئيسين وهما طاقة الممثل الجسدية والصوتية أولاً، ثم الإضاءة ثانياً. أقول الإضاءة، لأن بارتليت يرى أن المسرحية تعالج موضوع (الضوء) أكثر منه موضوع (الحب).! وسآتي على بعض الشواهد التي تؤكد هذه الرؤية أو هذا التأويل.
في كتابها (استعارات شكسبير) تقول الناقدة البريطانية كارولاين سبارجر (ص310) “إن الاستعارة المهيمنة في مسرحية (روميو وجوليت) هي الضوء وأي شكل أو مظهر له”.
وليم شكسبير، في هذه المسرحية، يستخدم الصور المضيئة والمعتمة طوال الوقت لتوصيف العنصر الرومانسي
وتماهيه بين عاشقيه، روميو وجوليت. هاتان الاستعارتان المتضادتان في الشكل والمحتوى يتم استخدامهما
بتواصل طوال المسرحية، وكل توظيف له دلالة مختلفة نوعاً ما بالطبع.
إنَّ صورة الضوء والعَتمة تلعب هنا دوراً مهماً في خلق الفضاءات التي تحلّق فيها مشاعر الحب والتلميحات التي تُنذر بالمصير القادم لها.
يستهلُّ شكسبير استخدامه للضوء، كمجاز، في مشهد “حفلة الرقص” التي تقام في قصر كابوليت (الفصل الأول/ المشهد الخامس) والذي يمثل اللحظة التي يقع روميو وجوليت أحدهما في غرام الآخر في باحة الرقص.
حين يلتقي روميو بجوليت لأول مرة يُشّبهها على الفور بالضوء المتوهج في المشاعل التي تنير ذلك القصر، أو بالضوء الذي سيحرّره من أسر سوداويته المستديمة. أو قوله: “ارتفعي أيتها الشمس الصافية وبددّي حسد القمر وغيرته”.
أما في مشهد الشرفة الشهير، فيشبّهها بضياء الشمس: “إنه الشرق وجوليت هي الشمس” أو “إن إشراقة خدها يُخجِل تلك النجوم، مثلما يُخجِل النهار ضوء المصابيح”.
وفي مكان آخر يقول روميو: “أوه، إنها تُعلّم المصابيح أن تتّقد أكثر. إنها تبدو وهي معلّقة على خدّ المساء، مثل
جوهرة أنيقة معلّقة في أُذن أثيوبي”. أو يصفها في مكان آخر أنها “مصدر للضوء، مثل نجمة في العَتمة”.
جوليت، في المقابل، تُشّبه حبها الجديد بصورة البرق، للتشديد على وتيرة السرعة التي تعدو فيها رومنسيتهما،
تماماً مثل سرعة وميض البرق. وصورة البرق تشي بالضوء اللامع الخاطف في عتمة السماء ليلاً، وهو الآخر استعارة لحبهما الذي هو بمثابة ومضة خاطفة من الضوء في عالم مظلم ومختلف، حيث كل ما يمكن لجوليت أن تفعله أمر متحكَّم به من قِبَلِ إرادة المحيطين بها.
حين لا تصل مربيّتها بالسرعة الكافية بأخبار عن روميو، نسمع جوليت تندب قائلة: “إنَّ بشائر الحب ينبغي أن تجري بسرعة أسرع بعشرات المرات من أشعة الشمس، دافعة الظلال إلى الخلف فوق التلال الخفيضة”.
بشائر الحب التي ستجلب معها أخباراً مطمئنة عن حبيبها روميو، يقارنها شكسبير بأشعة الشمس السحرية التي تدفع الظلال غير المرغوب بها إلى الوراء.
وهكذا يتبادل الضوء والعتمة موقعيهما بين الحين والآخر طوال العرض. تجاورهما الدائم والمتوتر هو رديف
للتطرف العاطفي الذي يشعر به هذان العاشقان أحدهما نحو الآخر. فروميو وجوليت يعيشان حالة حب متطرفة، وهذا التطرف نجده مجسداً في مغزى عنصريّ الضوء والعَتمة. فإما الضوء الذي يغشي العيون لحد العمى، أو العَتمة الخالصة.
هذا الاستخدام المتواصل لهذين النقيضين، الضوء والعَتمة، يُوظَّف هنا أيضاً كوسيلة للكيفية التي يمكن للحكاية أن تجري أحداثها بسلاسة دون أن يتحكّم بها أو بنتائجها أحد. ولكن، مع ذلك، حين تتأمل نوعية صور الضوء
(ضوء أعمى أو مسبب للعمى)، أو (ضوء متفجر يغشي العيون)، تُحس بتلميح يشي بأنَّ العَتمة والحزن اللذان
سيأتيان لاحقاً ينبغي أن يتوازيا مع سعادة غامرة كهذه، تماما مثلما تتعارض الاشراقة والعَتمة لجعل الضوء أكثر توهجاً والعَتمة أكثر سواداً.
وهكذا فإن صورة العَتمة والضوء لروميو وجوليت تجعل الأوقات السعيدة تبدو جميلة إلى أبعد الحدود ولحظات الحزن أكثر مأساوية.
ومع ذلك، ورغم كل إشارات البهجة والتفاؤل المشار اليها لصور الضوء، إلا إنه يتخذ في نهاية المطاف دوراً مشؤوماً ما يجعل العاشقين مرغمين على الفِراق عن بعضهما بسبب بزوغ ضوء الفجر:
روميو: إنها القُبّرة، بشائر الضُحى. لا وجود للعندليب. أنظري يا حبيبتي أي شرائط ضوء حاسدة. اربطي تلك
السُحب المتفرّقة هناك في الشرق البعيد، شموع المساء أُطفئت والنهار المرح يقف على أصابع قدميه في قمم الجبال الضبابية. ينبغي أن أغادر أو أبقى لأموت”.
تكرار صورة الضوء والتركيز عليه بشكل متواصل تُنذرنا أيضاً بحلول صورة ضديده، ألا وهي العَتمة، التي
هي بمثابة مجاز للمأساة التي ستتبع لاحقاً، لأننا نعلم جيداً أن سعادة كهذه لا يمكن آن تتحقق دون ثمن.
من جانب آخر، حين تحلّ العَتمة بدل الضوء، تستقبلها جوليت برحابة وسرور دون خشية، فهي، أي جوليت، تعلن أن المساء يمكن أن يأخذ روميو ويشطره إلى نجوم صغيرة ليجعل وجه السماء أكثر جمالاً، حينها سيكون
العالم كله في حالة حب مع المساء، وسوف لن تؤله الشمس.
روميو يتحول هنا، من وجهة نظر جوليت، على الأقل، إلى سرمد متلألئ ليصبح الصورة الحقيقية للضوء، بل أكثر ألقاً من الشمس ذاتها.
المعالجة الإخراجية سعت إلى خلق إيقاع سريع وعنيف للعرض يتماهى وإيقاع العنف والتطرف الذي تجري فيه مشاعر الحب عند هذين العاشقين، والتي ستُثمر، بذات الوتيرة، القوة المُهلكة لذلك العشق. وجب إذاً، أن يكون الفضاء العام، وفق هذه الرؤية، حاداً متوتراً مشحوناً بالعنف والتحرر الجنسي لغرض أن يتقاطع الشعر
الشكسبيري العذب والمفعم بدمٍ حار بوميض السكاكين وصخب موسيقى الشارع الإيطالي التي كانت تُعزف بشكل حي على خشبة المسرح برفقة أداء الممثلين.
روميو وجوليت، في الواقع، هما عاشقان مثاليان، إلا إن الشِعر الصافي وفتنة الملامح ليسا كافيين لخلق حالة حب. لهذا لابدّ من الكشف عن الجانب المخفي والضديد من الصورة، ألا وهو الكذب والخداع والمناورات المخبئة في طيات متن النص الشكسبيري، حيث النسوة يتنازعن وفقاً لما يتوافق ورغباتهن، فجميعهن يسعين للزواج كي يصبحن أمهات أو مربيات، وما إلى ذلك. أما الذكور فهم يتقاتلون من أجل احراز كل شيء، لعلَّ إخضاع النساء هو مطلبهم الأول، وهذه حقيقة سواء كان هؤلاء الذكور مراهقين أو آباء أو كهنة.
الشرارة التي يطلقها العرض هي حين يُظهر امرأة واحدة وسط كل ذلك المجتمع النسوي المحافظ آنذاك تقف لتتحدى كل تلك الأعراف برفضها أن تكبر لتصبح صورة من أمها، أو لتتزوج وفق قواعد يرسمها لها ذويها.
تمرّد جوليت وغضبها ضد مجمل الأعراف، وهي بهذه السن، وبهذا الشِعر الشكسبيري العذب وهو ينساب من حنجرتها، نلمسه في توسلها للمساء في (مشهد الشرفة) في أن يشق روميو طريقه صوب النجوم الصغيرة كي يزّين وجه السماء، تجعل من روميو يبدو لنا شيئاً أثيرياً: “إنه سيجعل وجه السماء فاتناً.. وسيصبح العالم كله هذا المساء في حالة عشق”.
هذه النقلات وتلك التحولات السريعة في عواطف جوليت جسدتها الممثلة إيميلي ووف بشكل يمكن يلامس
إحساس المتفرج لكن لا يمكن وصفه. أما الشخصيات الذكورية فبتحدياتهم المرعبة ومبارزاتهم العنيفة بدوا وكأنهم أشبه بخيول حُرّرت تواً من زريبة إيطالية.
تدفق أماكن الأحداث على خشبة مسرح عارٍ هو إحدى سمات هذا العرض: الشارع عند الظهيرة، أشجار البستان تحت ضوء القمر، قاعة الرقص، المقبرة. كل هذه الأماكن لم يتم تجسيدها بهيئة ديكورات وإكسسوارات تقليدية، إنما تم إنجازها عَبر مخيلّة الممثلين وتشكيلات أجسادهم وعَبر عنصر الضوء ضمن إطار فضاء خالٍ. ونِل بارليت، المُخرج، يعرف ما يريد ولديه وجهة نظر في هذا الشأن تتلخص في أن تغيير الديكور والملابس من حين لآخر عبر فصول المسرحية يُفسد سيولة تدفق الأحداث ورشاقتها فلا بأس بمسرح يخلو من ديكورات أو إكسسوارات.
الممثل ستيوارت بانس (روميو) وإيميلي ووف (جوليت) كلاهما بدا عنيفاً وشكساً، ربما بسبب أن حكايتهما تدور حول عاشقين متفائلين ميالين للجدل والكذب أحياناً ويسعيان لإحراز ما يريدانه. فقد كانا يمارسان سلوك العشاق
كل على حدة، بشكل منفرد ومنعزل.
ستيوارت بانس (روميو) بدا أشبه بدمية أو ألعوبة.. شاب ﭬيروني طائش ونشيط على الرغم من جاذبيته وفتنته
وشجاعته. أما إميلي ووف (جوليت) فقد كانت صغيرة وفاتنة رغم أنها ستتحول فيما بعد إلى نمرة مسعورة.
بعنفها وعواطفها المشبوبة وهي تجسّد هذه الشخصية ذكرّتنا بالممثلة أوليفيا هاسي التي لعبت نفس الدور في فيلم “روميو وجوليت” للمخرج الإيطالي زيفيرللي عام 1968، إلا أن ووف أظهرت طاقة أداء تفوق طاقة هاوسي بعشرات المرات.
روبرتا تايلور، الممثلة التي أدّت دور المربّية، وهو دور أساسي وجوهري في المسرحية، استطاعت أن ترفد العرض بدفء وحنو عاطفي بدندنتها الشجية الشبيهة بدندنات دورز داي، وهو ما كان يبعث الطمأنينة في روح جوليت التي هي بالنسبة لها بمثابة ابنتها الثانية.
أما أكثر الشعر انسياباً ورّقة فقد جاءنا عبر حنجرة الممثل ديفيد فوكسي الذي قام بأداء دور الكاهن فراير، العجوز الحنون الشبيه بخيمة دافئة.
هذان النموذجان البديلان للأم والأب الحقيقين تجسدا حقاً في هاتين الشخصيتين، الكاهن والمربية، حيث ظهرا وهما يفيضان بالمحبة والحنو والشجاعة، على الضد من والدي جوليت، كابوليت وزوجته، اللذان ظهرا عنيفين، مستبدين، يفتقران إلى أبسط مواصفات الأمومة والأبوّة.
إن موت جوليت وهي في مقتبل العمر ليس جديداً على كاتب مثل شكسبير، فجُّلَّ عاشقاته يلقين حتفهن في
النهاية وهنَّ في مقتبل العمر. فدزدمونة (عطيل) وكورديليا (الملك لير) تموتان قتلاً، في حين أوفيليا (هاملت) وجوليت (روميو وجوليت) يخترن الموت انتحاراً خلاصاً في النهاية. إنهن جميعهن عاشقات ومعشوقات أو مؤهلات للحب، أما جوليت فهي الحبّ نفسه.
المُخرج نِل بارتليت يقول: “أنا متحمس جداً بحقيقة أن هذه المسرحية، على وجه الخصوص، تجتذب دائماً الكثير من الناس سواء من الشبيبة الذين لم يروا مسرحية شكسبير هذه من قبل، أو أولئك الذين يعرفون هذه المسرحية ويحبونها كواحدة من أفضل القصص المكتوبة حول كيف يمكن للعالم أن يتآمر لتقويض كل ما هو جميل ومشرق”.
إنَّ معالجة إخراجية تجريبية مبتكرة كهذه أضفت نكهة معاصرة إلى النص الإليزابيثي حقاً وذلك من خلال التشديد على فكرة الصراع من أجل إثبات الذات والتوق إلى فضاءات الحب والحرية عَبر لعبة الضوء والعَتمة.
***