مثقفون: ما أنجزناه نوعاً من التشبث بالذاكرة وبديلاً عن وطن
هل وجد مثقفونا في غربتهم الحقيقية فضاءهم الإبداعي ومستقرهم؟
علاء المفرجي
تعرض المثقفون العراقيون على مدى الخمسين عاما المنصرمة للنفي والتهجير القسري، بسبب القسوة والقمع الذي مارسته الأنظمة التي حكمت العراق منذ 1958 وحتى الان، لكنهم استمروا بابداعتهم التي توزعت بين الشعر، والراوية، والادب، والتشكيل، والموسيقى.. والتي تضوعت بعبير المنفى، فكانت نتاجاتهم تشير على الدوام لهذا النفي، وأماكنه، فهل وجدوا في غربتهم الحقيقية فضاءهم الإبداعي ومستقرهم، وهل أضاف المنفى شيئا لابداعهم، وهل اسهم ذلك في تطوير تجربتهم الأدبية والفنية.. وما علاقة مكان المنفى بذلك.
أسئلة طرحناها على بعض مبدعينا الذي قاسو ألم الغربة.
الروائي برهان الخطيب
عندما عدت إلى موسكو بعدها بجواز سفر مزيف إلى ولدي، آخر في الطريق يخبرني غائب فرمان قادما إلي هو الذي لا يسافر، حاملا رسالة من الثانية، يشجعني على العودة بأي طريقة، أحمل مخطوطة ليلة بغدادية بيدي جواري متخوفا فقدانها تاركا حقيبة سفري إلى بقية حقائب المسافرين، في مطار الوصول تختفي الحقيبة، سرقت فعلا، عوضتني الإدارة عنها 400 روبل ما يعادل ثمن ترللي، معها أفقد مخطوطة أخرى (أزهار الأسفلت) الحاصل تنجو مخطوطة (ليلة بغدادية) التي أبقيتها في كيس بيدي لأعود إليها استكمل بناء عمارتها الفنية. في موسكو البريسترويكا التغيير على أشده، أعمال تتهاوى غيرها تقام، صارحت دائرة الهجرة الجواز مزيف، مديرها قال لم أسمع هذا، نصف عام في بيت الثانية، قبل الولادة انتقل إلى السويد على عزم العودة لاصطحابها، هكذا أفعل، في مطابع دار النشر التي عملت لها سابقا، أتمكن من نشر الرواية مع غيرها تحت اسم دار جديدة (أوراسيا) أسستها في ستوكهولم، في موسكو أرادوا وقتها تسمية الاتحاد الفدرالي الروسي الجديد إتحاد أوراسيا، لكن تسمية دار النشر الجديدة تبعي أبطلت الفكرة قالوا لي، عموما أخبرني أيضا محررون هناك أن الانتقال من النشر السوفييتي الصارم إلى الليبرالي الجديد بدأ مع كتبي عارضين طبع المتوفرة معي بأعداد كبيرة في أفضل إخراج مقابل مبالغ معقولة، بيعت في ذات معارض دار النشر السابقة وغيرها حسنا، أحد المترجمين نقل لي أنه لم يدخل بيتا هناك فيه قارئ بالعربية إلاّ وشاهد تلك الروايات أو بعضها على رفوفهم. نقلت منها إلى ستوكهولم عددا محترما في رحلة متوترة أيضا حصيلتها رواية أخرى (غراميات بائع متجول) طبعت في مصر.. ابني الأصغر ليث يلومني: تصرف من وقتك على كتبك أكثر مما علينا. الأكبر حسن يخزره بغضب.. يلتفت إلي.. يفهم مني: لا ترد عليه.
الشاعر غريب أسكندر
لم أشعر في لندن بالغربة شعرتُ أكثر بالوحدة كحالي عندما كنت أعيش ببغداد! الوحدة هي منفاي والحبّ هو وطني الحقيقي. وبالطبع لم يكن الأمر سهلاً في البداية لا سيما فيما يتعلق بأجواء الكتابة وآلياتها فقد أخذ الأمر مني وقتاً وجهداً كبيرين حتّى أتلائم مع المكان الجديد الذي أصبحت لي فيه طقوس خاصة. فبعد تَطْواف في بعض البلدان العربية والأوربية قررت الذهاب الى لندن. كان الأمر بالنسبة لي محسوماً كنت أقرأ عن لندن وأعرف بعض الأمكنة والأهم من ذلك هو رغبتي الشديدة في التعرف على الثقافة العالمية عبر لغتها الكونية، الإنكليزية. ولندن مدينة ثقافية عالمية بامتياز يحتاج المرء فيها الى «أعمار» تضاف الى عمره كي يستطيع أن يحضر بعض ما يجري فيها يومياً من أماسيات ثقافية وعلمية وفنية. فمثلاً، تحتاج الى أكثر من زمنك الحقيقي حتى تستطيع متابعة ما يحدث من مؤتمرات وندوات في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) بجامعة لندن حيث درستُ ودرّستُ وأن تشاهد مثلاً البرنامج الثقافية على إحدى قنوات بي بي سي. هذا غير المتاحف والصالات الفنية والمسارح والسينمات… الخ. ويمكنك ان تتخيل أن الشاعر والكاتب الإنكليزي الشهير صاموئيل جونسون (1709-1784) قال “عندما يتعب الإنسان من لندن، فإنّه يتعبُ من الحياة؛ لأنه يوجد في لندن كلُّ ما تحتاجه الحياة”، كان هذا في القرن الثامن عشر فما بالك اليوم!
وفي خضم ذلك، كنتُ أبحثُ عن مفتاح ذاتي “الخاص” الذي يقدمني لهذا العالم، كانت مغامرة كبرى (كثيراً ما فشلت في خطواتها الصعبة)، كنتُ لا أريد أن أدخل من أبواب “عادية” لكن ما العمل عليَّ أن أحاول وأحاول لا يأس مع الشعر “ايماني” الذي دائماً ما كان ينتهي بي الى المتاهة! لا أقل منها “التخريب” الحياتي كما عبر ت. س. أليوت عمّا صنعه الشعر به.
ولذلك كان دائماً ثمة شيء غائب؛ شيء ما ينقصني أشعر إزاءه بحيرة وفراغ يطفئ أحياناً كلَّ هذا الكرنفال العظيم من الضوء! تُعمّق هذا الفراغَ الوحدةُ. ففي الغرب ترى الناس متجاورة في “الواقع”، لكن في “الحقيقة” يعيش كلٌّ منهم في جزيرة نائية! ليس هذا ما يشعر به الشرقيون فقط، بل كذلك الغربيون لذلك لا تخلو أحاديثهم الرسمية وغير الرسمية من الحديث عن الوحدة ومشكلاتها. ومكانياً، ما زلت أشعر بـ”الضياع” في هذه المدينة الكبيرة، وأعتقد هذا مهم بالنسبة لي كشاعر، ودائماً ما أشعر بأنني أعيش في “وطن ثالث” ليس وطني الأم، ولا وطني البديل. وفي “لغة ثالثة” ليست لغتي الأم، ولا لغتي الثانية. أن تعيش “المنفى” يعني هذا أنّك تظل تعيش في شيء “ثالث” وفي ثقافة ثالثة يوصم بها حتى احفادك. وأعرف تماماً أنّ تعيش بأكثر من لغة وأكثر من وطن وما يشكل لك ذلك من غنى وثراء، لكنّ ما يشهده العالم “المتحضر” من عنصرية وكراهية للآخر المختلف عنه تؤكد نظرتي “المتشائمة” خصوصاً بعد الإبادة الجماعية في غزة.
التشكيلي أديب مكي
بلا شك. فالمشاهدات والمعارض والمتاحف والمحاضرات الثقافية. التي حضرتها في البلدان التي زرتها اميركية ام أوربية ام عربية لها تاثيرا كبيرا على اغناء تجاربي. تخيل انك أمام لوحة على الطبيعة، بعد أن رأيتها مرارا، في كتب الفن ومجلاته.
اي متعة هذه وآية فائدة و اي انطباع يتشكل عندك لدى اي عمل فني تقوم به. هو شيء غير ملموس لكنه هام ومؤثر وبين.
الشاعر باسم فرات
لا شك أنني بدأت بكتابة الشعر مبكرًا كما ذكرت مرارًا، لكن ثلاثين سنة من النفي والترحال والغربة والتنقل، والأهم هو شغفي المعرفي الذي قادني إلى أن أنغمس في تلك الثقافات والمجتمعات وأتصالح مع المدن والأمكنة، كل هذا اختمر في داخلي وخرج قصائد تختلف في كثير منها عما كتبته في العراق والأردن وبداية وصولي إلى «زي الجديدة»، يمكنني الزعم أنني من الذين تمثل نتاجهم الشعري والنثري المنفى على نحو جيد وعميق، لأني تصالحت مع الأمكنة وصرت أكتب عنها بوصفها جزءًا إيجابيًّا وليس سلبيًّا، لكن هذه المرحلة سبقتها مرحلة الشكوى والتذمر من المنفى والمكان الجديد، والحنين القاتل للمكان الأول، وكانت كوابيس الحروب والطغيان تلاحقني، وكنت أدوّنها شعرًا لأتخلص منها، لكنني خشيت أن أصبح ضحية هذا الحنين والشكوى والتذمر، فتتلاشى الدهشة في شعري، وتصبح قصائدي عبارة عن قصيدة واحدة مكررة تُكتب بطرائق شتى، ويعرفها المتلقي قبل قراءتها وتصبح توقعات القارئ عنها دقيقة، وهذا هو الفشل الكبير الذي خشيت أن أكون ضحيته، فحولت خشيتي إلى فعل حين رحت أستثمر المنفى إيجابيًّا كما ذكرت في بداية الجواب في أعلاه.
لا أبالغ إذا قلت إنني كرّستُ حياتي للشعر، وأن حلم طفولتي الأول والأكبر هو الشعر الذي ما زلت أعمل على تحقيقه، حتى أصبحت معظم «نِعَم الحياة» عندي هامشية، وكم تعرضت للغُبن بسبب انغماسي بالشعر، فمن بديهيات قبولك العمل أن تسأل عن الأجرة التي ستتقاضاها، بينما أنا لم أسأل يومًا هذا السؤال، وعملت في شركة تصوير لسنوات، ولولا أن سألني صديق عراقي مصور أيضًا عن راتبي وحين أخبرته استغرب تمامًا، لاكتشف أن الموظفة التي أنا مديرها راتبها أعلى من راتبي.
هذا كما أرى سببه أن لا بوصلة لي سوى الشعر، فالشعر قادني لعوالم الدهشة والسفر والترحال والقراءات، مثلما قادني لأن أتعرض لغبن حقي في أغلب أماكن العمل التي عملتُ بها، سرقني الشعر من أن أكون أبًا، وأن أكون ناجحًا في عملي، لكني أعترف أن الشعر الذي أخلصت له لم يخذلني يومًا، الشعر هو الغاية التي من أجلها يصبح كل شيء وسيلة، إلّا أشياء معدودة وأعني الإنسانية والإيمان المطلق بوحدة التراب العراقي والدفاع عن اللغة العربية بوصفها اللغة الأولى. الشعر بوصلتي الوحيدة نحو فضاءات المعرفة والترحال والانغماس بثقافات الشعوب والانغمار بالتنوع البيئي الذي يغذي الـمخيّلة
الفنان عبد الكريم سعدون
لاشك بأن لدينا موروثا في الرسم يعتد به وفي العراق لا يمكن تناسي تجربة الواسطي وملامحها واعتقد ان الفن العراقي لازال خاضعاً لمؤثرات الرواد من جواد سليم الى شاكر حسن آل سعيد وصولا الى كاظم حيدر واسماعيل الترك والمرجعيات التي اسسوا لها بالاضافة الى تأثيرات الدعوات الواسعة الى العودة الى التراث الثقافي العراقي والعربي عموما وبأعتقادي ان الفنان الحقيقي يجب ان يكون ابن عصره فالرواد كانوا معاصرين ايضا ولهم همومهم الفنية والفكرية، ولا اخفيك فأنا كنت شديد التعلق بالمرونة التي يمنحها الخط المنحني للشكل ولكن ادراك ان الامر يجعلني اقف عنده بشكل دائم يبعدني عن العيش في عصري، كان لدي تطلع لمزيد من التجريب وتقبل الجديد وكما تعرف ان الرسام ينتج في ظل قواعد واحدة في اي مكان، لان الاساليب التي تلتزم القواعد الموروثة في انتاج الفن التشكيلي والتي استنفدت أدواتها بفعل التغيرات الجديدة، لم تعد تزخر بالكثير من المرونة والحيوية والحرية في التعبير واصبحت تحدُ من امكانية تحليق الفنان في أُفق جديد، فالرسم لم يعد هو الاختلاف وانما الكيفية التي يُنتج بها، واصبحت التأثيرات المتبادلة تتعزز أكثر ووصلت الى بقاع مختلفة، ان المشكلة تكمن في أن المركز سبقنا بمسافة طويلة فهو الذي يحدد المسارات ويرسخها، والفنان العراقي يمتلك بالأساس اولويات الانتاج وله تجربته ولكننا نحتكم كثيرا الى الدرس الاكاديمي ونتردد في قبول التمرد بسهولة واقصد ان تقويض قواعد انتاج الفن لا تجد لها تقبلا يسيرا ونربطها باستمرار بتشكلات الهوية ولا توجد قواعد تلقي متزامنة واي محاولة للخرق تصطدم بمصدات تعوق ذلك، هذا الامر يشكل ازمة في المكان الجديد فمن تجربتي الشخصية انني وجدت من خلال المتابعة للعروض الفنية مثلا ان هناك انواع فنية متعددة تجدها منتظمة في بنية عمل واحد بانسجام تام في الوقت الذي كنت افرزه في داخلي وينتابني شك حوله الا ان الوعي بأسباب ذلك دفعني بقوة الى اشهار تفكيك البنى التي اشتغل عليها والانتقال الى قواعد جديدة لا تؤطرها حدود ولا تحد من انطلاقتها باتجاه الجديد لذلك اتجهت بأدواتي الى النهل من تلك الحرية التي توفرت لي والتفكير بتجريب اشتغالات لم تكن موجودة سابقا وهذه الانطلاقة الجديدة هي من تأثيرات المكان الجديد بكل تأكيد، فأصبحت التحولات في النتاج الفني لدي حادة وسريعة ومختلفة على صعيد الشكل الذي امتلك سمات اكثر قربا للتبسيط عبر انزياح للكثير مما يثقل وجود العلامة في متن العمل الفني وبؤرته كما اصبح الفضاء المحيط بما يؤثث العمل أكثر اتساعا، الا انني تلمست ان السطع التصويري اصبح اكثر تعقيدا ويحتاج الى معاينة عن قرب للتأكد من الكثير الذي يحتويه خصوصا ان التراكم فيه شكل طبقات متعددة ومتراكبة وهذا ما استطيع القول فيه انه شكل ملامح اسلوب متحرك فيه الكثير من الدراية التي مصدرها القلق والحرص والايمان بأن التوافقات الشكلية على سطح اللوحة تفتح آفاق المخيال الى مداها وتحاول تعريض قواعد التلقي الى هزة لتقبل الجديد والتفاعل معه بصريا. فظهر الملمس الخشن والاختزال في الشكل والتقشف باللون يشغل سطح العمل ويتسرب الاحساس بالاهتمام بتوزيع حر للمفردات ويبدو الامر وكأنها تطفو في فوضى السطح وهذا الامر اثار انتباه الناقد الفنان خضير الصالحي الى القول بأنني استعير من قصيدة النثر قواعد اشتغالها، هناك تعدد في الانواع الداخلة في تعالقات مع بعضها البعض فيجد المتلقي بالإضافة الى طريقة الرسم والاشكال التي تبتعد عن القاعدة وتقترب من التشكيل الحر للشخوص ما اسميته تنوعا لذيذاً لان المراجعات الضرورية للتجربة ومعاينتها باستمرار بينت لي الحقيقة التي تكمن في ضرورة تفكيك قواعد الأمس التي اصبحت هدفاً للاشتغال الجديد ففيها وضعت كل اشتغالات الأمس التي تحتوي طاقة التعبير في الرسم والنحت والغرافيك والكاريكاتير والتصميم في عمل واحد. ومع ذلك فأن الاعتراف ضروري بأن ظلال من المنمنمات والواسطي تحديدا لازلت اجدها في سطوح اعمالي وكأن منظور العنقاء كما يسميه الفنان أسعد عرابي هو الذي يهيمن على بنيتها.
المسرحي فلاح هاشم
المنفى نعمة و نقمة. ففي الوقت الذي تبتعد قسرا عن محيطك و جمهور بلدك الذي لن يعوضك عنه جمهور مهما كان و في الوقت الذي ينخر عظامك و روحك الحنين و الشوق للأهل و الأصدقاء و الأماكن تنفتح أمامك فرص الاطلاع على ثقافة مجتمعات اخرى فتتسع رؤيتك للحياة و العالم من حولك و العلاقات الانسانية بمفهومها الواسع.
الغربة شيء لا يوصف.. و انما يُحس فقط. شأنه شأن السعادة و الحب و الشوق. شيء غير مرئي لكنه احساس لا يعرفه الا من يعيشه. تمشي و تؤكد و جودك و تختلط و تتعلم و تشاهد و تختزن لكن شيئا ما يبقى مخلوعا في اعماقك.. ثمة نقص تحسه في داخلك.. روحك تثرى لكن كل شيء ناقص. هكذا تحس. أتذكر أن الناس في بغداد كانوا يستوقفونني في الشارع يتساءلون عن عمل قادم بعد أن يبث اي عمل لي. فأرى في عيونهم دفقا من الحب و التقدير الذي يدفعني لأن اجلس في المكتبات العامة شهورا من أجل ان الم بمصادر عمل جديد.
انت في اي مغترب جمهورك هو عبارة عن جالية.. بل الفئة المهتمة بالمسرح مثلا من تلك الجالية. بنما اتذكر ان مسرح بغداد كان ممتلئ يوميا بالمشاهدين القادمين من المحافظات حين أخرجت مسرحية (مهنة جذابة) مثلا وانقطعت الكهرباء في اول خمس دقائق، و كان عندي الفنان عزيز خيون الذي استمر بصوته الجهوري في أداء دوره في الظلام، و الجمهور لم يتحرك من مكانه رغم الحر الشديد فتقدمت انا من آخر القاعة لأضيء بمصباح يدوي وجوه الممثلين، حتى جلب مساعد المخرج شاكر سلامة الشموع من اقرب بقالة و صار كل ممثل يدخل يجلب معه شمعه.. و كان الجمهور في غاية التفاعل الى نهاية المسرحية و عند النهاية وقف المشاهدون يصفقون لوقت طويل.
اين يتحقق هذا في المغتربات التي تتيح فرصا نادرة للعمل و بإمكانات اقل ما يقال عنها انها شحيحة قياسا بالتكاليف و نحن نعمل بلا دعم من احد. و قد أحرقنا السفن وراءنا، و مع ذلك لم ننقطع.
و حول الأبداع في المنفى فقد حظيت بفرص عمل ممتازة في الكويت فكتبت للمسرح نصوصا و أغاني لثماني مسرحيات للأطفال هي الأشهر في تاريخ المسرح الكويتي. كما ساهمت في اخراج مسرحيتين كبيرتين هما (حرم سعادة الوزير) و (ممثل الشعب)
وساهمت في برنامج للأطفال فاز كأحسن برنامج في مهرجان خليجي لفنون الطفل. كما كتبت لأذاعة الكويت اعمالا مهمة منها و أهمها (نجم في الظهيرة) و كنت قد توسعت فيه عن شخصية الكندي على مدى ثلاثين حلقة و نال تقييما خاصا و قد اخرجه الراحل مهند الانصاري الذي كتبت له للإنتاج الخاص عددا من المسلسلات الدرامية التي قدمتها مختلف الاذاعات الخليجية منها (أمنية اسمها التفاهم) (الحب و الا الألفة) (التحليق داخل الشبكة) (و ارتفع الستار) (وجهان لعملة واحدة).. الخ
وجودي على مدى عقود خارج العراق أنضج روحي قبل عقلي و قد تتلمذت على ثقافات ما كنت سأطالها او التفت اليها لو عشت حياة مستقرة. و لهذا حديث طويل.
هل وجد مثقفونا في غربتهم الحقيقية فضاءهم الإبداعي ومستقرهم؟
مثقفون: ما أنجزناه نوعاً من التشبث بالذاكرة وبديلاً عن وطن
علاء المفرجي
– 2 –
تعرض المثقفون العراقيون على مدى الخمسين عاما المنصرمة للنفي والتهجير القسري، بسبب القسوة والقمع الذي مارسته الأنظمة التي حكمت العراق منذ 1958 وحتى الان، لكنهم استمروا بإبداعاتهم التي توزعت بين الشعر، والراوية، والادب، والتشكيل، والموسيقى.. والتي تضوعت بعبير المنفى، فكانت نتاجاتهم تشير على الدوام لهذا النفي، وأماكنه، فهل وجدوا في غربتهم الحقيقية فضاءهم الإبداعي ومستقرهم، وهل أضاف المنفى شيئا لإبداعهم، وهل اسهم ذلك في تطوير تجربتهم الأدبية والفنية.. وما علاقة مكان المنفى بذلك.
أسئلة طرحناها على بعض مبدعينا الذي قاسوا ألم الغربة.
الشاعر رياض النعماني
الغربة كمفهوم….حضوره لم ينقطع او يغب في حياة الانسان المعني بقضايا وظاهرات الحضارة والوجود والثقافة، فهي برأيي بعض من مكونات وعناصر وجوده الموّار، والصاخب والمشتبك مع تعبيرات واقعه وشؤونه اليومية، فهي (الغربة) تواجهه في لحظات مجيئه الاولى الى العالم، وفي مستوى أعمق في بداية إنشغالاته الابداعية،
سيواجهها اولا في لغته، في بحثه فيها وعنها كي يعثر على اسرارها وينابيعها الخاصة ليقوم بمحاولات تجديدها وبلورة واختيار كلامه الخاص من مدارات محيطها اللغوي الواسع.
اللغة غربة المبدع الاولى.. لأنها نوع من المستقبل.. اللامرئي الذي عليه ان يبحث عنه ويلتقي به… هكذا سيكون دائم البحث والاستقصاء والعذاب بفضاء يريد ان يعانقة ويجد كينونته فيه.. انه على وعي تام بأن لغته هي وطنه وارضه ومحنته وفرحه الوجودي المعافى الخلاق.. بهذا المعنى فان هذه الغربة لن تنتهي لان اللغة كون لا ينتهي، ولا يمكن ان ينتهي.
من جهة ثانية… ارى ان موت من تحب هو أشق انواع الغربة واكثرها ألما ومرارة، موت اي صديق انا شخصيا يحطمني تماما يبعثرني ويشردني ويملؤني بمئات انواع السهر والحزن والضياع والبكاء… أُمثّلْ لك…. ان موت مظفر النواب، طارق ياسين وفاضل خليل وفاضل الانصاري ومهدي علي الراضي وشريف الربيعي ومظهر عبد عباس وماهر كاظم وعلي الشباني واصدقاء آخرين مازلت اشعر انه يصيبني باليتم الحقيقي، ويشعرني بأنني بلا اهل ولا وطن ولا ناس.. وحيد وحيد اعزل الى ابعد الحدود.
اما الغربة الواقعيةعن الوطن، وفي الوطن ايضا والتي فرضتها علينا سياسات الحكومات القمعية والفاشية والطائفية فهي عذاب وجرح سيظل مفتوحا، وهي كآلام ومرارة لا تطاق معروفة لجميع الناس… حتى انها صارت نوعا من البداهة المؤذية.
الروائي والمترجم عبد الهادي السعدون
– نعم الحالة هي نفسها برأس منشطر حتى لو مر عليك أكثر من ربع قرن في المهجر، لأن العودة للأرض والوطن تصبح من مؤجلة (في سنينها الأولى) إلى واقع منسي تماماً (في أعوامك الأخيرة). المنفى (داخلياً أو خارجياً) وقعه كبير وقاسي كجلاد لا يرحم، لذا عليك أن تتدرب بشكل متواصل منذ يومك الأول على إيجاد لعبة تعامل وتعايش مستمرة كي تصبر على تمارينه اليومية وامتحاناته المستمرة. بعد ذلك لا يبقى أمامك سوى ان تجد فيه طريقك المناسب، بعضنا ينام في عتبته الأول والبعض لا يرضى لنفسه سوى البحث عن مخارج أخرى. مهما كانت النتيجة من نجاح أو فشل، لا يمكن ان يكون المنفى عابراً بحياتك، لأنه قد شكلك فيها بطريقة لا يمكن أن تكون أخرى لو لم تجرب الخوض فيها. مع ذلك لا بد من القول انني دون سني المنفى التي وصلت الثلاثين سنة تقريباً، لا يمكنني القول انني سأكون ذلك الـ(عبدالهادي) نفسه لو بقيت في بغداد حتى اليوم. كما لا يمكنني بالوقت نفسه تصور نفسي إسبانياً خالصاً دون مسببات تكويني الأولى في العراق. هو أنك ستكون في تلك (المنطقة الوسط) التي تحدث عنها خوان غويتسولو ذات مرة واصفاً إياها بالوطن البديل. والوطن هنا يمكن ان يكون رمزاً وليست أرضاً ثابتة، مثل الكتابة ربما.
الشاعر اديب كمال الدين
نعم كان لها الأثر البالغ، فلقد أعطتني الغربة الكثير من الأسى، لكنني- بفضل عظيم من الله- حوّلت هذا الأسى الهائل إلى نهر شعر متواصل الجريان جَمَّل لي الكثير مما رأيتُ أو عشتُ أو عانيتُ وإن كان شديد القسوة والألم.
لقد جعلت الغربةُ الكتابةَ الشعرية بمثابة وطن لي! فصرتُ أقيس أيامي وسنواتي بمقدار ما أكتب. وأفرح كثيراً حين أكتب قصيدة جديدة، وبخاصة إذا شعرت أنها مميزة على صعيد تجربتي الكتابية. فهي دليل على أنني حيّ وأنا أتقدّم إلى الأمام!
الموسيقار طه رهك
بعد ان اشتدت الهجمة الفاشية الشرسة من النظام الدكتاتوري، التي طالت الشيوعيين واصدقائهم وكل من لم ينتم لحزب السلطة في نهاية السبعينيات اضطررت ان أهاجر الى المنفى، وحط بي الرحال في دمشق حينها حصلت على عمل في احدى الفصائل الفلسطينية، وأسست مع بعض الفنانين الفلسطينيين الشباب فرقة بيسان التي قدمت عروضها في دمشق وفي المخيمات الفلسطينية، وحظيت أغانيها وأغلبها من ألحاني باستحسان الجمهور اينما حلت، ومن الطبيعي ان أعمل تحت اسم مستعار هو (أبو أحلام) خوفا على أهلي من عسس النظام، وصدفة التقيت بالمخرج العراقي الفنان جواد الأسدي الذي عملت معه في مسرحية (العالم على راحة اليد) التي قدمت على مسرح بغداد، وكان ينوي ان يقدم عملين مسرحيين (حكاية زهرة البغدادية) و (تألق ومصرع عامل) وطلب مني المشاركة بوضع الموسيقى لهما، كانت سعادتي لا توصف لأنها ستكون الخطوة الاولى لي للولوج في مجال الموسيقى الدرامية، تعاونت مع الفنان جواد الاسدي بعدها في وضع موسيقى مسرحية (القاعدة والاستثناء). في عام 1984 أسسنا فرقة الرواد الفلسطينية ومن بعدها أشرفت على فرقة لأطفال مخيم اليرموك، وبعد العرض الجميل الذي قدمه الأطفال على مسرح المركز الثقافي السوفيتي بدمشق، عرض علي أن أضع موسيقى والحان مسلسل الاطفال (رحلة الحظ) وبعدها توالت العروض التلفزيونية مثل ثلاثية (التماثل) الفيلم التلفزيوني (تلويحة لفواز الساجر) مسلسل ( الخيوط الخفية). بعد عودته من الدراسة في موسكو بدأ الفنان الراحل فواز الساجر مشواره الجديد مع نص وليم سارويان (سكان الكهف) واختارني لوضع موسيقى العمل، كان للمسرحية بعد عرضها صدى كبيرا لدى جمهور المسرح والنقاد، اختار الممثلين من طلبة وخريجي الفنون المسرحية، اثنان منهم شاركوا بأعمال عالمية بعدها (غسان مسعود) و(جهاد عبدو)، بالنسبة لي توالت العروض لتأليف موسيقى الاعمال المسرحية للمسرح القومي، مسرحية (فضيحة في الميناء) من اخراج الفنان أيمن زيدان، مسرحية (رجل برجل) اخراج الفنان فايز قزق، مسرحية (جوارب النجاة) اخراج الفنان محمود خضور، مسرحية (الزنزانة) من اخراج الفنان هشام كفارنة، وعلى صعيد الأغاني، قدمت الحانا لفنانين شباب من سوريا ولبنان، وكذلك سجلت أغنيتان بصوت ابنتي وقد صورها التلفزيون السوري، وبقيت في دمشق حتى عام 1990 وبعدها هاجرت الى برلين ولا زلت أسكنها.
الشاعرة فليحة حسن
ليس مفهوم الغربة بجديد على المبدع، فهم يشعر باغترابه عمَنْ يحيطون به من اللحظة الأولى التي يولد فيها نصه الحقيقي، فيكون ذلك النص بمثابة المفتاح الذي يُقصيه عن ما كان يؤلفه سابقاً ويفرح به، ويصبح وكإن النبي سليمان عليه السلام قد أصدر عليه حكماً بالعيش مع غير بني جنسه لا على الهدهد، فإذا ما شاءتْ الاقدار لذلك المبدع واغترب عن ربوع بلاده التي ولد وترعرع فيها، تراكمتْ عليه جبال غربته فضجتْ روحه بحنينها، وصار كلما كتب جملة شفتْ الغربة من نسيجها، وأنا واحدة من هؤلاء الشعراء الذين يعيشون غربتهم المركبة، ولا يستطيعون الفرار منها حتى في قصائد الحب التي يكتبونها (اتذكرنا قبل أربعين عاماً، أطفالاً جداً، بملابس وقلوب ملونة، تكفينا تلويحه بالون، كي نغرق في الضحك، أتذكرُ كلّ هذا يومياً، وأتدربُ على غربتي!)
الروائي لؤي عبد الاله
– المنفى ليس اختيارا على عكس الغربة. ففي الحالة الأولى أنت لا تملك القدرة على الذهاب متى أردت إلى بلدك وتغذية ذاكرتك؛ أنت هنا بعيد تماماً عن الدغل الذي قُطعت منه، مثل الناي الذي يراه جلال الدين الرومي كائنا يبكي دائما لعدم قدرته على العودة إلى أصله. أنا حين عدت إلى بغداد عام 2003 بعد غياب عنها امتد خمساً وعشرين سنة، وجدتني أعيش أعمق غربة عرفتها في حياتي: الطرق التي توصلني إلى أماكن سكني القديمة تغيرت كلها، واخترقت الطرق السريعة كل تلك الزوايا الخفية من بغداد القديمة التي كانت تمنحها شيئا من الغموض ونكهة من الماضي العريق. كل من أعرفهم عاشوا كوارث هائلة تركت آثارها على أرواحهم وخلجاتهم، وهم الآن إذ تجاوزوا سن الشباب تماما ما زالوا في ذاكرتي كما تركتهم وكما أريدهم أن يكونوا. لعل مسرحية توفيق الحكيم “أهل الكهف” المستقاة من القرآن الكريم تعبّر عن حال المنفيين بشكل ما، عدا عن تلك القطيعة مع أجيال ولدت ونشأت خلال غيابي عن البلد.
كم يجب أن نكون قادرين على استيعاب هذه الهوة القائمة بيننا اليوم؟ أنا لم أترك العراق طمعاً بحياة أفضل، إذ كنت قبل إيفادي إلى الجزائر عام 1976 متجذرا في بلدي. أبني جسورا كل يوم مع طلابي في ثانوية العطيفية التي كنت أدرّس فيها، ولديّ أصدقاء رائعون يشاركونني اهتماماتي وآمالي للبلد، وعائلة كبيرة تقدم لي كل السند، وجيران رائعون. هل أصبحت الكتابة بالنسبة لي بالعربية نوعاً من التشبث بالذاكرة وبديلاً عن وطن يغوص عميقاً في شرايين روحي؟
حتى الغزو الأمريكي- البريطاني للعراق عام 2003، لم تكن الكتابة بالنسبة لي سوى تسطير أوراق بالكلمات ورميها من النافذة، فلا أحد في عالم اللغة العربية كان منتبهاً لوجود ظاهرة اسمها كتّاب المنفى العراقيون، والعراق كان بعيداً جداً عنا حتى التواصل مع الأصدقاء أو ممن بقي حياً من أهلنا شبه مستحيل.كانت مدة المنفى بالنسبة للعراقيين هي الأطول بين كل أولئك الذين عاشوا المنافي مثل التشيليين بعد انقلاب بينوشيت الدموي، أو الألمان خلال الحرب العالمية الثانية أو الأرجنتينيين بعد استيلاء الطغمة العسكرية على السلطة خلال السبعينيات من القرن الماضي.
كان المنفى بالنسبة لنا أشبه بساكني “جحيم” دانتي الذي نُقش على بوابة دخوله: “أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل”. ولعل انتهاءه جاء متأخراً، مثلما هو الحال مع أهل الكهف!
التشكيلي ستار كاووش
خرجت من العراق وقتها ومعي خمسة دنانير أردنية فقط كان قد أعطاها لي صديقي القاص عبد الستار ناصر، كانت وقتها لا تكفي للمبيت في فندق لليلة واحدة، كانت لدي أحلام كبيرة وأتعامل ببساطة، ولكن أيضا برومانسية مع الأشياء، ثم بعد سنوات طويلة من ذلك دخلت هولندا وأنا لا أملك أي شيء على الإطلاق سوى موهبتي وملابسي التي أرتديها فقط. عندها استلفت مبلغ 500 خلدن من إحدى المؤسسات لشراء إطارات لمعرضي الأول في مدينة روتردام، لم أبع لوحة واحدة من المعرض، بعد ذلك قال لي صاحب المؤسسة (بعد أن شاهد البؤس على ملامحي) سنعتبر المبلغ هدية من المؤسسة لأنك لم تبع أي لوحة، ولحسن الحظ كان هناك صحفي حضر المعرض وكتب مقالاً صغيراً في جريدة روتردام المحلية وعن طريق ذلك حصلت على فرصة أخرى في قاعةٍ صغيرة. وهكذا استمرت المعارض وبدأت الناس تقتني أعمالي شيئاً فشيئاً. المسألة لا تعتمد على موهبتك فقط بل على مهاراتك الشخصية وحضورك المؤثر وبعض الحظ بالتأكيد. الصعوبة هي كيف تجد فرصتك بين هذا العدد الهائل من الرسامين الهولنديين، فأصحاب القاعات ومسؤولو المتاحف هنا لا يلتفتون إلى مجرد رسام جيد، فهم
لديهم الكثير من ذلك، إنهم يبحثون عن رسام متفرد لديه منطقته الخاصة التي يعمل عليها، يحمل أدواته وتفرده ولا يكل عن المحاولة للحصول على فرصة جيدة. كفنان لديك فرصة هائلة هنا لتطوير أدواتك وتقنياتك، تزور المتاحف وتطلع على آخر النتاجات وتختلط بفنانين عديدين بطريقة مفتوحة ومن دون عقد، أقمت في هولندا وحدها 35 معرضاً لأعمالي هذا إضافة إلى معارضي في أوروبا، كذلك هناك مرسمي المفتو الذي أستقبل فيه زائرين دائماً. يجب أن تنظر إلى تجربتك وتدفعها إلى الأمام، كيف تقدم نفسك بشكل صحيح، التقليد هنا في افتتاح معرض هو أن يقدم صاحب الغاليري الفنان للجمهور ويتحدث الفنان عن نفسه وتقنياته ويستمع إلى رأي الجمهور وأسئلتهم بعد ذلك وكيف ينظرون إلى أعماله، ثم تمتد الأمسية في الغالب إلى إحدى الحانات أو المقاهي القريبة لتكملة الحوارات التي عادة ما تنتهي بمشاريع جديدة. وبعد هذا العدد من المعارض تكتسب خبرات أخرى وتنظر إلى المسألة من زاوية مختلفة، يساعدك على ذلك طبعاً تعلمك للغة البلد الذي تعيش فيه. لقد كتب 23 شاعرة وشاعراً هو لنديون 23 قصيدة عن لوحاتي وصدرت في كتاب باللغة الهولندية بعنوان ((أصابع كاووش)) حينها لم أكن أعرف اللغة الهولندية بعد، وكان هذا حافزاً لتعلم الهولندية، بسبب هذه القصائد تعلمت اللغة بشكل جيد، أردت أن أعرف ماذا كتب هؤلاء الشعراء عن لوحاتي.
الشاعر عبد الرزاق الربيعي
انطلاقتي الشعرية من العراق وفي كل مكان أمرّ به تتفاعل القصيدة مع المكان وهذا أمر طبيعي، ولذلك لي قصائد في كل محطة مررت بها، وقد وقف عنده الدكتور محمد صابر عبيد في كتابه(شعرية المكان العماني -مقاربة جمالية في تجربة عبدالرزاق الربيعي) الذي فاز بجائزة صحار للدراسات النقدية2022م، وقد أكّدتُ في كتابي (نقوش سومريّة على باب اليمن أن علاقتي باليمن التي أقمت فيها خلال السنوات(1994-1988) يمكن وصفها بالمشيمية، من الصعب الحديث عن تفاصيلها الوجدانية والثقافية والاجتماعية والروحية، وقد اعتبرت سنوات إقامتي في صنعاء ولادة شعرية ثانية، نظرا للغنى الثقافي لتلك السنوات، فقد وفّرت لي فرصة حضور مجلس عبد العزيز المقالح، الأدبي الذي كان مختبرا شعريا، نعرض به تجاربنا وتتمّ مناقشتها، وكذلك تجوّلت في المدن اليمنية، واطّلعت على ثقافتها، وقرأت تاريخها، ومخزونها الثقافي، وهذا شكّل رافدا مهمّا لروافدي الشعرية، وفيها كتبت أهم نصوصي المسرحية، آه أيتها العاصفة، وأخرجها الراحل كريم جثير، وكان أول نص يمثّل لي على خشبة المسرح، وذلك عام ١٩٩٦، كذلك كتبت مسرحيتي الشعرية(كأسك يا سقراط)، وأداها الراحل كريم جثير أداء مسرحيا في مجلس المقالح، ونوقشت على مدى أكثر من جلسة، وكذلك كتبت مسرحية(البهلوان) التي أخرجها الفنان رسول الصغير، وقدّمها في هولندا ولندن، وكتبت مسرحية ” ضجّة في منزل باردي” مستوحيا أجواءها من (منزل باردي) الذي هو بيت قديم في كريتر بعدن، كان وكالة لبيع الحبوب، سكنه الشاعر الفرنسي “رامبو” أثناء إقامته في عدن لعدة أعوام في 1882، والمسرحية تستند إلى مرحلة في حياة “رامبو” وعلاقته بـ”فرلين” الذي هجر زوجته وسافر معه، ثم أطلق عليه النار فأصابه في كفه فعاد إلى باريس ليكتب ” فصل في الجحيم ” الذي ضمنت العديد من أشعاره المعروفة في هذا النص، وقد جرى عرضها في باريس 2012 وكانت من إخراج: سعيد عامر، وتمثيل: عبدالحكيم الصالحي ونادية عقيل. وفي اليمن نضجت أدواتي الفنية، والتقيت فيها بالكثير من الشخصيات الثقافية العربية الكبيرة لعل في مقدمتها: د. عبد العزيز المقالح، والشاعر الكبير سليمان العيسى، والشاعر عبدالله البردوني والكثير من الشخصيات الأكاديمية من العرب المقيمين في اليمن، وقد عقدت معها صداقات ظلت مستمرة، وتظل اليمن في القلب والذاكرة