التربية والثقافة الجهاز المناعي في مواجهة وباء التفاهة
سامر خالد منصور
يقول المُفكر ويل ديورانت : لقد عرّفنا الحضارة بأنها نظام اجتماعي يدعم الإبداع الثقافي.
فهل التربية تدور في فلك الثقافة ؟ وهل ثقافة دون تربية هي قيمة بذاتها أم مجرد أداة بيد من يمتلكها للاستعراض و الوصول إلى ما يحقق منافعه الشخصية الضيِّقة ؟
لعل التربية هي أول حامل لأبعاد مفهوم التثاقف لأنها تقوم على قِيم مثل التعاون والتفهّم والتقدير للآخر .. إلى آخره . والتربية على اعتبارها تهذيباً للنفس وضبطها بهدف الارتقاء بها ، هي مشروع مُستمر لاينتهي عند مرحلة عمرية بعينها ، بل إننا حتى قبل أن نبلغ سن الرُشد نمارس الدورين معاً المُربى والمُربي ، فالأخ الأكبر ينصح ويوجّه الأخ الأصغر حتى لو كانا طفلين أحدهما يكبر الآخر بضعة أعوام فقط .
إن الفارق الأبرز في اعتقادي بين المشهدين التربوي والثقافي ، في مجتمعاتنا العربية يتلخص بالاحتضان والمحبة والتقدير بين الطرفين في العملية التربويّة ( المُربى و المُربي ) بينما الوسط الثقافي فيه وصاية اقصائية و أبويّة استعلائية خانقة وعدم تقدير للمُتغير الحداثي ، مما يُوسع الهوّة بين الطرفين وبين الأجيال عموماً.
إن أردنا الانتقال للحديث عن عامة الناس في أيامنا هذه وتحديداً عن ” نظام التفاهة ” ومقدار تمكنه من الأجيال الصاعدة ، نجد أن التربية أشبه بلقاح يُحصّن الإنسان من هذا ” الفايروس ” الذي يتسبب بإعاقة ، تحول دون وصول الإنسان إلى تكامل إنسانيته ، أي دون التفاته إلى ” الثقافة والتحضّر ” بأعمق أبعاد هاتين الكلمتين .
في كتابه ” نظام التفاهة ” يقول المُفكّر الأمريكي ” آلان دونو” :
” إن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام، لقد تغير الزمن ، زمن الحق والقيم ، ذلك أن التافهين أمسكوا بكل شيء، بكل تفاهتهم وفسادهم؛ فعند غياب القيم والمبادئ الراقية، يطفو الفساد المبرمج ذوقاً وأخلاقاً وقيماً؛ إنه زمن الصعاليك الهابط”.. ويتابع قائلاً : ” كلما تعمق الإنسان في الإسفاف والابتذال والهبوط كلما ازداد جماهيرية وشهرة ! “
ويضيف : ” إن مواقع التواصل نجحت في ترميز التافهين، حيث صار بإمكان أي جميلة بلهاء، أو وسيم فارغ أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين، عبر عدة منصات تلفزيونية عامة، هي أغلبها منصات هلامية وغير منتجة، لا تخرج لنا بأي منتج قيمي صالح لتحدي الزمان..!! “
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان إلى أي مدى استحكم نظام التفاهة في العالم ؟ وإلى أي مدى سيستحكم في مجتمعاتنا العربية ؟
أرى أننا لا يجب أن نهوّل من هذا المد للتفاهة ، فهو عَرض زائل أو لعله يرتبط بمراحل عمريّة بعينها ، ذلك أن طبيعة الإنسان غير المعزول ، أنه كائن عميق يستخدم الرمز ، يُحب التكثيف والاختصار البليغ ، إنه كائن بطبيعته خلّاق مبدع ينزع إلى التميز شكلاً ومضموناً ، ربما ساهمت الأنظمة والحركات الايديولوجية السلطوية الوصائيّة الاقصائيّة في تضييع ومصادرة فرص تطوره و وعيه عبر العصور السابقة ، من خلال التجهيل والإفقار والنهب الاستعماري والإرهاب الفكري والتطرف .. إلا أن هذا لم يلغي كون كل بشري بطبيعته مازال مشروع كائن عميق متميز ، وهو بشكل أو بآخر ، عبر الوعي أو اللاشعور ، يدرك الفارق بين الإنسان السوي الخلّاق المتميز وبين الإنسان الأجوف السطحي . كما أن السوشيال ميديا كما تساهم بنشر التفاهة تساهم أيضاً بنشر الأشياء القيمة والتي تلقى رواجاً مقارباً ، إن تم تقديمها بأسلوب عصري جذاب .
كي لا أكون متفائلاً دون قرائن سأورد مثالاً للتصدي لنظام التفاهة ، إنه مُسمى راج من سنوات ” كلب المال ” لم تُنتج هذا المُسمى مؤسسة ثقافية بل نَتجَ بشكلٍ تلقائي كردِّ فعلٍ شعبي عالمي على فئةٍ من الناس .
عبدة المال موجودون منذ زمنٍ بعيد لكنهم كانوا يكبحون جماح حُبهم للمال خجلاً وخوفاً من المنظومة الأُسريّة و المنظومات الاجتماعية الأخرى الأكبر وقد جاء في كل الشرائع الدينية و في الموروث الشعبي ذِكر وتوصيف وحكايا ونوارد عن هؤلاء ، مثال ذلك ما ورد في القرآن الكريم : ” وَ تأكلون التُراث[1] أكلاً لمّا [2] وتُحبون المالَ حُبَّاً جمّاً [3] ” .
– ” بجيبك قرش بتسوا قرش ” ، نلاحظ في هذه المقولة الشعبية جعل المال القيمة والمعيار بالمُطلق ! وما كان هذا ليخطر على بال أحد لولا وجود فئة تفكر هكذا وتتعالم هكذا .
لماذا راجت ظاهرة ” كلب المال ” ؟
كان الانتماء إلى القبيلة أو قريةٍ بعينها أو عائلة بعينها يجعل المهووسين بالمال يرتدعون عند درجةٍ معينة ويجعلون حُبَّ المال والتعلَّق المفرط به حبيس نفوسهم ، إلى حدٍّ ما ، فلا يُعبّرون عنه بسلوكيات مستدامة ظاهرة ، خشية أن يَجلبوا العار ثم يُنبذون ، لكن مع عصر العولمة والتكنولوجيا التي كان يقال أنه حولت العالم إلى قرية صغيرة ، لكن يبدو أن كبار الرأسماليين يريدون العالم قرية صغيرة تافهة كل مَن فيها غرباء ينتمون إلى ” الشيء ” ! إن تيار اللبراليين الجُدد يدفع بالإنسان إلى الانسلاخ عن جميع انتماءاته وجعله ينتمي لذاته ولأشيائه فقط ، ويحض عبر طوفان الأغاني الهابطة و دفع المطربين المراهقين مدمني الكحول والمخدرات إلى النجومية وخلط مفهوم الحرّية والتمرد بالفسق والفجور و الاستخفاف بقيم الآخرين ومشاعر الآباء والأمهات و ممارسة السلوك اللامسؤول ! فمن هو خيرٌ من إنسان ” مَهزوز الشخصية ” لايؤمن بالعلاقات الاجتماعية ، كي يقتني ويستهلك و يأنس بأشيائه ؟! .
رصدت شعوب العالم ” فورة ” للمهووسين بالمال والأشياء وأطلقت عليهم مُسمّى عبر وسائل التواصل الاجتماعي ( كلاب المال ) بعد رواج ما يُسمى بالتجارب الاجتماعية وهي كاميرا خفيّة ترصد تبدل هائل في ردود أفعال الناس ، قبل وبعد عرض المال عليهم ، في مسائل شخصية أو مسائل حساسة من المُفترض أنها أخلاقية وقيمية و ليست قابلة للمساومة .
وفي المقابل جاء وعي المثقفين سابقاً بمراحل حيث راجت مقولة ” لا تستطيع أن تمتلكني من أشيائي ، فأنا أنتمي إلى عالم الإنسان ولا أنتمي إلى عالم الأشياء ” ومقولات مشابهة كثيرة على ألسنة أدباء ومفكرين ومثقفين من بلدانٍ عدّة منذ سبعينات القرن السابق .