التعالق والمتعالي المتناصي عند شعراء العصر العباسي
قراءة في النص القرآني
د. وليد عويد حسين
لا شكّ في أنّ النصّ الشعري العباسي مثّل مسرحاً رحباً لمفاهيم التناص وأشكاله وأنواعه ومسمياته، ولا غرابة في ذلك فهو نص البناء الجديد والتحديث، ولأن الشاعر العباسي كان لاعباً لدور الفيلسوف ومؤدياً له، حال بناء الشعرية، لذا فهو لم يكن يقصد التناص لمجرد مفهومه العام والساذج، بل إنّه حاول محاكاة الجانب الفلسفي العميق لتلك التناصات، وأصبحت مسألة تأثر النصّ اللاحق بالنص السابق لا على سبيل التضعيف أو الاقتباس المجردين، بل إّن النصّ الجديد المنتج إشارياً أو على جهة المحاكاة التلميحية صار معنياً في أمره الأساس بقضية إصابة المعنى الثقافي المقروء عند الشاعر، وهو من دون شكّ المعنى العميق الجديد المصاب من قبل مبدع النص الشعري، وربما أن ما نحاول الإشارة إليه بشأن مفهوم التناص قد يتعدى المعنى البسيط الذي حاولت الناقدة الغربية (جوليا كرستيفا) الحديث بشأنه من أن المفهوم الأول لعنصر التناص إنما يحوم حول مسألة (التفكيك والتذويب والتشرب وكذا التحويل) التي يتعانق بوساطتها نصان، سابق ولاحق كما جاء عن جوليا كريستيفا في علم النص.
ولأجل حصول آلية التعالق العميق ما بين مفهوم التناص العميق وما يلائمه في القصيدة العباسية المحدثة، فإننا نذهب إلى تبني ذلك الرأي النقدي الذي حدَّد معنى التناص الأكثر عمقاً والمائل نحو جدلية (الأنا / الآخر، والحاضر / الماضي، والغياب / الحضور)، إذ مثلت تلك المسمياتُ الإطارَ العام للنصِّ القديم الأصل ذا الفكرة الأولى الرئيسة (الآخر – الماضي – الغياب) وكذا النص الجديد المتناص معه المولود بثوبه الجديد (الأنا – الحاضر – الحضور) وهذا ما أوضحه محمد طه حسين في التناص وإشكالية الكتابة .
لقد كانَ الشاعرُ العباسي حاذقاً في استعمل آلية التناص بوصفه أداة رئيسة تتدخل عامدة في بناء الصورة الشعرية المكتملة للقصيدة العباسية ولاسيما في عهدها الثاني، فهذا الشاعر المجدد تمكن من ابتكار آلية التقاطع النصي المحمل بالشعرية المميزة بين نصّه الجديد والنصوص القديمة السابقة له، تلك النقطة الارتكازية الجامحة لهذين النصين هي الكفيلة بتوجيه ملامح الشعرية من خلال دقة العلاقة الرابطة لتلك النصوص المذوبة والمصاغة جديداً.
إنّ الشاعرَ العباسي كان متقناً لفن اجتذاب متذوق الشعر نحو نصه الجديد بوساطة تلك الآلية المشار إليها، وإن كان جزءاً من الانزياح بالنص والصورة الشعرية معاً عن المألوفات السابقة ذات الشعرية التقليدية، إلا أنَّ التناص مع النص القرآني لم يكن إشارياً وحقيقةً مقصوداً لذاته، بل كان جزءاً مهماً من أجزاء صناعة الشعرية الحديثة، من بين ذلك ما جاءَ في قول الشاعر أبي منصور عبد الرحمن بن سعيد في هذا النص الشعري: (الخفيف)
خلّةُ الغانياتِ خلّةُ سوءٍ | فاتقوا الله يا أولي الألبَابِ |
إنّ أول القراءة تأخذنا نحو إعادة ترتيب الشاعر لمعاني النص من خلال التناص الإشاري مع قوله تعالى: ((قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) سورة المائدة :100 ، وكذا قوله تعالى: ﭐ ((أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ۚ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا)) سورة الطلاق:100 ، هذا التناص الذي تبنى بناء صور البيت الأول كان بمثابة التمهيد لصورة النص الارتكازية الحائزة على بنية البيت الثاني، فالشاعر ذكر الخلوة بالنساء المرمز إليهم بـ (الغانيات) وما يمكن أن تخلفه من النتائج الوخيمة غير محمودة العقبى، ثم جعل مقابلاً لها وجود لازم التقوى التي تمثل الرادع الرئيس لتلك الخلوة (الخلة)، ولكي لا يذهب ذهن القارئ نحو فضاء الشتات أخذهُ مبدعُ النصِّ نحو موروث آخر فعمد إلى التناص المباشر مع قوله تعالى: ((یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَدۡخُلُوا۟ بُیُوتَ ٱلنَّبِیِّ إِلَّاۤ أَن یُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَیۡرَ نَـٰظِرِینَ إِنَىٰهُ وَلَـٰكِنۡ إِذَا دُعِیتُمۡ فَٱدۡخُلُوا۟ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُوا۟ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِینَ لِحَدِیثٍۚ إِنَّ ذَ ٰلِكُمۡ كَانَ یُؤۡذِی ٱلنَّبِیَّ فَیَسۡتَحۡیِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا یَسۡتَحۡیِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَـٰعࣰا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَاۤءِ حِجَابࣲۚ ذَ ٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُوا۟ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَاۤ أَن تَنكِحُوۤا۟ أَزۡوَ ٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۤ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَ ٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِیمًا)) سورة الأحزاب: 53. فكان التماس المباشر ببيت النبوة الذي يمثل نعمة الطهر والعفاف نقطة ارتكاز النص من جهة التقوى والخشية فكيف ببقية أجناس الناس من جهة الخلة والخلوة ولاسيما غير الشرعية، لذا كان هذا التناص الإشاري ذلك المتكأ الوثير الذي جعلهُ الشاعرُ مصدراً أساساً لبناء وإنتاج الصورة الشعرية الموصوفة بالجدّة.
إنّ هذا التناص الصانع لهذه الصورة الشعرية من وجهة الناقد محمد مفتاح أعطى قراءة أخرى ممتزجة بنكهة أخرى للنصِّ تختلف جذرياً عن شعرية الموروث الأولى، جاء ذلك بوساطة تلك الكيفيات المختلفة التي صيغ بها النص معنىً شعرياً بمعنىً قرآني صريح وكانت التقوى ذلك الخيط الرابط لهذين الجزأين.
إن الشاعر العباسي نحسبه متمكناً من بناء الصورة الشعرية المتكئة على آلية التناص الإشاري مع النص القرآني الكريم، وهو بذا الصنيع إنما يقوم بصناعة صورة شعرية مميزة من شأنها خلق مسافة توتر والتباس بين الشاعر ونصه من جهة، وبين المتلقي من جهة أخرى، هذه المسافة الالتباسية هي المتبنية لصناعة شعرية الصورة المتزامنة في القصيدة العباسية، يقول أبو الحسن علي بن القاسم السنجاني في هذا الموضع الشعري: (الخفيف)
عَنْ قريبٍ سرائرُ الخلقِ تفشُو | فيِ مقامٍ يشيبُ فيه الوليدُ |