فيلم ” دليل المسافر في المجرَّة ” من أغرب الانتاجات السينمائية الضخمة
سامر خالد منصور
الغرابة تتدفق بغزارة في سيناريو من تأليف (دوجلاس آدمز و كيري كيركباتريك) لا يحترم العقل، لأن العقل لا يحترم الكون ، فيحسب البشري نفسهُ قادراً على فهم الكون والإحاطة بخباياه، وفي عصر كهذا تتناقص فيه الثوابت وتزداد فيه المتغيرات بسبب تسارع الكشف العلمي حيث سنجد أنفسنا بعد قرنٍ من الزمن على أبعد تقدير في عالم غير مُستقر. فكل يوم فيه شيء جديد، عالم لا ندري أهو عالم فوق طبيعي أم تحت طبيعي شاذ سرطاني . جاءت مشاهد الفيلم وفق تقنية الغموض والتشظي التي اتسمت بها العديد من الأعمال الفنية في عصر ما بعد الحداثة، والتشظي لا يعني التقطع الدال على عدم الاكتمال بسبب عجز أو موت، وإنما هو كتابة واعية توجهها خلفية فلسفية ورؤيا جمالية يُراد من خلالها تحقيق آثارٍ فنية وغاياتٍ فكرية وإيديولوجية.
يبدأ الفيلم بمشهد لجرافات وفريق عمل حكومي يرغب بإزالة منزل ريفي صغير لرجل أعزب يُدعى ( آرثر دينت ) ، وقد أدى الدور الممثل (سام روكويل). ترغب البلدية بإزالة منزل آرثر بغية إقامة طريق مما يدفعه إلى الاحتجاج ويستلقي أمام الجرافات، فيسخر منه المسؤول ويقول له لن تبقى مستلقياً هنا إلى الأبد.. وعندئذ يصل صديقهُ ( فورد ) وقد أدى الدور الممثل المصري ( موس ديف ) ويقنعه بمرافقته إلى الحانة، يتحدث ( فورد ) عن كون الأرض كلها سوف تتعرض للتدمير بعد 12 دقيقة وعن كونه كائناً فضائياً، وبالفعل تتم محاصرة كوكب الأرض من قبل مخلوقات تُسمى بال(فوجون) ويتم تدميره بحجة أنه يشكل عقبة في سبيل إنجاز مَعبر فضائي، وأن المصلحة العليا للمجرَّة تقتضي هدمهُ.. ويصف ( فورد ) هذه المخلوقات قائلاً : هي كائنات بيروقراطية مُنعدمة الموهبة تكتب الشعر الرديء، ولعلها ترمز إلى خطباء الأحزاب، والمؤسسات الرسمية في عالم البشر والجميع يتملقها لأنها تحوز القوة والسلاح.
ينتقل آرثر وفورد من مركبة فضائية إلى أخرى ، راكبين مُتطفِّلين، ثم يجدان نفسيهما ينتقلان من كوكبٍ إلى آخر في رحلة لا غاية لها ولا تظهر في الفيلم أي شخصية شريرة، ويتجلى الضياع والجنون في معظم مشاهد الفيلم، فكل الشخصيات تقريباً كانت عبثية ومجنونة بنسبةٍ ما، وهذا كان كفيلاً بأن يُولِّد الصراع و الدمار. أما حاكم المجرة الشبق (زافود) وقد أدى الدور الممثل (بيل بالي) فقد كان مصاباً بفصام الشخصية ولا يهمّهُ سوى الاستمتاع باللحظة، وتنتابه هواجس حقد تجلب له الأذى عندما يخوض في صراع مع خصمه (هاما) الذي يمثل السلطة الدينية.
يعتبر فيلم (دليل المسافر إلى المجرة) من الأفلام الباذخة التكاليف، وقد حاول اتباع أسلوب العصف الذهني في مساره العام، فقد طرح كثيراً من الأسئلة على سبيل السخرية من المعتقدات الإنسانية الدينية منها والعلمية، وقد كان موفقاً في هذا الجانب، ثم تعددت في النصف الثاني من الفيلم البيئات والعوالم الغرائبية وازداد اعتمادهُ لتقنيات الـ(كرافيك). وعلى صعيد الحبكة كانت المصادفات هي ما يُنهي لحظات الذروة ذلك أن الطرح الفكري في الفيلم إلحادي – مَنشؤنا و وجودنا كبشر سببه مُصادفة من أندر نوادر هذا الكون – وبالتالي لا يحق لمخلوقات نشأت مصادفة أن تطالب بتسلسل يَعتمد ارتباط السبب بالنتيجة على الدوام.
وفي المشاهد الختامية يكتشف آرثر أن الكواكب الصغيرة ككوكب الأرض يمكن أن يتم تصنيعها وبيعها في هذا الكون الرأسمالي المجنون، ويكتشف أيضاً أن هناك نسخة عن كوكب الأرض صُنعت وتحوي الناس أنفسهم والكائنات الذين كانوا على الأرض قبيل تدميرها وترسل إليها.. وربما هنا يسخر الفيلم من فكرة العوالم المتوازية التي طرحتها زمرة من البحاثين في مجال علوم الـ( كوانتزم).. أو أنها إشارة إلى ضآلتنا في هذه الكون حيث يمكن أن نكون كالنمل الذي نشأ في مزرعة نمل اصطناعية وهم يحسبونها وطناً طبيعياً لهم ويدافعون عنها بأرواحهم.. وهو يدعم ما تحدث عنه الكثيرون وتنبأ به العديد من المفكرين والفلاسفة حول عصرنا ، عصر ما بعد الحداثة الذي يتسم بالاضطراب الاجتماعي والفوضى ، ووصفت الذات فيه بأنها صارت حُرة واستهلاكية ومبعثرة وفصامية مقارنة مع الذات في العصور التي سبقته، كما يقول المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد تويبني.
ومن المشاهد الغرائبية ذات البعد الفلسفي العميق، يُخلق كائنٌ ضخم في سماء أحد الكواكب ويهوي منذ اللحظة الأولى لتكونه، مما يجعل لديه وقتاً ضئيلاً لقبول هويته، ويطرح هذا الكائن أسئلة تبدو بلا معنى، لأنه يهوي إلى الفناء بسرعة فائقة، في إشارة إلى البشرية التي لا تعدو أن تكون ظاهرة شرارية في عمر الكون وتجرؤ على محاولة احتوائه معرفياً !
– ماذا يحدث؟ من أنا؟ لمَ أنا هنا؟ ماهي الغاية من وجودي؟ ماذا أعني بمن أنا؟!…ثم حاول وضع مسميات لكل ما يراه أثناء سقوطه، ولكنه سرعان ما تناثر قطعاً عندما اصطدم بما هو أضخم منه.
الفيلم بكل المتناقضات التي تضمنها يسخر من كل الأسس التي تستند إليها حياتنا، بداية من أسس كتابة السيناريو ذاتهِ والأنساق الحكائية وصولاً إلى أعظم الحواسيب التي يمكن أن نتصورها. ووسط متغيرات المستقبل بقيت الثوابت الوحيدة هي غرور البشر وإقبالهم على الخمر والمخدرات ومظاهر الحياة المُبهرجة. وقد تقصَّد المخرج ( جاريث جيننجز ) إرباك المشاهد ، إذ نشعر أننا أمام فيلم خيال علمي تارةً وأمام فانتازيا تارة أخرى، وذلك موظف لخدمة فكرة الفيلم، ولكنه فشل في محاولته لصياغة قالب له خصوصيته من الكوميديا فوقع في الابتذال ، وربما ذلك أيضاً جزء من رسالة الفيلم بكوننا كائنات مغرورة مُبتذلة .