رواية عكازات العتمة.. نعمة الجغرافيا لأحمد أنيس الحسون
عبد الرحمن ربوع
تحكي رواية أحمد أنيس الحسون “عكازات العتمة” قصصًا وثيقة الصلة بواقعنا، واقعنا المفعم بالحياة حدّ الموت، الحياة المعقدة بتفاصيلها اللامتناهية، بما في ذلك تفاصيل الموت وتداعياته، الحياة نفسها إحدى شخصيات الرواية، والموت نفسه بطل من أبطالها، وما بينهما أحياء أموات، وأموات أحياء رويت قصصهم بكل أمانة وحياد.
تحكي رواية أحمد أنيس الحسون “عكازات العتمة” قصصًا وثيقة الصلة بواقعنا، واقعنا المفعم بالحياة حدّ الموت، الحياة المعقدة بتفاصيلها اللامتناهية، بما في ذلك تفاصيل الموت وتداعياته، الحياة نفسها إحدى شخصيات الرواية، والموت نفسه بطل من أبطالها، وما بينهما أحياء أموات، وأموات أحياء رويت قصصهم بكل أمانة وحياد.
شخصيات فريدة من نوعها حاضرةٌ قصصُ تفاصيلِ حيواتها، الوعي والخيال أيضًا حاضران، اليأس والأمل كذلك فاعلان، كذلك الحزن والفرح والخوف والأمان لهم حظ كامل الاحترام من الحضور.
“عكازات العتمة” ليست سردًا إبداعيًا فقط كما تبدو؛ بل هي أقرب إلى “نص واعٍ”، ليست محض صورةٍ أو انعكاسٍ لواقع أو تجسيدٍ لخيال، وليست مجرد حكاية تمزج الوقائع بالأساطير، كما أنها ليست محاباةً للمقدَّس على حساب المدنّس أو العكس، إنها مرآة تعكس الواقع، ومجهر ينبش في أعماق الماضي، ومنظار يستشرف المستقبل، الأفكار مزيج من اقتراحات وتعليقات تصوغها ببلاغة واقتدار أقوال وأحوال شخصيات حسّاسة لا ينقصها الذكاء، دقيقة لا تسيئ لها اللامبالاة، متأمّلة لا يعيبها العجز.
رغم معاصرتها لم تركز الرواية على تحديد زمن كلي يؤطرها، وكأنها نسخة عن العالم كما هو “كاملا/ خالدًا” قبل أن يعتريه النقص والفناء حين بدأت نجومه وكواكبه بالتحرك لينشأ الزمن، ومتى كان للحكاية الممتعة زمنٌ يقيّدها أو وقت يخصّصها؟ ورغم تسلسل الأحداث ومنطقيتها؛ إلا أن النهايات الحتمية لكل خيوط وخطوط الشخصيات والأحداث الموازية والفرعية لم تكن متوقعة، فيما تُركت النهاية الأساسية للمسار المحوري للرواية لتكون الأكثر إبداعًا وتشويقًا، أما مكان الرواية وحيّزها وفضاؤها فقد كان منوَّعًا متقلبًا فاعلا مؤثرًا، وبطلا أساسيًا، تلاعب بالشخصيات وبالحبكة، تاركًا بصماته على الملامح والأحداث والحوارات،
“عكازات العتمة” العنوان هو إشارة إلى تلك “العكازات التي تساعدنا على اجترار الوقت سالكين معابره القلقة”، “عكازات صنعناها من أغصان متجمدة عطشًا، سبق وأوقدنا جذوعها حطبًا في شتاء قارس لا مطر فيه”، أما العتمة فهي تلك “الظروف التي تلف حيواتنا، وتحتوينا، وتنسج لنا حكايات وستائر من هواجس وتراتيل بقنّاصين وحُرّاس”.
ربما من المُغري أن ننظر إلى “عكازات العتمة” باعتبارها رواية سياسية أو حتى فلسفية، لكن هذا من شأنه أن يحدّ من نطاقها ويظلمها، إن إتقان أحمد أنيس الحسون للتعبير عن المألوف بلغة غير معتادة، وتراكيب غير مسبوقة وثنائيات فريدة، موظِفًا ذكاء اللغة وعمقها في خدمة السرد والقص؛ ينحو بالرواية عن طروحات الفلسفة أو التأريخ، أو الأدلجة إلى فضاءات إنسانية أوسع وأرحب، لتصبح “رواية ضرورية” لا مجرد “رواية مهمة”.
لا شيء يمنح “القارئ” متعةً كروايةٍ ممتعةٍ، وما فائدة الأدب، إن لم يمنح الإمتاع والمؤانسة ليصير بحق ماتعًا ومؤنسًا؟
الشخصيات، التي تعكر صفو جو دمشق، أو تعبث بجماله، وتشوهه كلها بدت في “عكازات العتمة” هامشية، فيما الأشخاص الجميلون في بساطتهم، البسطاء في جمالهم، بدوا عمودَ الرواية وأساسها، كما هم عمود الحياة وأساسها، ولولاهم لصارت دمشق مستنقعا سامًا غير قابل للحياة، الصالحون كما الأشقياء يرحلون فجأة، تتخطفهم آلة الموت بلا تفريق أو تمييز، ليبقى العالم على حاله المراوحة بين الجمال والقبح، والصدق والنفاق، والمحبة والكراهية، البطل “أحدب” ضحية الجهل والتسويف واللامبالاة والتواكل، وصديقه “أعور” ضحية الجهل والعادات، وصديقهما “العاشق” الذي أحب الوطن إلى درجة أن الوطن قتله حين همّ بالخروج منه!، أما البطلات فحدِّث ولا حرج عن ملائكيّتهن وبهائهنَّ، وفي الحواشي يكمن أدعياء شرف، غارقون حتى أنوفهم في أوحال العهر وأوْضار الدناءة.
الصفصاف، الكينا، الياسمين تنجح دومًا في ستر عورة دمشق، ومداراة الوجه الآخر فيها، رغم حملات التشويه، والعبث الممنهجة، ورغم كل “ولدنات العشاق”، لكن الحب المحفورة رموزُه على جذوع الأشجار يفشل في تخبئة الكراهية، زناة الليل، و”القمارجية” لا يجرؤون في دمشق على المجاهرة بجرائمهم مهما ارتقت مناصبهم الحكومية، أو سمت مكانتهم الاجتماعية أو علت إمكاناتهم المالية، لكنهم بكل تأكيد يلوثونها ويجرّونها من تلابيبها إلى قاع مُعتم.
لم يعد صراع “قابيل وهابيل” ذا مغزى أو أهمية في زمن الكل فيه قابيل وهابيل، لم يعد لواقعة “قابيل وهابيل” قيمة تاريخية أو دينية بسبب ما صرنا قادرين عليه من تذكير أنفسنا بما هو غير متوقع من نتائج صراعات تحيط بنا من كل جانب، سواء كنا طرفًا فيها أو جزءًا منها، قابيل المتطرف الأرعن لم ينجح في أن يصير بطلا في دمشق؛ بل هابيل الطيب المتسامح المحب للحياة، الأصدق والأنقى، المتعشم من الله قبول قربانه، ولا يتألّى على الله كما فعل قابيل.
كما إنها حكاية لقصة قَدَرٍ ساقَهُ العشقُ، ولقصص ضحايا العتمة، ولقصص أمهاتٍ، كما بردى، يروينَ أولادهن بالدفء والحنان فيقابلوهن بالجحود والنكران، قصص غرقى يأملون أن تحملهم قوارب الموت عن يابستهم المالحة إلى شواطئ الخصب، قصص هاربين من عتمة واقعهم إلى سفوح يطلّون منها على أضواء تتراقص بين الخُفوت واللمعان، قصص من أنشؤوا المقاهي، والمقاصف بجوار مقام قابيل وهابيل احتفاءً بأول جناية في تاريخ البشرية، قصص نُسَخٍ محدَّثة من قصة قابيل وهابيل حين يستشري التطرف في المجتمع إلى درجة استباحة الدم باسم الرب.
علاوة على ذلك، ثمة قصص لا تقل إمتاعًا أو تشويقًا عن وجهاء المدينة ومتنفذيها ورأسمالييها، رغم اختلافاتهم ومشاغلهم، تجمعهم دائمًا “شقة الأنس” فوق مقهى الزيزفون، ثم هناك حكاياتٌ ظمأى، هجرتها الأرواح الندية، واستولت عليها أرواح شريرة، وثمة وثائق سرية لحب معلن، ومع أنه لم يكن أحد يدري أن بين المشرق والمغرب حبًّا أو عشقًا إلى أن قرأ “الأحدب” مراسلاتهما، لنكتشف أن هناك حبًّا قلّ نظيره، حب كيميائي قادر على وصل قلبين، أحدهما في أدنى الأرض، والآخر في أقصاها، بعد إذابة أقسى الصخور، وتبخير أعمق البحار الحائلة بينهما، حب عجائبي تنقل أصداء حواراته منحدرات أودية تطوان عبقةً بعبير ياسمين دمشقي.
كذلك هي رحلة استكشافية يخوض غِمارها بعض شخوص السرد بحثًا عن نبي!، نبي يسعفهم بنبوءةٍ طال انتظارها، انتظارٌ لغد مجهول يأملون أن يأتي، ولو مرة واحدة، حاملا بشرى، أيَّ بشرى وعلى أي صعيد، المهم أن يخرجوا من متاهة الحياة الرتيبة، وإنْ للحظة مفعمة بشعور لم يألفوه من قبل، ولا أحد ألفه من قبل، إلى حياة مترعة بالكمال والامتلاء، ولا يهم بعد ذلك إنْ خلدوا مع أحبّتهم في الجحيم أو غياهب النسيان!
يا لها من مرآة، مرآة محايدة بلا روح، لا أحكام ولا تحكّمات ولا نقد ولا تصنيف، الشخصيات ومَن حولها، البيئات وما فيها، الطبيعة وما وراءها، كل شيء كما هو متاح له أن ينقل وجهة نظره كما هي، لا وقت ولا مجال ولا طائل للحكم على الأشخاص أو الأشياء، إنه نصٌّ كما الحياة يلخصها فوق تلخيصها، ويختصرها فوق اختصارها، وينبّهنا إلى مكامن جمالها وملامح حلاوتها ويبشرنا بمآلاتها، دون أن يصدمنا أو يقرفنا بتفاصيلها القبيحة، كل شخصية غادرت الرواية قبل نهايتها تم وداعُها الوداع اللائق بها، كما تم تكفينها بالكفن الذي نسجته يداها، سواء نسجته بأشعة الشمس المنعكسة عن سفوح قاسيون مع ما انعكس منها عن جبين بردى، أو نسجته بزقزقات القبّرات مع هديل الحمام، أو نسجته حبات تراب وديان تطوان مع حجارة أسوارها وبواباتها، وهي تغادر دفتي الرواية تاركة منجزات وخيبات وذكريات، أما أولئك الذين غادروا الرواية في العتمة تاركين أكفانهم وراءهم، فقد حظوا بالتأبين اللائق بهم ولم يعدَموا من يبكي عليهم ويأسى لهم.
وفيما لا تجدي الحلول كلها لعيش حياة كريمة آمنة، تأتي الجغرافيا لتقدم حلا توافقيًا، الجغرافيا التي كانت من أسباب الشقاء والآلام تصبح الحل، خصوصًا لأولئك الذين لا يجدون وشيجة تربطهم بالواقع الذي تفتحت أعينهم عليه، أو صلة بالتاريخ الذي ورثوه، ولديهم من الجرأة ما يكفي لتحدي البحار واعتلاء الأسوار.