ستارُ الحلمِ الأخضر
نور الدين الموعد
فاجأتِ الأمُ انزواءَ خيالاته:
– ألا زلت ساهراً؟!
وقف منتصباً كريشتهِ التي صارتْ عكازَ يدِ الرسمِ على الطاولة، وتلقفَ بعينيه
المتعبتين كأسَ حبِّها واهتمامها.
– ماذا ترسم يا قلبي المعذب؟
لامستْ وترَ عنائهِ وعزفت عليه لحناً مِنْ شغافِ قلبِّهِ، وهو يقول:
– أركضُ خلفَ ستارِ الحلمِ الأخضر.
لهاثُ الأم الثلاثينيةِ وراءَ طفلِ العاشرةِ سبقَهُ إلى الصورةِ المستدعاة، لتسألَ شبابَهُ
الجالس قبالةَ الحلمِ العتيد:
– ألا زلت يا صغيري؟!
– طفل المهدِ في لفائفهِ البيض كأنه يُطلقُ بعضاً من كلماتِ الحقيقة:
– وسأبقى ما دمت حياً.
بقيت الكلماتُ نشيدَ عنفوانِ الفتى الذي ركزَ بندقيته على ضفة الأمل، واتكأَ بكبريائه على ألمٍ يمضي إليه كالخدر.
أُمي.. أُمي هذه الكلمة لم تعد تعنيها وحدها، بل تعني بلاداً شاسعةً .
أمست في نظرةٍ إلى الماضي مروج الدنيا وجناتها الخضراء. كانت تراه يركض في براري وحشته وغابة انتظارها نحو تلك المروج الفسيحة، والجنان التي رسمتها ريشة طفولته ويفاعته.
– إلى أين تمضي يا ولدي؟!
صوته الخشن من غور الجرح يأتي مثل سيفٍ يُمشق بطول أشجار السرو في بستان أبيه:
– سنعيد الألوان إلى مكانها يا أمي.. العاصفة لا بد لها من نهاية.
يضحك حين يُذكِّرها:
– في علبة التلوين قلمان بلونٍ أخضر لا يكفيان.
عندما كبر صار يستخدم الألوان المائية والزيتية، ويقول:
– هذا اللون الأخضر بالحجم العائلي بالكاد يكفي.
يضحك فتلمس من ضحكاته عذوبةً تنعشُ نظراتها الخابية لتزهو من جديد تلك البساتين التي رسمها على الجدران، وأبهرت أهل قريته بما لم يروا له مثيلاً في بساتين واقعهم وأحلامهم.
كانت تنتظر بصيصَ إجازاته لتسأله عن حلم الطفولة في أن يصبح رساماً عالمياً. هو سؤال القلب للقلب؛ القلب الذي يعرف كيف اختار وحيدها إلزام ذاته بما لم يلزمه عليه أحد، ولأنه كان يراوغ قلبه في البداية، ويقول لها:
– العالم هنا.. أنتِ وهذه البلاد… بدايةُ الكون ونهايته. يضحك وهو يحاولُ أن يشاغلها
بقبلةٍ على جبينها، فتضم خوفَهُ على أحلامِهِ الخضراء، وهي تذرف قطراتٍ من ندى صباحاتها المخبأة.
في الإجازة التالية سألته السؤالَ ذاتَهُ بطريقةٍ أخرى:
– ماذا ترسم الآن يا ولدي؟
– أرسم على هذه الأرض يا أمي بهذه… يمد بندقيته، فَتُركِّزُ على عضلاتِه المفتولة، فترى الأم وجه الشبه بين رسمه، وعمل أبيه في فلاحة الأرض وزرعها.
– آه يا ولدي… أما آن لهذه اليد أن ترتاح قليلاً.
كانت تتأمله حتى وهو نائمٌ لتروي ظمأ صدرها، وتلون صفرة الفراق بأخضرهِ الزاهي الذي لا يغيب:
– كم حجماً عائلياً تحتاجُ الآن؟!
يتعجب الحاضرون من ضحكاتٍ خالطتْ دموعها التي انهمرت على الجثة المسجاة بين يديها…
تتحسسه، وهي تتخيل كم صار صلباً، ومتيناً كجسد أبيه الذي أخذته الأرض، وهو يركض دون هوادةٍ.
ها هي تؤكد حكمها السابق أن ركضَ الابن كركضِ أبيه يزرعُ أشجاراً وبساتين، لكنَ الطفلَ بقيَ طفلاً في عينِ أمّهِ، وهكذا كانت تؤكدُ لكلِ من تحدِّثهُ عن ابنها الشهيد، أنَّهُ دائماً يركضُ كما كانَ في العاشرة، وكما كانَ يقول: خلفَ ستارِ الحلمِ الأخضر.