إسرائيل أمامَ مَحكَمَة العدل في لاهاي: مُفتَرَقٌ في العدالةِ الدَوليّة مُنذُ مُحاكَمَةِ المسيح
سليمان الفرزلي*
شَكَّلَ مُثولُ إسرائيل أمامَ محكمةالعدل الدولية في لاهاي خلال الأيام الأخيرة، بموجب دعوى الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزَّة التي قَدَّمتها دولة جنوب إفريقيا في الأسبوع الماضي، أيًا كانت نتائجها، مُفتَرَقًا مُهِمًّا في العدالة الدولية المُجهَضة بفعلِ تواطؤِ الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية مع الدوائر الصهيونية الحاكمة من وراء الستار. وهو ما أدركته شعوبُ العالم قاطبةً، بما في ذلك الشعب الأميركي والشعوب الأوروبية، بفعل حرب الإبادة التي تَشنّها آلةُ الحربِ الصهيونية–الغربية ضد الشعب الفلسطيني في غزَّة، والتمييز العنصري الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية المُحتَلّة.
كان يحلو لبعضِ المؤرّخين في الغرب، تشبيه الولايات المتحدة ونظامها الإمبريالي بالإمبراطورية الرومانية من حيث اتساعها العالمي ونظامها السياسي القائم على إخضاع الشعوب بالقوة العسكرية، وبالتواطؤ السياسي. وفي هذا الادّعاء أوجُهُ شبهٍ كثيرة، سوى أنَّ الدولة الرومانية في جوهرها، خصوصًا في زمن الجمهورية قبل النظام الإمبراطوري الذي نشأ نتيجة الحروب الأهلية التي سبقت وأعقبت اغتيال يوليوس قيصر في 14 آذار (مارس) من عام 44 قبل الميلاد، كانت تميلُ إلى مؤاخاة الشعوب الواقعة تحت سيطرتها، والاعتراف بثقافاتها ودياناتها وخصوصياتها، أكثر مما فعلت أميركا حتى الآن. بل إن الطبقة السنا تورية في الكابيتول الروماني، كانت أرقى، وأنزه، وأثقف، وأكثر تهذيبًا، من الطبقة السنا تورية الراهنة في الكابيتول الأميركي.
وعلى الرُغم من تواطؤِ الحاكم الروماني في فلسطين مع المؤسّسة الدينية اليهودية، مما أدّى الى الحكم بصلب السيد المسيح، إلَّا أنَّ الحاكم الروماني في ذلك الوقت، بيلاطس البنطي، وَجَدَ في نفسه شجاعةَ التنصّلِ من المسؤولية مرّتَين: مرة عند إبرامِ حُكمِ الصَلب عندما غسل يَدَيه من المسؤولية، ما دفع المؤسّسة الدينية اليهودية إلى تحميلِ نفسها وجميع الأجيال اليهودية التالية إلى الأبد مسؤولية “قتل الإله” بقولهم لبيلاطس: “دمه علينا وعلى أولادنا”.
والمرة الثانية، عندما طلبوا منه أن يزيلَ عبارةً كُتِبَت فوق رأسه على الصليب باللاتينية واليونانية تصفه بأنه “ملك اليهود”، فرفضَ بيلاطس قائلًا لهم: “ما كُتِبَ قد كُتِب”.
هذا مُفتَرَقٌ ما زال سالكًا. حتى الأحداث التي جرت توجّهاتها العدلية الحديثة على نمطٍ مُغاير في عصرِ الإمبراطوريات الأوروبية الأخيرة، والإمبراطورية الأميركية الراهنة، تدلُّ على تواطؤٍ عُضوي لا هوادة فيه بين تلك الدول الغربية وبين الحركة الصهيونية التي باتت أقوى من جميع الأنظمة السياسية في دولٍ كثيرة نافذة في العالم اليوم.
ففي العام 1975، في أوج الحرب الإسرائيلية ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان، ما أدّى الى نشوبِ الحرب الأهلية في لبنان، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا باعتبار الصهيونية شَكلًا من أشكالِ العنصريًّة والتمييز العنصري، تتوَجَّب إدانتها وإزالتها (القرار 3379 بتاريخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975). وقد اتخذ القرار المذكور بأغلبية 72 صوتًا ضد 35 صوتًا، وامتناع 32 دولة عن التصويت.
لكنَّ الجمعيةَ العامة ذاتها عادت فألغت القرار 3379 المذكور امتثالًا لطلبٍ من الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، بعد 16 عامًا من تصديقه، (بالقرار 86/46 بتاريخ 16 كانون الأول/ديسمبر 1991). والملاحظة الملفتة، التي تدلُّ على ثقل السيطرة الأميركية في الأمم المتحدة، أنَّ قرارَ الإلغاء تم بأغلبية ساحقة بلغت 111 صوتًا ضد 25 صوتًا، وامتناع 13 صوتًا فقط عن التصويت.
والملاحظة الثانية التي تُشَكِلُ فضيحةً للأمم المتحدة أنَّ إلغاءَ قرارِ إدانة الصهيونية بالعنصرية، تمَّ بسطرٍ واحد، من غير إبداء أي أسبابٍ موجبة، أو أي شرح لحيثيات مثل هذا القرار، ولم يُكَلِّف أحدٌ نفسه عناء مناقشة الموضوع، بما في ذلك الدول العربية والإسلامية. فقد نصَّ قرار السطر الواحد على ما يلي: “قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلغاءَ القرار رقم 3379 الصادر في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975”.
لا يحتاجُ المُراقبُ إلى كثيرِ عناء ليعرف ما هي الأسباب التي حملت رئيس الولايات المتحدة إلى إلزام الأمم المتحدة بذلك القرار الممسوخ. يكفي أن يقرأَ سطرًا واحدًا من خطاب الرئيس بوش الأب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لتظهر أمام عينيه الملامح الصهيونية بأجلى صورها. فقد قال في خطابه ذاك: “إنَّ مُساواةَ الصهيونية بخطيئة العنصرية التي لا تُغتفر، هي تحريفٌ للتاريخ، ونكران لمأساة اليهود في الحرب العالمية الثانية، بل عبر التاريخ”.
لكن من حسن الحظ أنَّ دعوى دولة جنوب افريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية والتمييز العنصري، هي الأصدق إنباءً عن حقيقة الموضوع من جميع رؤساء أميركا منذ الحرب العالمية الأولى زمن الرئيس وودرو ويلسون الى اليوم زمن الرئيس جو بايدن.
ذلك أنَّ نضالَ جنوب إفريقيا ضد النظام العنصري الذي أقامه الاستعمار الأوروبي الأبيض ضد أهالي البلاد الأصليين من السود، وما انتهى إليه بتفكيك النظام العنصري السابق سلميًا، هو بحدِّ ذاته دليلٌ مُقنِعٌ بصوابية مضمون الدعوى، وجدّيتها. ولولا ذلك لما قبلت محكمة الجنايات الدولية النظر فيها.
وبالعودة الى قضية الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي ألفريد درايفوس في أواخر القرن التاسع عشر، الذي اتهمته المؤسّسة العسكرية في فرنسا بالخيانة العظمى بالادّعاء أنه باع أسرارًا عسكرية فرنسية إلى العدو الألماني عام 1894، واستمرَّ الجدلُ حول تورّطه أو براءته إلى عام 1906، يتبيَّن أنَّ تلك القضية التي لمع فيها نجم الكاتب الفرنسي إميل زولا في مقاله على الصفحة الأولى من جريدة “لورور”، بشكلِ رسالةٍ مُوَجَّهة إلى الرئيس الفرنسي فيليكس فور بعنوان “إني أتَّهم”، دافع فيه عن الضابط اليهودي مُعتَبِرًا أنَّ التهمة بحقّه كانت مُلَفَّقة، ما هي سوى مؤشر إلى إمكانية إخضاع العدالة للسياسة. وليس من عجب أن تبقى قضية درايفوس قابلة للاستعمال حتى اليوم، عندما يكون في مصلحة الدول النافذة تطويع العدالة لأغراضٍ غير عادلة.
فالإشارة، تلميحًا أو تصريحًا، إلى أنَّ المؤسسة العسكرية الفرنسية اختارت ضابطًا يهوديًا لإلصاق التهمة به تغطيةً على ما كان يجري آنذاك في داخل الجيش الفرنسي، وتوجيه الأنظار نحو اليهود ككبش محرقة عن إخفاقاته في مواجهة ألمانيا، ما زالت قابلة للاستعمال في أيِّ اتجاه. فالتلاعُب القضائي في هذه الدعوى، هو الشقيق التوأم للتلاعب الأُمَمي بقرار المنظمة الدولية إدانة الصهيونية بأنها عنصرية، ثم التراجع عنه من غَيرِ تعليلٍ سوى بعذر جورج بوش الذي هو أسوأ من ذنب، لأنه اعتبرَ أنَّ اليهود تعرّضوا للاضطهاد عبر التاريخ من غير ذنبٍ ارتكبوه، بما في ذلك طبعًا صلب المسيح… ولذلك أعطاهم الحق في اضطهاد الآخرين.
* سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي، ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن