أقل من أضعف الإيمان
سعاد الجزائري
أعادتني الأحداث الدامية التي (نمر) بها الآن، لم استخدم تعبير (يمر) بها أهل فلسطين، لأنّي ما زلت مع الذين يعتبرون فلسطين قضيتنا وكرامتنا جميعا وليس قضيتهم وحدهم، كما نراهم يواجهونها الآن وحدهم وبشجاعة وصبر أذهلا العالم الغربي المزدوج المعايير، والعالم العربي الذي برع بصمته وقوة تحمله على السكوت.
أحداث غزة أعادتني إلى الأعوام ١٩٧٨ إلى ١٩٨٢، إلى بيروت التي قضيت سنوات هناك تحت حماية الفلسطينيين لنا، نحن الذين طردتنا بلداننا وهددتنا بالاغتيال؛ لانّنا لم نتعلّم درس الصمت وعدم الاعتراض، ولأنَّ الاعتراض على الرأي ورصد الأخطاء صار سمة لازمتنا طوال حياتنا، ودفعنا جراء ذلك ثمنه غربتنا بعيدًا عن الوطن، وعشنا ثلاثة أرباع حياتنا تحت تسمية غريب أو مغترب أو لاجئ سياسي…
لا أحد منا ينسى كيف احتوتنا منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها العديدة آنذاك، ووفروا لنا الحماية والعمل معهم وبين صفوفهم، ودخلنا رجالا ونساء في دورات عسكرية للتدريب على السلاح، لتحقيق حلم الكفاح المسلح مثل غيفارا وكاسترو، لكننا لسنا مثلهما ولم يتحقق حلمنا..
أتذكر آنذاك مقولة الزعيم ياسر عرفات الذي قال يوما: (ان منظمة التحرير الفلسطينية هي واحة لحركات التحرر العربية)، ومن عاش في بيروت تلك السنوات سيتذكر هذه العبارة التي رددها الكثير ولن ننساها وفاءً للفلسطينيين الذي حموا ظهورنا من غدر حكامنا.
تحت حماية الجنح الفلسطيني استمرت حياتنا التي كانت مهددة بكواتم الصوت من قبل الانظمة التي غرّبتنا، والتي طاردتنا واغتالت في دروب وحواري بيروت الكثير من اصدقاء ورفاق نضالنا..
اليوم، وأنا أراقب بنفس مخنوق وروح مكلومة احداث غزة، واشهد صعود الارواح الفلسطينية إلى السماء التي ازدحمت بموتهم الجماعي، أشعر بالعار لأني في مكان آمن يمارس فيه الناس حياتهم بشكل اعتيادي وكأنَّ ما يحصل عبارة عن فيلم اجاد مخرجه في تصوير لقطات متنوعة لانواع مختلفة من الموت والقتل؛ سواء بالقصف الجوي، أو بطائرات مسيرة، ورميًا من البحر، ثم تهديم العمارات على رؤوس ساكنيها، عدا عن بشاعة قطع الكهرباء والماء عن المستشفيات، ومنع وصول الامدادات والمعونات لسكان غزة، ونحن جميعًا نراقب هذه الاحداث من بيوت دافئة ونظيفة، ثلاجاتنا مليئة بالاكل وخدمة الانترنيت متوفرة أربعًا وعشرين ساعة. بالتأكيد سيقول البعض: هل علينا أن نموت ونجوع مثلهم؟ لا.. ولكن لنكون معهم حقا، كموقف مؤثر وكشعوب عربية مجتمعة تفرض رأيها على العالم ولو لمرة واحدة على الاقل، ليسجل التاريخ هذا الموقف، خير من أن نترك عار صمتنا للأجيال اللاحقة.
ابنة المناضل تشي غيفارا أليدا، تتساءل في خطابها الداعم لفلسطين بقولها: (إنّنا نبعد عن فلسطين آلاف الاميال، لكني استغرب وأتساءل، أين العرب الذين يحيطون بفلسطين من كل جانب وهم على مقربة منها؟ اين موقفهم؟)
صحيح… أين نحن مما يحدث لارض تستلب وشعب يباد وكاميرات الاعلام تصور عن قرب لحظات الموت، وتدقق في اشلاء الذين تقطعوا تحت ركام العمارات والبيوت؟… أين نحن من كل هذا؟
حتى شعوب الغرب تظاهرت احتجاجا اكثر منا!
لم يسلط الضوء حتى في الاجتماعات التي تعرب عن قلقها، على الهدف الكامن وراء هذه الحرب التي بدأت بـ ٧ اكتوبر، مثلا ازاحة أهل غزة ليمر الطريق التجاري الذي سيغير الكثير وسيلغي الكثير، وستدفع بعض الدول الثمن غاليا بسببه، وستقبض بعض الدول ثمنا غاليا بسببه ايضا… عدا عن تكرار مأساة ٤٨ والتي بدأت عمليا، فعاد اهل غزة إلى الخيام وما زال العرب ينتظرون نتيجة المحادثات على حساب المقابر الجماعية والابادة العرقية، ومساجدنا تصيح (الله أكبر) لكن القتل مستمر والموت يتزايد والدفن صار بالجملة.. وقد نكتب جميعنا اسماءنا على ايدي اطفالنا واحفادنا بينما الاحتلال يتمدد طولا وعرضا، والحكومات تنتظر نتائج المباحثات وما يفصّله الغرب لنا لنلبسه حتى لو كان ثوبا مهلهلا ورثا مطرزا بهزيمة العرب وشجاعة الفلسطينيين..
إن ما يفعله اليوم بعض العرب هو أقل حتى من أضعف الإيمان، لان بعض القلوب بدلت دماءها فوتغذت شرايينها من الدم الفاسد…