اندفعت أسراب من خفافيش الليل، لتقتحم السماء عند غروب الشمس، تدور في فضائها كطائرات الشبح في سرب غير متجانس، بدت للناظر، وكأنها لوحة متشابكة المعالم لفنان أربكه صخب الزمان، فغطى الورقة البيضاء بطلاء أسود، وصنع من أجنحة الخفافيش المتراصة جدارًا أصبح فاصلًا بين السماء والأرض، فحجب الغسق وساد السواد.
تغوص خفافيش الليل في أعماق الماضي، على حساب إهمال الحاضر، وتحويل حياة الناس إلى مأتم ينزف بحورًا من دماء الأنين والشجن.
تنزع خفافيش الليل ثياب الضمير عن أجساد الناس، وتزرع في أحشائها بذور التشتت والخمود، فتولد الأشجار ذات جذور هزيلة، عاجزة على التماسك، والثبات. تجعلها قلقةً، مضطربةً، منكسةً، بحيث تصبح غير قادرة على إنتاج الثمار. بينما تحمل أغصانها أوراقًا شاحبةً، واهنةً، تتساقط مع أول نسمة ريح خفيفة.
لقد أنشؤوا حديقة خربة، أرضها جرداء، ليس فيها أي أثر للحياة. حتى قطرات الندى لا تقوى على الجلوس في أحضان الأوراق الخائرة، فتهوى منهكة على الأرض، فتذوب في تربتها المنخفضة، الرطبة، والرخوة، ولا تستقر القدم عليها ثابتة، فتهبط إلى الدرك الأسفل في سهل النفاق والشقاق…
لقد جعلوا من اليأس، والانكسار، والانحدار، جوهر قداستهم. وحولوا هذا الكائن الحي بكل قواه العقلية والفكرية إلى أجساد مخدرة، تقودها أجهزة محكمة، ذات خطوط مبرمجة.
تغرس خفافيش الليل بذور الموت في كل نفس حية، مع بقاء الجسد منتصبًا بلا وعي، ليهيم نحو هاوية عميقة.
لقد أرعبوا الناس بخرافات العصور القديمة، حتى بات المرء يعيش مع الأوهام دائمًا، ويتخيل أنه واقف وجهًا لوجه مع ملك الموت، وعليه أن يحسب ساعات نهاره ولياليه، وبدلًا من الاستفادة من كل لحظة من حياته بالضحك والاستمتاع بالموسيقى ونسائم الحياة البهية، حتى تنتعش الروح وتنقله إلى عالم الحب والسلام.
تحارب خفافيش الليل الناس، إذا فاضت قلوبهم مما يجعل هذه الخفافيش تقتحم أحلام الفقراء لتحجب النور عنهم.
تختلط الحَيْرَة والريبة في بوتقة الأمل حتى ساعة الموت. أوصلت خفافيش الليل بأفعالها الشريرة والمفترسة الحياة البشرية في هذه البقعة إلى نقطة اللاجدوى، ولم يعد الناس يهتمون بمستقبلهم. ينتابهم الشعور بالرعب، والخوف، وتمتلئ قلوبهم بالأسى، مثل رغوة حارقة تمنعهم من التنفس.
قادت الخفافيش الليل الناس إلى أروقة الوهم، وأقنعتهم أن الشياطين المرئية على هيئة بشر، ملاك محاط بهالة من النور، تبعدهم عن شر الشياطين غير المرئية.
اختفت الأشجار، والورود، المنتشرة في نمط هندسي متجانس على جانبي الطريق وسط دوامة الدُّخَان الأسود، وتحطمت المناظر الطبيعية الخلابة، حتى فقدت العيون قدرتها على الرؤية، ولم تبق منها إلا سمومه، تسللت إلى الأنوف، فيلفه خناق الموت. كما ويجبرون الناس على شم الهواء الفاسد، في ليلة غاب فيها القمر.
بعد أن اعتلت خفافيش الليل جدران الصدور، أن تتكيف متغيرات الطقس وتبادل الليل والنهار والتحكم بالمواسم. حتى بات الناس يعيشون دون الشعور، تحت تأثير حقنة المورفين في تطلعاتهم. يشجعون الضعفاء على عزاء التحمل والصبر وأن يكونوا ودائع رقيقين مستسلمين خاضعين.
كلما توهجت الشمس واتقد الفكر واستيقظ العقل من سباته، يتسلل القلق إلى جحورهم، ويقتحم مضاجعهم ويستبد بهم الهلع، ينطلقون مثل حصان طروادة نحو أوكارهم الخبيثة في الغرف الفاسدة يتهامسون شرًا.
انهم قراصنة العصر جاؤوا على متن سفينة متهالكة عبر الضباب الكثيف باتجاه جزيرة الأحلام، الهائمة على بحر من الذهب، وقد أهلكتها الأمواج المتلاطمة منذ سنوات. اغتنموا فرصة نيام أهل الجزيرة وبمساعدة سفهاء القوم تمكنوا من الاستيلاء على خزانة الذهب.
عانت جموع غفيرة من قسوة الزمن لفقدانهم هَمْ الطائر العذب المسمى الحرية. وبدلًا من أن تحررهم من أغلال الظلم والقهر، صبوا عليهم المزيد من النار، وحبسوهم في قفص كبير، أبوابه مفتوحة، ولكن بعيدًا عن الخروج، وأوهموهم أن زمن العذاب قد انتهى ولن يعود.
اتخذت الحقائق أشكالا ذات قوالب مختلفة، وكأن للحقيقة وجوهًا عدّة، وفجأة تحولت بين عشية وضحاها إلى لحية غير متناسقة، كثة، رثة، مبتذلة، تنبعث منها رائحة نتنة. وسرعان ما امتهنوا وظيفة السرقة والتضليل تحت راية الفضيلة وإيقاعات الحلال والحرام. بل حولوا الخسة والرذيلة إلى شعارات ترددها فئة كبيرة من الناس، يخدرهم فيروس الخرافة في صلواتهم.
جعلوا من البشر، أمعة، مخلوقات ضارة عديمة الفائدة، تنمو وتنضج ضمن بيئة عفنة، فتنتشر رائحتها لتغطي مساحات أوسع.
الوطن مثل الإنسان يمكن أن يتعفن ويتحول إلى جثة هامدة، طالمَا تمادت خفافيش الليل في غيًّهم بتهجين الناس بنشر أساطير العصور الوسطى وتحويل الوطن إلى مكان مرعب ورهيب.
وتستمر هذه الخفافيش في التحليق جهارًا دون أي رادع، وترصد من كثب وتحرص على منع السحب السوداء، التي غطت أديم السماء من التبدد.
ومع ذلك لا يمكنهم صد الرياح المنعشة القادمة من الأنهار الصالحة والنقية التي توشك أن تهب في المسار الصحيح، لتدفع السحب الداكنة بعيدًا.
وبعد أن تظهر الشمس مرة أخرى، وتلقي بريقها الساطع على المنحدرات، والسهول، والوديان، وقمم الجبال الشماء، وفوق أسطح البيوت، في القرى، والأرياف المرهقة، والمدن المهجورة، سيزحف الناس بهدوء وحزم، نحو اوكارهم المشبوهة، الملغومة بالضغينة، والأحقاد، وسرعان ما ينتفضون ضد القهر والطغيان حاملين شعلة الحرية ويهتفون بصوت عالٍ نعم للوطن.