الخطاب الأيديولوجي في السينما
قيس الزبيدي
الإيديولوجيا هي نفسها ممارسة
الدكتور محمد عابد الجابري
وجدت اللغة السينمائية لغايات فنية وأيديولوجية محددة وهي تخدم هذه الغايات وتتميز بها، كما إن خطابها مشبع بطموحات معرفية وأخلاقية وهي لا تخلق فقط لكي تحدث مزيدا من الجمال في العالم وحسب، ولكن أيضا لتقول لنا ما هي حقيقة المجتمع وجوهره الذي نعيش فيه.
الإيديولوجيا: ألتعدد المفاهيمي.
تؤكد المعارف المعاصرة على أن أي تصور ذهني للذات الإنسانية هي حالة من نشاط فكري، لا تبقى بمنأى عن الإيديولوجيا، على هذا علينا أن نتساءل، بداية، ماذا تعني حقا كلمة أو مصطلح إيديولوجيا؟
يتم تعريف الإيديولوجيا، في العام، كنسق من الآراء والأفكار والنظريات السياسية والحقوقية والدينية والأخلاقية والجمالية والفلسفية. والايدولوجيا، التي تتحدد بظروف حياة المجتمع المادية، على أساس من كونها جزءا من الوعي الاجتماعي وتعكس العلاقات الاجتماعية في المجتمع الطبقي وتتسم بطابعه.
هناك تعاريف عديدة لمفهوم الإيديولوجيا، نشأت في مراحل تاريخية/اجتماعية مختلفة، عبرت فيها عن طبيعة الصراع والتناقضات الطبقية والسياسية السائدة في المجتمع، عن أفكارها ومصالحها، مثلت، من جهة، قوى اجتماعية سائدة، كما مثلت، من جهة أخرى أفكاراً مضادة، لقوى اجتماعية أخرى، خضع وجودها الاجتماعي للنظام السائد، وتطابقت أيديولوجيتها، بهذا القدر أو ذاك، مع متطلبات التطور الاجتماعي وانطوت على أفكار صحيحة عن الواقع. من هنا يأتي الصراع في ميدان الإيديولوجيا انعكاسا طبيعياً لتضارب المصالح الطبقية، ويمثل، في الأساس، شكلا من أشكال صراعها الاجتماعي. ونتيجة لهذه الصراعات لا يمكن أن توجد أيديولوجيات لا تفترض وجود إيديولوجيات أخرى.
وضمن التعريفات التأسيسية لمفهوم الإيديولوجيا، الذي حافظ على أصل المفهوم ثم أضيفت إليه تكميلات، لا تتنافر معه كمفهوم، هو تعريف “ايتينا ميناريك، في كتاب “الخمسون كلمة المفتاح لعلم النفس الاجتماعي” حيث تُعرف فيه الإيديولوجيا بكونها كل منظم لمجموعة من الأفكار والمعتقدات والفرضيات المشتركة المتعلقة بالمسببات والمبادئ المُشخصة لمختلف ظواهر الحياة الاجتماعية وتشمل كل وجهات النظر لفريق اجتماعي ولأفكار سياسية، تؤسس، في مجموعها، قاعدة أيديولوجية لشكل دولة وتمثلها، أكانت غربية أو شرقية أو اشتراكية.
وفي الاتجاه العام نفسه يُعرّف ريمون بودون وفرانسوا بوريك الإيديولوجيا في قاموسهما التقني “المعجم النقدي في علم الاجتماع” كالتالي: نسق من القيم أو من المعتقدات التي لا تعني بالضرورة الإشارة إلى مفاهيم وأفكار مقدسة أو ذات طبيعة متعالية، موضوعها التعامل، خاصة، مع التنظيم الاجتماعي والسياسي أو عامة مع صيرورتهما المشتركة في المجتمع.
وفي المعجم العام للعلوم الإنسانية يعرفها “جورج تينيس واغنس لومبرو” كتبعية فكرية لموقف معين إزاء المجتمع لتصبح الايدولوجيا تصورا ذهنيا محصورا لهذه التبعية الفكرية نفسها، باتجاه مختلف الأشكال الاجتماعية ويرى تعريفهما أصل المفهوم ووظيفته، متمثلين في نماذج نظرية مختلفة.
ويعطي قاموس اندريه لالاند تعريفين فلسفيين للايدولوجيا:
الأول: ضمن وظيفة اجتماعية عامة، تمارسها المؤسسات السياسية القائمة، بعيداً عن التعريف العام لجوهر المصطلح، تتجاوز وظيفته الأساسية إلى وظيفة ملموسة، بحيث تصبح المعتقد الملهم، الذي يبدو وكأنه يُلهم أفكار حكومة ما أو حزب ما. و
الثاني: منبثق من الاستخدام الواسع لهذا المفهوم، من قبل مجموعة من الفلاسفة أو في فكر فيلسوف معين. ويرى أن الإيديولوجيا هي تفكير نظري يتطور ذاتياً على نحو تجريدي معتمداً على طاقاته الخالصة، لكنه يعبر في الواقع عن الفعاليات الاجتماعية، خصوصا تلك التي قد لا يعيها القائم ببناء الإيديولوجيا نفسها أو لاً يعيها من لا يعرف، على الأقل، بان هذه الفعاليات هي التي تُحدد وتُعيّن أفكاره، وبهذا المعنى تستخدم الكلمة في الفكر الماركسي.
ومع ماركس اتخذ مفهوم الإيديولوجيا وجها لأهم عملية نقدية تحليلية في النظام الفكري الفلسفي، دون أن يغفل مرورا بالمرحلة الماركسية التي شن فيها ماركس هجومه على الإيديولوجيا الألمانية واعتبرها وعياً خاطئاً.
وتقدم مادلين غرافتس في قاموسها “معجم العلوم الاجتماعية” تلخيصا مكثفا لنقد ماركس للايدولوجيا والمراحل، التي تَحدد وفقها هذا المفهوم في فكره، حيث وجد فيه أسلوباً لتغطية وإخفاء المحركات الحقيقية للواقع والتاريخ، اخترعته، اقتصادياً ومالياً، الطبقات السائدة كبناء فوقي يحمي مكانتها ويصون نظامها السياسي.
يمكن أن تمتلك الإيديولوجيات، في الوقت نفسه، دورا ايجابيا لان مضامينها الداخلية ليست وهماً أو استيهاماً مطلقاً، بل هي نتائج لبعض الحقائق الملموسة، لكنها مسخ وتُحرّف جزئياً الشروط التاريخية والاجتماعية لكل حقبة تاريخية. وبالتالي أصبح المفهوم النهائي يُعرفها، وفقا لمدرسة فرانكفورت، كمنظومة أفكار متناسقة تشترك عضوياً، لتبني نظرة وموقفاً متجانسيّن، إلى كل من الكون والمجتمع وإلى كل مكونات الواقع العيني الملموس.
وعلى مستوى الفرد تكون منظومة أفكاره نتاجاً لإستراتيجية فردية، تحقق ذاته ضمن واقع اجتماعي موضوعي يتمخض عن حقبة تاريخية، يكون فيها الفرد مُجبراً بالضرورة، بوعي أو بغير وعي، على إدراج الواقع ضمن تكوين منظومته الفكرية، مع إدراج شروط الواقع الخارجي في مشروعه الذهني.
ويرى الدكتور محمد عابد الجابري أن الإنسان لا يكتسب مبادئه ومفاهيمه بشكل فطري أو غريزي، إنما يكتسبها نتيجة لاحتكاكه بمحيطه الطبيعي والاجتماعي والثقافي. وتأتي أهمية خصوصية المحيط في تشكيل خصوصية الفكر من جملة من المبادئ والمفاهيم والآليات التي تترسخ في ذهنه، منذ بداية تفتحه على الحياة، لتشكل فيما بعد عقله، الذي يفكر بوساطته، ويكوّن جهازه،الذي يفهم ويؤول ويحاكم ويخالف. ولا جدال في إن الفنان يعبر في الإعمال التي يؤلفها عن أفكاره الخاصة وأحاسيسه الذاتية وعن كل غزارة حياته الروحية الشخصية. وبهذا المعنى فان إبداعه هو دائما تعبير ذات.
إن معرفة الفنان للحياة التي تلعب دورا هاما في نشاط العالم لا تعطي وحدها الشيء الجوهري، لأنه بحاجة إلى ذلك التلاحم بين المعرفة والتقويم بين الذاتي والموضوعي. لان الفنان يشكل، بقوة تصعيده الذاتي، في عمق الأشياء، بناء وحدة جديدة من عمق الذاتي وعمق الموضوعي. وتبقى المهمة التي يواجهها الفكر، ليست في فهم العالم والمجتمع، إنما في محاولته السيطرة أكثر فأكثر على مقبض الماكينة الاجتماعية، التي تتحكم في وجوده وتقرر مصيره، وذلك عن طريق المساهمة في معرفة آليات التناقضات الاجتماعية وتسليط الضوء عليها، بهدف المساهمة في عملية التغيير. لكن حينما تصبح الإيديولوجيا بمنزلة نظام، يقوم على أساس من التصورات لقيم مُسبقةـ تتمسك بوجهات نظر وظنون ثابتة وتلتزم بها كغاية في ذاتها، عندها تتعارض الإيديولوجيا، كلياً، مع حقيقة الواقع وظواهره.
نجد كل هذه المفاهيم المختلفة إن مصطلح “رؤية العالم” الألمانية weltanschauung التي تقابل المصطلح اليونانيIdeology يطلق دائما على كل عملية إنتاج فكرية فنية، ترتبط بذات تقوم، على أساسها، برؤية موضوع من العالم والحياة وتمارس تقويمه.
ويأتي مصدر الإيديولوجيا وهيمنتها غالبا من سلطة الدولة الحديثة، التي أصبح موقعها – حسب فوكو – ينتظم في اتجاهين، لكل منهما معناه الخاص، فمن جهة يوجد للدولة موقع، لأنها ليست على الإطلاق شمولية، لكن من جهة أخرى لا يوجد لها موقع، وليست قابلة لان تحصر نفسها في موقع، لأنها منتشرة، تتغلغل في كل جانب، وتتصرف بعنف أو تمارس نفسها كايدولوجيا. تارة تقمع وأخرى تُموه أو تخدع وتوهم، تارة كشرطي وتارة كدعاية. وتنتج سلطتها، بكل هذه الأساليب، الواقع، قبل أن تقمع كما تنتج سلطتها الحقيقية، بكل هذه الأساليب، الواقع، قبل أن تقمع كما تنتج الحقيقة، قبل أن تضفي عليها رداء ايدولوجياً.
أين تقع الايدولوجيا في حقل السينما؟
باعتقادنا ان التعرف على وجود علاقة بين الإيديولوجيا والسينما يتطلب أولا النظر في الكيفية التي تتم فيها، اجتماعياً، عملية صنع الأفلام، ويتطلب هذا بدوره فحص ثلاثة مكونات أساسية وتبيان عناصرها الفاعلة وهي:
التصور و الصورة و الوسيط
لكي نحلل المكونات الثلاثة، خصوصاً، وإن لكل منها طبيعته الخاصة المختلفة عن المُكوّن الآخر، سنحاول أن نسلط الضوء على كل مكون منها على حدة.
التصور
التصور أداة فكرية تولد مخيالها الخاص من ظواهر واقعية، في صور ذهنية، تحاول تجسيدها في أشكال فنية، وتقترب، بهذا القدر أو ذاك، من جوهر وجودها الحقيقي في الواقع. ويحدد التصور علاقة الصورة بالواقع، من حيث هي علاقة بين ذات مُتصورة وموضوع مُصور.
إن إنتاج الأفكار والتصورات والوعي مشبوك مباشرة منذ بدأ الناس نشاطهم المادي ومعاشرتهم المادية، بلغة الحياة الفعلية. وإن تشكل تصورات الناس، وتفكيرهم، ومعاشرتهم الروحية هي نتيجة مباشرة أيضاً لأفعالهم المادية.
كيف يجسد التصور في صورة؟ وكيف تؤثر الإيديولوجيا كنظام من أفكار مسبقة في صنع عملية تجسيد التصور؟ وهل تصبح الصورة المُجسدة، حقاً، نتاجاً لذات متصورها؟ آم تتجسد، في الوقت نفسه، من تصورات أخرى مماثلة أو متعارضة؟
يستقي الفنان صور موضوعه من الحياة ويعالجها ويعيد خلقها وفقا لتصوره الذاتي. ومن المفهوم أن تصور الذات لا يمكن أن تكشف الموضوع وتحيط به إلا بشكل نسبي، مما يعطي لمعرفة الفنان بالحياة مباشرة قوة فاعلة ترتبط جدليا بتصوره ورؤيته الفكرية الخاصة للعالم.
تلتقي الذات بالموضوع بوساطة الفيلم، وقبل هذا اللقاء تقترب الذات أولاً من الموضوع الواقعي، قبل عملية تجسيده المادي، عبر اللغة. تختار الذات موضوعاً وتتصور تشكيله في صور وأصوات. وتمر عملية التصور بمراحل إنتاجية مختلفة، تسعى فيها الذات إلى التعرف على حقيقة الموضوع المُختار، لكن أيضا تشارك الذات ذوات أخرى تسعى بدورها لتحقيق حضور الموضوع، وفقا لتصورها أيضا، إلى الفيلم المُنتج.
في فن التشكيل تعبر الصورة المجسدة في اللوحة عن تصور الرسام الخاص، وفقاً لعملية خلق مركبة ومعقدة، لكنها في آخر المطاف تكون في الغالب ذاتية. أما في السينما، وبسبب طبيعة الفيلم المصور، الذي هدفه الوصول إلى عرض اجتماعي، فقد أصبحت طبيعة التصور الذاتية تدخل، وما تزال، في تصادمات ونزاعات مع أصحاب المال المُنتجين. ويضع كل تاريخ تطور السينما أمامنا مثل هذا النزاع، الذي كان الفيلم والمخرج الذي تصوره، ضحية لنوع العرض السائد، الذي يحاول المنتج، أياً كان، من الفيلم أن يتطابق مع شروط عرضه.
وتندر الحالات التي يتطابق فيها تصور صانع الفيلم الفنان، مع تصور منتجه. ولا يستند موقف المنتج على تصور ما يريد الجمهور مشاهدته فعلاً، إنما على تصور لنوع مشاهدة، يبقي الجمهور أسيرها.
مرة أخرى ما هي الذات؟ وهل تصنع وحدها الخطاب ومغزاه؟ والى أي مدى يكون موضوع الفيلم الموجود في الواقع، مجسداً بشكل يتطابق مع صورة تصوره المُتخيل؟ تصور يعيد إنتاج موضوع منتقى موجود موضوعيا بناء على مقياس ذهني يخضع لقناعة فكرية تجسد إعادة خلقه في وجود تقني/فني ثان، بحيث يتطابق إلى حد ما، من جهة، مع وجوده كما يتطابق، من جهة أخرى، مع تصور، يخلق وجوده المضاعف. كذلك يخضع وجوده إلى طبيعة شروط الوسيط الفيلمي، ذي الطبيعة الواقعية. ولا تتم هذه العملية إلا ضمن دائرة صراع وتناقضات بين العناصر الثلاثة المكونة لشكل الموضوع الفني، فالتصور يخضع إلى قناعة فكرية أيديولوجية لا تكون بالضرورة مقاربة لحقيقة جوهره، لأنها تظهره كما تتصوره، كما إن الوسيط الفيلمي يظهره وفقا لطبيعته السينمائية وتقنياته وأدوات تعبيره.
نستطيع أن نقول إن العناصر التي تصنع بنية الفيلم وتجسد فكرته الفنية كي تصل بها إلى مغزى فكري، هي عوامل مكونة أساسية ثلاثة. ذات إنسانية تتناول موضوع من الواقع وتعبر عنه في شكل فني عبر وسيط تقني.
الصورة
خلقت الصورة الفوتوغرافية علاقة جديدة بالزمن، بعد أن قامت بتثبيت لحظة معينة، ثم قامت، من خلال الصورة المتحركة بتسجيل الامتداد الزمني، أو بطباعة الزمن. إذ وجد بازان أن الصورة “الفوتوغرافيا تعمل بوساطة “عدسة” على تسجيل صورة واقع في لحظة زمنية، بينما تسجل السينماتوغرافيا الصورة في ديمومتها الزمنية. وبرهنت بهذا على تدمير المفهوم التقليدي للزمن، وجعلت جمهورها الغفير، يراها مدرسة للحياة وليس مصنعاً للأحلام. فالناس تنظر إلى الأحداث على الشاشة بالضبط كما تنظر إلى الأحداث اليومية وتعتبر الفيلم مجرد قناة تعيد إنتاج الواقع. فعلى صعيد المستوى التاريخي تكشف سبر تأثير ظهور الصورة بشكلها الحالي من منظور رغبة الإنسان في تصوير الواقع، مع مقارنة الصورة بفنون وآداب المحاكاة، لإظهار كيف أن الصورة هي فن الإيهام بامتياز. لان المشاهد الذي يتابع مشاهدة الصور، يصدق ما يراه، ناسياً أو متناسياً وجود شاشة، تشكل حداً فاصلاً بين الواقع والخيال.
إن ما يميّز الرؤية الفيلمية، يرتبط بمشاهدة المتفرج بزاوية آلة التصوير، ويرتبط أيضاً، بمشاهدة المتفرج مواضيع تحدد (عين) آلة التصوير شكلها الخاص. وإن إمكانات التعبير متضمنة سواء في شكل تركيب الصورة وفي شكل تكوين ما هو مرئي في الصورة/ اللقطة: أي تنظيم كل التفاصيل المرئية ضمن إطار الصورة: الناس والأشياء في حالة الهدوء أو الحركة، وتوزيع النور والظلال ومن ثم الألوان، واتجاه حركة الأشياء في الصورة، وتأثير الخطوط العمودية والأفقية في العمق، وعلاقة مكونات الصورة البصرية والسمعية، ومدة زمن الصورة وحدة الرؤية في الصورة أو تشويهات المرئي فيها بوساطة العدسة، وتأطير المرئي بوساطة حواجب خاصة والتقسيم الممكن للصورة إلى أجزاء صورة، أي ما يسمى (تقسيم الشاشة).
تملك الصورة كمدرك حسي (Percept) علاقة مباشرة بالموضوع الذي تصوره، وتحوله بسبب المشابهة إلى علامة أيقونية. وتأتي الدلالة من علاقة العلامة بوجود المرجع ومن وحدتهما. إذًا فالمدلول هو الذي يربط عملية التصوّر الذهني على أساس علاقته بالمرجع في الواقع الخارجي أو الاجتماعي.أن كل صورة تمر على الشاشة هي علامة، أي إنها ذات دلالة وحاملة للمعلومات، غير أن طبيعة العلامة السائدة في السينما هي أيقونية، هي حضور المرجع في الواقع مع كل ما يملكه من مواصفات. ونستخلص من كل ذلك أن الصورة كإيقونة:
تشترك، في كل منحنى، مع الموضوع التي تدل عليه و
تمثل الموضوع الذي تدل عليه وتشبهه و
تقيم علاقة ذهنية بينها وبين الموضوع،الذي تصوره وتدل عليه، وهي علاقة تنشأ فقط في وعي من يتصورها و
تحاكي طبيعة الموضوع الذي تصوره و
لا يكون وجود الموضوع، الذي تتصوره، موجوداً، بالضرورة، في الواقع و
تشبه، بالدرجة الأولى موضوعها، لكنها تكون، بالدرجة الثانية، رمزية أو ذات طبيعة نصية
وإذا قارنا الصورة بمجالات إبداعية أخرى مثل المسرح والرواية والرسم فسنلاحظ أن الصورة تتميز:
أولاً : بأنها إيهامية بشكل كبير بسبب أن إمكانياتها عالية في نقل كل جزئيات الواقع.
ثانيا: بأنها تؤثر في متلقيها حسياً، بالدرجة الأولى، فهي تواجه العين ومن ثم العقل.
ثالثاً : بأنها تخلق بينها وبين متلقيها علاقة مباشرة، فهي إذ تُغيّب صانعها، ينسى متلقيها، وهو يدخل عالم الإيهام، وجود الشاشة التي تشكل الوجود المادي والحقيقي الوحيد أمامه.
الوسيط
الفيلم هو أولاً وسيط تقني يتحول إلى أداة تعبير. وتبقى مسألة استخدام نظامه كوسيط إشكالية تدعو للنقاش، ولمعرفة القواعد والقوانين التي تحكم نظامه. وقد شكل تطور نوعية الفيلم البصرية الخاصة، منذ بداية القرن العشرين، قاعدة انطلاق مهمة للبحث عن أشكال تعبير جديدة وتقنية واستقبال، تطورت، بدورها، في مسيرة اكتشاف وسائل تعبير جمالية جديدة. ويستند الفيلم السينمائي، بخاصية تامة، على شروط ومعايير إنتاج وتوفير وتمثيل واستقبال مضامينه ونشرها بشكل واسع. وله قاعدة مادية، فهو ينشأ أولا من أشرطة سيلولويد مُصورة أو من تسجيلات مغناطيسية أو من مجموعة معلومات تخزن في أقراص مضغوطة (دي.في.دي مثلا) وينشأ ثانياً من مجموعة علامات مرتبة، إما تكون واقعية، في محيط ثقافتنا الشاملة، أو مجردة، يتم فيها تبادل أنظمة علامات ونصوص متنوعة.
إن فهم ما يُسمى مجازاً “لغة الفيلم” هو خطوة أولى نحو فهم وظيفته الفنية وفهم أيديولوجيته، فالتقدم التكنولوجي، – حسب لوتمان – سلاح ذو حدين، فبدلا من أن يقتصر على خدمة المجتمع وخيره يستعمل بنجاح لخدمة أهداف مضادة. ولا شك أن استعمال العلامات في وسائل الاتصال هو أحد أهم المكاسب البشرية لكنه، لم ينجُ أيضا من هذا المصير، فبينما كان المطلوب من العلامات خدمة الإعلام المطابق للحقيقة، نراها تستخدم غالبا وبشكل متزايد لخدمة التضليل.
ومع أن الصورة الفوتوغرافية جمعت، أولاُ، كل خصال الوثيقة الدامغة واحتلت الصدارة وعُدت “النص-الوثيقة” الأكثر دقة وأمانة في نظام النصوص، باعتراف الخبراء والجنائيين والمؤرخين، إلا أن مجيء اختراع السينما التقني، كصور فوتوغرافية متحركة، جعلنا نعتقد بوجود البعد الثالث بحيث وصلت الدقة في نقل الواقع إلى أعلي درجة من الكمال، لدرجة يُخيّل فيها للمشاهدين ويدفعهم إلى الاعتقاد، بأن ما يشاهدون على الشاشة هو حقيقي تماماً.
ورغم أن ميكانيكية الفيلم وطبيعته التقنية تتلخص في معطياتهما الواقعي، الذي هو مأثرة السينما الكبرى، ورغم وجود تيارات بالغة التنوع تحت مظلة الواقعية إلا أن واقعية الفيلم تبقى نتيجة لتصور موضوع من الواقع تنتجه ذات لتجعل مشاهديه يتوهمون أن كل ما يمرّ أمامهم على الشاشة ينتمي إلى الواقع الحقيقي. بمعنى آخر إن التصور يصنع صورة لعالم خاص رديف لعالمنا الواقعي، ونحن نقبله لأنه عالم معروض لنا على الشاشة. وبدأنا نشهد تحولات هائلة في فلسفة المعرفة وفي شكل إدراك العالم، خاصة بعد تخطي مرحلة الصورة النقطية واختراع (الصورة الرقمية)، الذي يسمح بعمليات تركيبية عالية المهارة، وهكذا أصبحنا نعيش في عالم تصنعه لنا الصور.
كيف هو الواقع واقعيا؟
وصف الأخوان لوميير السينما في براءة اختراعهما عام 1895، على أساس من خاصية الحركة، بأنها آلة لإعادة إنتاج الحياة الحقيقية، لأن تسجيل وتمثيل الحركة هو قدرة السينما على رسم العالم المرئي الذي تعيد إنتاجه. إن تأليف صور العالم بوساطة الكاميرا، أي إعادة تأليف صور، لا تخضع لإرادة الفنان وحده، إنما تخضع، في تأليف الصور، التي تسجلها عدسته، إلى حضور أشياء الواقع على شريط فيلمه الحساس.
فالسينما هي أولا فن الواقع أما بأمانة أسلوب واقعي نسبيا، أو فن الواقع الواقعي بأسلوب يحلل الواقع ويجعله قريبا من السحر والخيال. ورغم ذلك فإن الصراع الدائم بين تصور الواقع وحقيقة تسجيله في الصورة كان المصدر الأساس للإبداع في فن السينما.
فبعد اختراع التصوير الفوتوغرافي في حدود النصف الثاني من القرن التاسع عشر (عام 1840)، تحقق حلم الإنسان عبر العصور بتصوير الواقع على أكمل وجه. وطال هذا الاختراع بتأثيره الهائل كل الفنون التصويرية والآداب على المستوى الفكري والجمالي والتعبيري، بحيث بدأت النزعة الواقعية تنحسر وتظهر مدارس جديدة مثل الانطباعية والتكعيبية والسريالية في الفنون والمسرح. ويبقى، حتى الآن، سحر السينما وروعتها بالنسبة للجمهور هو وهم تصويرها الواقع المضاعف عبر أمانة صورة طبق الأصل وعبر الحركة وعبر البساطة التي تبني شكل الفيلم وفقا لهذا الوهم، أكثر من أي شيء آخر، وهو ما يميز حتى اليوم روعة الفيلم الروائي بشكل عام والتسجيلي بشكل خاص. على هذا تكون أول معضلة تطرح أمام الباحث على مدار البحث، هي معضلة الحلم والواقع أو بالأحرى معضلة التصور الذهني الأدبي ومضمون الصورة الواقعية .
تشكل خاصية الفيلم البنائية الأساس، الذي يقوم على مبدأ انتقاء صور الواقع، إشكالية العلاقة بين الموضوعية والذاتية في الفيلم. فعملية اختيار بعض صور وأحداث من الكون، تخضع لمراد صانع الفيلم وإعادة إنتاج وطرق مونتاج مميزة تنتج عن ضرورة عملية تحريف تقنية التصوير والمضمون. وهو ما يتضمن وقتذاك لحظات منتقاة ويرفض الباحث فولفغانغ غيرش وجود أي فرق تقني بين الفيلم كعملية إعادة إنتاج وبين الفيلم كوسيلة تعبير. إن مجرد اختيار الموضوع المصور عبر جهازالكاميرا، يعني، حتى قبل المونتاج والبناء، مسالة تعبير. وهذا يعني مسالة تأويل. فتصوير الموضوع من مسافة وزاوية معينة والعناية بحدة وضوح الصورة وترتيب وعلاقات النور والإضاءة وتحديد مدة كل لقطة واعتماد نوع مادة فيلم خام الخ… لها، كعوامل في إعادة الإنتاج التقنية، مع موقع الذات، طابع تأويلي معبر. وكل هذا لا يمكن أن يعطي صورة “أمينة” للواقع الحقيقي.
إن مجرد القرار في النظر إلى أي جزء من العالم، عبر الكاميرا وتسجيله يؤكد ، أن عن الاعتراف أو عدمه، هو دائما أيضا مقطع من رؤية العالم، فالاختيار هو دائما تقويم وفي الواقع فان ذاتية المؤلفين تتضمن، في كل متر من الفيلم، عن طريق اختيار الموضوع وتحديد موقع الكاميرا ونوع العدسة ومن ثم في عملية المونتاج والمكساج، مكونات الصورة والصوت. وحتى في الفيلم التسجيلي، التي تبدو صوره للمتفرج، كعلامات أيقونية حاضرة مباشرة من الواقع، فإن المؤلف موجود، حتى لو اختفى في لغز الصورة، لكنه يبقى حاضراً بالفعل.
أخيرا سنحاول، باختصار، أن نختار بعض الأمثلة والتيارات، التي برزت في تاريخ السينما، علها تساعد على توضيح رؤيتنا للعلاقة بين مكونات التصور والصورة والوسيط.