“دردشةٌ” مع صديقي فولفغانغ*
يحيى علوان
مكفهراً ،ولا أقول ممتعضاً، سألني فولفغانغ المولع بتفكيك الخطاب نصاً ومفردات، سألني بحرقة،ونحن نجلس في مقهى ندردشُ :”لماذا لا تثورون على الأوضاع الكارثية في بلادكم ؟!”
لوهلةٍ، إضطربت مشاعري حد الفوضى، لأن سؤاله حرَثَ جرحاً في صدري..
قلتُ وجِلاً، مُتلعثماً،كمَنْ يدافع عن تُهمة وُجِّهت له :”لكن الناس خرجت إلى الشوارع والساحات، بمئات الآلاف خلال السنوات التي سبقت الكورونا ، ولم …! مئات القتلى وآلاف من الجرحى والمعوقين ، ناهيك عن المغيبين!
غدت الناسُ تتضوّر وتَتَلوّى خرساءَ، بعد أنْ نَزَفَت دمها والخيال من كسورِ”ممكنٍ “مشبوه !
فقد جاؤوا (الحاكمون) في غفلةٍ من البحر والطير.. ذبحوا النسيمَ ونثروا أشلاءنا على سيوف الحقد والكراهية.. فتكلَّسَ التأريخ في الخراب!
طوفانُ بلاءٍ صَيَّرَ البروقَ رصاصاً..
من سيحملُ نقيَّ عظامنا المتبقية من المذابح “الرحيمة” والحروب “المقدسة” ؟!
رسم إبتسامةً مشفّرةً وقال :” لن تُحرِّروا بلادكم بالهتافات في الساحات و بالخُطبِ من على منابر الوهم المُنوِّم.. فالحاكمونَ موغلونَ بأبتلاعِ البلاد ومواردها، تارة بالمداهنة وأخرى بالسيف.. فلا فائدةَ من الوَلوَلة ، لأنَّ الأخيرةَ لن تُعيدَ ما إنسكبَ من ماءٍ إلى جرّةٍ الندم والأسى”!
+ ” لكن ما ذنبُ الناس إذاً ، في زمانٍ يقصف العمر ويهذي موتاً، حين تساوى الجبانُ مع الشجاع منذ إختراع المسدس والبندقية؟” أجبتُ.
– : ” أين هو دور المثقفين والتنويريين ، الذين طالما قرَّعتَ رأسي بالحديث عنهم ؟”
+ كثرةٌ منهم إستطابت النوم في حضن السلطان، أدارت “دفَّةَ السفينة” نحو المحتل والحاكمين ومَنْ تسيَّدَ المشهد عنوةً، فأصيبوا برُهاب المرآةَ حتى لا يصابوا بالخجل من أنفسهم! أما المثقفون الحقيقيون فلاذَ قسمٌ منهم بالصمت كي يحافظ على رأسه بين كتفيه..! وقسمٌ ضئيلٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فولفغانغ باوتس أستاذ جامعي(سوسيولوجست) عمل عشر سنوات في نيكاراغوا أستاذاً في جامعة ماناغوا، قبل أنْ يحال على التقاعد، متابع للشأن السياسي في منطقتنا كذلك.
بقي يصارع الموج ضد التيار..لكن مَنْ يسمع وسط الضجيجِ والزعيق الهابط ؟!
فبسبب من الحروب الحمقاء والقمع المُمنهج لعقود خَلَتْ ، تَردَّت الثقافة والعقول، حدَّ الإنحطاط المروع، وإنتشرت الأمية بكل معانيها، حتى غدونا أمةً مُتيمَةً بالميتافيزيق/ الخرافة والغيب.. أمة تصنع لافتة وتروح تسجد لها، مثلما فعل أجدادنا الأوائل حين كانوا يصنعون آلهتهم من التمر ولمّا يجوعونَ يلتهمونها..
لذلك صرنا أمةً تدخرُ الثورة حتى يسقط النظام أو يأتي مَنْ يسقِطَه..
أمةٌ تؤمن بأنَّ” العجالةَ من الشيطان والصبرُ والهدوءُ من الرحمان”!
أمةٌ يدخر حكامها قِرشَ الحرية الأبيض لأيامنا السود..
وأرباب العمل يدخرون الشغل لأحفادهم وأقاربهم..
زوجاتٌ يدخرنَ في الثلاجة مشاعر الحب والرِقّة لفارسٍ أفلَتَ منهن مذ نجا أتونابشتم من الطوفان!”
– متى ستلتهمون “آلهة التمر” اللعينة؟ أما ضرَّكم الجوع ؟!! قالها بشيء من التهكم والمُكر،
+ إنَّ شعباً يريدُ التحرُّرَ من القمع والإستبداد والإحتلال ، لا يسكن الوفاء لأرضه قلوبَ أبنائه ، وأبناؤه لا يحترمون حقوقَ المختلف الآخر ولا قدسية الحياة ، ستظل حريته منقوصة ونضاله أعرج، خاصة بعدَ شيوع مظاهر التفاهة وتكاثر التافهين،حيثُ “تساوى” الإنسان المثقف والعالم مع التافه والجاهل والرقيع بفضل الإنترنت وغيرها من وسائل الإتصال الحديثة ..
لكن يا فولفغانغ ، أنتَ تدري أنَّ الأمل- غير الخامل- يظل مرجلَ الإرادة ومحركَ النضال، فأنْ فقده الناس شُلَّتْ إرادتهم وعقولهم، وغزا الصمتُ حناجرهم !
فما زلنا نملك ما يمكن فقدانه !
لكننا لا ندري لمن نُهدي هذا الخراب ؟!
ومَنْ سيسقينا شراباً يعيدنا لسُباتنا الآمنِ في الخرافة .. ننامُ دون أوجاعٍ وكوابيس، فلا نصحو حتى يحين موتنا !!
……………………
……………………
– غالباً ما نميلُ إلى عَقْلَنَة وقَوْنَنَة كل شيء، لكن الإنتفاضات والثورات، يا صاحبي، قد تـأتيك من حيث لم تحتسب !!
+ أما ترى أنَّ في قولتك هذه شيئاً من القدرية؟!
– كلا ! لأنَّ ذلك لا يعني أنْ تضع يديكَ في حِجرِك وتنتظر..! عليك بالعمل الدؤوب لتسهيل ولادتها لمّا تحين ساعتها..
+ لكن للثورات شروطها، من دونها لا تتحقق، وإلاّ أُجهضت ، وخلَّفَت بُركاً من الدماء والرماد دون
جدوى ! فلا ثورة بدون حوامل إجتماعية مسلحة بالوعي السياسي والثقافي …
– أراك عدتَ إلى العقلنة والقَوْنَنَة إياها..!
ضحك صديقي و رَبَتَ على كتفي برفقٍ ، كأنه يواسيني،
قلتُ صحيحٌ أنني هرمتُ على أكتاف الغربة،
لكنني لم أفقد نعمةَ الإنتماء لأرضٍ لم أُولد خارجها !
وسأكملُ الطريقَ الذي بدأته قبل ستين عاماً، فليس لدي طريقٌ آخر..
……………………
نادى فولفغانغ على النادل ليكسر الصمتَ الذي سقط بيننا..