استذكار كاتبنا العراقي الراحل غائب طعمة فرمان وفيلم “ظلال الذاكرة”
علي كامل
لم نكن نعثر على غائب طعمة فرمان يومها في بغداد، حين كانت الحانات المُطّلة على نهر دجلة حيث شارع أبا نؤاس، والمقاهي المنتشرة في شارع الرشيد، مقهى الزهاوي وحسن عجمي وأم كلثوم والشاهبندر، والبرازيلية، وسواها، ملتقىً للمثقفين العراقيين في نهارات أيام الجُمع.
كان غائب حينها يقبع وحيداً في منفاه أو “رحلته” كما يحّب أن يقول. ربما عزاؤنا الوحيد كان في رواياته التي كنا نتلقفها حينذاك بشغف، وأكثر الظن، أن مسرحية “النخلة والجيران” التي أعدّها وأخرجها الفنان الراحل قاسم محمد وقدمتها فرقة المسرح الفني الحديث هي من أيقظت السؤال القديم: تُرى، أين هو غائب طعمة فرمان!؟.
تمرّ الأيام والسنوات ويهاجر من يهاجر، وتشاء الصدف أن أحصل على دراسة في موسكو لألتقي أخيراً بغائب الغائب ولو في وقت متأخر، حيث جمعتني وإياه لقاءات وصداقة حميمة وعذبة، يومها كنتُ أدرس فن الإخراج السينمائي في معهد السينما في موسكو في حين كانت المنافي والهجرات تتسع يوماً بعد يوم.
كنا نحن، الجُدد على المنافي، نحتمي يومها بأجنحة من سبقونا، وكان أبا سمير أحد هؤلاء. كان يسأل بشغف ولهفة عن البلاد التي… ويصغي لأحاديثنا مثل طفل تائه.
بعد عودته من الصين، عاش غائب وتزوج في موسكو منذ أوائل ستينيات القرن الماضي حيث كان يمارس الترجمة، على مضض، كما يقول، مدفوناً بين المعاجم والقواميس السلافية والإنكليزية والعربية طوال أكثر من ربع قرن من الزمن، يبحث عن مرادفات للمعاني في زمن غير ذي معنى، وكانت الكلمات تتقافز أمام ناظريه مثل الضفادع، كما يقول في روايته “المرتجى والمؤجل”، لكنه مع ذلك، واصل هذه اللعبة اللعينة بسبب لقمة العيش، على حد قوله.
في عام ١٩٨٧، وهو العام الأخير من دراستي في معهد السينما، وقع اختياري على موضوع يتناول الاغتراب والمنفى، لأطروحة فيلم التخرج وكان غائب مادة لهذه الأطروحة.
اطلّعت حينها على بعض الوثائق والصور المتيّسرة لديه وبعض من رواياته المتوفرة لدى أصدقائه المقربين، تحضيراً لكتابة السيناريو، وباشرت فوراً في كتابة السيناريو الأولي.
حين انتهيت من الكتابة حملت نسخة منه وتوجهت اليه وكان يقيم في الطابق العاشر من بناية تحمل الرقم ٢٠ مطلة على شارع يدعى ميكلوخاميكلايا.
حدثته باسهاب عن مشروع الفيلم وناولته نسخة السيناريو. وضع السيناريو على الطاولة وقال إنه سيقرأه فيما بعد.
كان الانطباع الأول الذي قرأته على ملامح وجهه هو تحمسه للموضوع. ساد صمت غريب بيننا قطعه بالعبارة الشهيرة: إي، شكو ماكو!؟
احتسينا القهوة فيما بعد فيما كان المطر يهطل بغزارة في الخارج. كان حديثنا اللاحق عن الحرب العراقية الإيرانية وكيف كانت إحدى العوامل التي حالت دون عودته إلى الوطن. وبعد لحظات فاجأني قائلاً: “هل تعتقد أن هذا الحصان الهرم الذي تجلس معه الآن يقوى على الجري؟ ثم أضاف بعد لحظة صمت، قائلاً: “أمنيتي الوحيدة هي أن أعود إلى العراق، ولا أريد منهم شيئا سوى أن يمنحوني غرفة صغيرة في أحد شوارع بغداد أقضي فيها بقية عمري… ولكن…”.
توقف عن حديثه قليلاً ثم أضاف: “كنت أودُّ يا علي أن يُصّور فيلم عني في بغداد وليس هنا، ولكن مع ذلك سأقرأ السيناريو هذا المساء”.
في لقائنا الثاني جلس إلى طاولة الكتابة وأمامه نسخة السيناريو وهي مهمشة بملاحظاته، أما أنا فقد كنت مثل تلميذ يجلس في قاعة امتحان.
التفتَ نحوي وقال: “لماذا تريد أن تصّور فيلماً عني؟ لماذا لا تصّور مشاهداً من إحدى رواياتي؟ هل صحيح أن رواياتي لا تَصلُح للسينما كما أخبرني ثامر مهدي؟”. أجبته بعُجالة بأن الفيلم الذي نقوم بتصويره كما تعلم هو فيلم تسجيلي وليس روائي. ابتسم وأضاف بمرح: “أنا لست بذلك الوسيم الذي يصلُح للسينما”، أجبته بنفس نكهة المرح تلك بأنه أوسم إنسان رأيته في حياتي. ضحك وقال: “أنتم الفنانون تبالغون”.
قال: “طيب. السيناريو، عموماً، مكتوب بأسلوب كلاسيكي، فضلاً عن أن الأحداث السياسية والتأريخية تحتل المركز
الرئيسي في الفيلم، وأنت تضعني وسط هذه العاصفة الهوجاء مثل بطل. أنا لست بطلاً أو سياسي ولستُ المغترب الأوحد. أنا رجلٌ بسيط مثل الآخرين، فلماذا رسمتني بهذه الصورة؟”.
تطلّع في وجهي بعد برهة وابتسم قائلاً: “أعجبتني كثيراً المشاهد الروائية في السيناريو، وأنا مستعد للتصوير في أي وقت تشاء، وحبذا لو أجريتَ بعض التعديلات على السيناريو لأحاور شخصيات رواياتي في الفيلم”.
قلت: “أنت تعلم أن ثيمة الفيلم تتناول المنفى والاغتراب في المقام الأول وليس أعمالك الروائية. لقد وقع اختياري عليك يا أبا سمير لأنك من الرعيل الأول من المنفيين وبقيت في المنفى إلى حد يومنا هذا، فأنا أبحث ومن خلالك عن منشأ هذه الظاهرة اللعينة التي تدعى المنفى والاغتراب”.
أجريت بعض التعديلات الطفيفة على السيناريو بعد هذا اللقاء فوافقني على الصيغة الأخيرة وترك لي عبارة مليئة بالغموض قائلاً: “لقد أريتك ملاحظاتي وأنت الآن المخرج، فتصرف كما تشاء فهذه مسؤوليتك”.
لقد واجهت في الواقع معضلات جمّة في إنجاز الفيلم لغياب عناصر العمل الأساسية، فلا يوجد أرشيف فوتوغرافي أو سينمائي عن العراق لأستعين فيه كخلفية للأحداث، فضلاً عن أن رصيد غائب من الفوتوغراف أو الوثائق الشخصية شحيحة للغاية، فمعظم صوره الفوتوغرافية والوثائق كان تركها في بغداد، باستثناء بعض الصور الفوتوغرافية التي كان يحتفظ بها بالصدفة، كما يقول. والأغرب من ذلك أنه لا يحتفظ إلا بنسخ من بعض رواياته. الأمر الآخر الذي أقلقني أكثر هو عندما كنا نتهيأ للتصوير أخبرني بحياء وحرج بعدم قدرته التحدث أمام الكاميرا.
بعبارة أخرى، كان عملي عبارة عن مغامرة لم أكن أعرف نتائجها حقاً. المهم، باشرت أولاً بتصوير مشاهد قصيرة من
روايته “القربان” في استوديو صغير في معهد السينما بعد أن شيدنا ديكوراً بسيطاً للمقهى إلى جانبها غرفة مظلومة وغرفة زنوبة.
دعوت غائب حينها لحضور تصوير تلك المشاهد وفكرّتُ فوراً أن أصوره وسط الديكور برفقة شخصياته، فيما كان صوت يوسف عمر يصدح في أرجاء المكان.
دخل غائب القاعة وسط عمال الديكور والإضاءة والتصوير وكانت الماكيرة تضع اللمسات الأخيرة لماكياج الممثلين.
كان غائب فرحاً وخجلاً بشكل لا يوصف. دار دورة في أنحاء المكان وكان يتحسس بيديه مواد الأكسسوار والملابس. قال: “من أين حصلتم على كل هذه الأشياء؟”. بعدها جلس بجوار مظلومة وشرب الشاي من يد ياسر “حساني” عامل المقهى وحيا زنوبة مبتسماً.
صورنا مشهد مظلومة وهو مشهد صغير استغرقنا في تصويره قرابة ساعتين. حين شاهد غائب مشقة العمل علق باستغراب قائلاِ: “إن عملكم شاق جداً ولم أكن أتصور ذلك من قبل”.
أما أصعب مراحل التصوير فهي فترة تصوير غائب نفسه. حين اتصلت به هاتفياً إلى البيت بعد أيام للاتفاق على وضع خطة تصوير تتناسب ووقته ووضعه الصحي، وكان حينها لا زال متردداً وخائفاً من مواجهة الكاميرا، طلب مني بشكل مفاجئ أن ألغي مسألة تصويره وأكتفي بالمشاهد الروائية. وبعد حديث شاق معه على الهاتف اتفقنا أن نصوره دون أن يتحدث إلى الكاميرا.
توجهت أنا وفريق التصوير المكون من ستة عشر شخصا تقريباً وكنت قلقاً خشية أن يغير رأيه ثانية، فبعثت مديرة الانتاج إليه لتهيئة المكان فيما كنا نحن بانتظارها تحت المبنى السكني وقبيل إنزال أجهزتنا ومعداتنا لنقلها إلى شقته. عادت مديرة الانتاج بعد انتظار وعلى وجهها علامات الانزعاج. قالت لي: ” زوجته تقول إنه ليس على ما يرام وأنه يريد رؤيتك”.
(ذكرني هذا بحدث مشابه حدث لي مع أبي فرات (الجواهري) حين ذهبنا لتصويره في منزله في فيلم يتحدث عن المتنبي وخرجت لنا زوجته أم فرات قائلة: “عيني ما يقبل. يقول أخبريهم أنني نائم”. لم يكن أبا فرات نائماً بالطبع ورفضه كان لأسباب أخرى ليس هنا مقامها).
المهم، تركت الفريق أمام المبنى وتوجهت نحوه. فتح غائب لي باب شقته واعتذر عما سببه لي من إحراج قائلاً: “لم أستطع النوم أمس لكثرة خشيتي من هذا اليوم وأنا متوتر الآن جداً، فأرجو أن تلغي التصوير لهذا اليوم”.
لم أستطع اقناعه وأنا في حالة من الغضب لأنني لا أعرف ما سأقوله لمديرة الانتاج وفريق العمل. قال: “أخبرهم أنني متوعك”. وطلب مني أن أصرف الفريق وأعود إليه.
وهكذا انصرف الجميع وعدت إليه. استأذن مني لدقائق وعاد مرتدياً بدلته الزرقاء وربطة حمراء، ولوح لي بيده بأن نخرج بينما كانت زوجته منزعجة للغاية.
وفيما نحن داخل المصعد، همس بأذني، كما لو أنه كان يخشى أن يسمعنا أحد، وقال: “اليوم هو الأحد، وجميع محال بيع الكحول مقفلة الآن. دعنا نذهب إلى مكان نستطيع فيه الحصول على قنينة نبيذ على الأقل”. ثم تطلّع نحوي مبتسماً وأضاف: “نبيذ معتق”!
دخلنا في مبنى قديم ذات طابق واحد ليس بعيداً عن مسكنه وكان يبدو مهجوراً. دفع غائب البوابة ودخلنا. التفت نحوي وقال: “انتظرني هنا”.
عرفت من لافتة معلقة على واجهة الممر الطويل المعتم الذي دخل فيه أبا سمير إن المكان خاص بمتقاعدي الحرب السوفييت.
بعد لحظات عاد وهو يتأبط قنينة نبيذ. ضحك على طريقته الخاصة، قائلاً: لقد تعلمّنا الطرق إلى هذه البلاد، هيا افتح القنينة يا علي”.
جلسنا على أريكة خشبية متآكلة في حديقة المكان. ناولني القنينة، وقال: “يلله افتحها”!
ضحكت..
“وكيف أفتحها؟” قلت “ليس لدينا فتاحة لإخراج سدادة الفلين من فم القنينة”.
“دبرهه” قال.
كان بالقرب من الأريكة موقد شواء والى جانبه أسياخ شواء وملاقط حديدية وأشياء أخرى. أدخلت سيخ حديدي في فم القنينة
ودفعت الفلينة بقوة الى الداخل، فصرخ أبا سمير فرِحاً وقال بالروسية: هورا.. مالاديتس. ومعناها أحسنت!
“والكؤوس” قلت.
“لتثخنّهه” أجاب.
وصرنا نرتشف النبيذ بالتعاقب من فم القنينة تبعه بعض غناء وضحك وشجن.
أدهشني صدقه وعفويته الطفولية وكأنه يسترجع بعضاً من مغامرات شبابه أيام زمان. لم نتحدث عن الفيلم، حدثني عن الموضوعات التي يكتب عنها وعن روايته الجديدة “رحلة إلى أم الخنازير” التي استبدل الناشر سهيل إدريس عنوانها إلى “المركب” كما أخبرني هو نفسه لأن الجزيرة تحولت إلى منتجع للسلطة كما قيل له!.
بعد مرور أيام عدة بدأنا بتصوير غائب رغم إصراره على الرفض. صورناه في غرفته الكئيبة والموحشة. وفيما نحن في زحمة العمل استطاع غائب أن يتآلف شيئاً فشيئاً مع الفريق والكاميرا وهذا ما دفعني أن أعمل معه لقاء يتحدث فيه عن الحرب العراقية الإيرانية التي كانت تدور رحاها في ذلك الوقت.
بإيحاء من روايته “المرتجى والمؤجل” طلبت منه أن نصوره في إحدى المقابر التي دفن فيها أحد العراقيين المغتربين ويدعى (… أبو الحَب) وهو إحدى الشخصيات التي يتحدث عنها في تلك الرواية، لكنه رفض بشكل قاطع قائلاً: “إنني أكره المقابر”.
أردت أن أصوره في بعض الأماكن التي يرتادها عادة في موسكو، حانات، مقاهي، شوارع، أو عند نهر موسكو، لكنه اعتذر، قائلاً: ” لقد تغيرت هذه الأماكن مثلما تغيرت بغداد”. أخيراً أقنعته بأن نصوره في موقعين: الأول، محطة قطار، والثاني فوق جسر يطّل على نهر موسكو.
وهنا أتذكر حادثتين طريفتين معه، الأولى حين كنا نصوره وهو يسير على الجسر. اتفقت معه أن يتوقف ليتطلع نحو النهر وبعدها يواصل سيره على الجسر دون أن يلتفت نحونا.
بدأنا التصوير فيما هو يسير والكاميرا ثابتة خلفه وهو يبتعد، وحين انتهينا من تصوير اللقطة أخبرني المصور بضرورة إعادة اللقطة لأن الفيلم نفد فجأة من خزان الكاميرا، لكن غائب كما يبدو قد واصل سيره دون توقف ومن بعد غاب عن الأنظار تماماً. لم تكن الهواتف المحمولة موجودة آنذاك لأتصل به عندئذ اضطررنا إلى تأجيل التصوير.
اتصلت به في المساء إلى البيت وتساءلت عن سبب مغادرته بتلك الطريقة، قال ببساطة: “أنت قلت لي أذهب ولا تلتفت نحو الكاميرا فواصلت سيري وركبت سيارتي وعدت إلى البيت”. ثم أضاف مبتسماً: “هكذا أفضل كي تكون اللقطة طبيعية”.
الحادثة الثانية جرت في محطة القطار وهي اللقطة الأخيرة في الفيلم. اتفقت معه أن يسير وسط المسافرين بالقرب من الرصيف الذي يتوقف عنده القطار وطلبت منه أن يدخل في إحدى العربات لغرض تصويره كما لو أنه مسافر. ومن حسن الحظ أن المسافرين بدأوا حينها في القدوم والدخول إلى العربات.
حين بدأنا التصوير كان غائب يسير على الرصيف متجهاً صوب باب إحدى العربات، لكنه لم يدخل وصار يتطلع نحو الكاميرا ويلوّح لي بيده بانزعاج فأوقفنا التصوير. ذهبت نحوه وسألته عن سبب عدم دخوله العربة صرخ بوجهي قائلاً: “أنته مخرج مخربط. لقد طلبتْ مني عاملة التذاكر بطاقة السفر؟ كيف أدخل العربة بدون تذكرة سفر؟”.
غرقنا جميعاً في الضحك، أما هو فقد تبدد انزعاجه وراحت دموعه تسيل من عينيه من فرط الضحك وقال لي: “طيب، لا تزعل أنت مخرج مخربط وأنا ممثل مخربط”.