ظاهرة (الرصد الشعري) في القصيدة العربية بين حقيقة الشعر والتهريج الكلامي المعاصر.!
د. غازي هلال مخلف
.ندرك تمام الإدراك أن التجارب الأدبية الشعرية العربية التي وصفها النقاد بتجارب الحداثة وما بعد الحداثة في أغلبها يمكن وصفها بتجارب( المعالجة ) سواء على صعيد التجربة على جهة العموم أو على مستوى القصيدة المنفردة، فتجربة [ البعث ] و[ الإحياء ] تمكنتا من معالجة قضية ركود الشعر العربي وقربه من الموت والاندثار في حقبة ما يسمى ب( الفترة المظلمة )،هذا على صعيد التجربة الشعرية المصرية التي نعدها رائدة تلك المحاولات وقائدها الأول،ولما جاءت التجربة الشعرية الفلسطينية فإنها تبنت مهمة إبراز القضية الفلسطينية فكانت القصيدة التثويرية وشعر المقاومة وكذا شعر المعاناة والاغتراب،وكانت التجربة الشعرية السورية تدور في ذات الفلك الذي دارت فيه سابقتها العربية، ولما جاء دور التجربة الشعرية العراقية أخذت تلك التجربة على عاتقها معالجة الواقع العراقي المزري الذي كان سائدًا في تلك الحقبة ولا سيما في زمن الإقطاعيين،ثم تلتها تجربة الرواد التي عالجت قضية أدبية بحتة كلنا نعلمها، فالأمر الملاحظ أن تلك التجارب الأدبية جاء بعضها ليعالج مسألة إنسانية خالصة،وبعضها الآخر حاول معالجة مسائل أدبية على مستوياتها الفنية، من هذا المنطلق فإننا بإمكاننا أن نطلق على التجربة الشعرية العربية والقصيدة العربية أنها قصيدة( الرصد )، فهي تتبنى مهمة رصد الحدث العام والخاص داخل المجتمع عمومًا وداخل حياة الأديب خصوصًاو التنبؤ به ومن ثم محاولة وضع العلاج الناجع له،فهي والحالة هذه تجارب وقصائد هادفة لم تخلق عبثًا بل إن المبدع عانى( الأمرين كما يقال ) وهو يحاول صناعتها، فالمعاناة الأولى تخص ابتكار النص نفسه، أما المكابدة الثانية فهي تخص رصد الظاهرة المجتمعية والتعبير عنها بقالب شعري مميز حيث ضمان وصولها سريعًا إلى المتلقي،والتجارب الشعرية المعبرة عن ذلك أكثر مما تحصى ويكفي أن تقرأ قصائد( أمل دنقل ) و( محمود درويش ) و( نزار قباني )و( السياب ) ثم من تلاهم من شعراء المعاصرة ولا سيما الشاعر السوداني [ محمد عبد الباري ]،فإذا ما انتخبنا نصه الشعري المشهور( ما لم تقله زرقاء اليمامة) :
.شيء يطل الآن من هذي الذرى
.أحتاج دمع الأنبياء لكي أرى
.النص للعراف والتأويل لي
.يتشاكسان هناك(قال) و(فسرا)
.ما قلت للنجم المعلق دلني
.ما نمت كي أصطاد رؤيا في الكرى
…..ففي الأبيات رصد تنبؤي للآتي من الأحداث غير محمودة العواقب بالاستناد إلى آلية الحدس الشعري لا إلى تهويمات المنجمين.
.شجر من الحدس القديم هززته
.حتى قبضت الماء حين تبخرا
.لا سر فانوس النبوءة قال لي
.ماذا سيجري حين طالع ما جرى
….فحرف ( السين)في( سيجري) مع فانوس النبوءة مثلا تلك الارهاصات الأولى لتلك الأحداث المقبلة..
….الأرض سوف تشيخ قبل أوانها
.الموت سوف يكون فينا أنهرا
.وسيعبر الطوفان من أوطاننا
.من يقنع الطوفان ألاّ يعبرا !؟!
….وهنا رصد حقيقي لتلك الحروب المدمرة التي حصدت الأخضر مع اليابس حتى أهلكت الحرث والنسل.
.فوضى وتنبأ كل من مرت بهم:
.سيعود سيف القرمطي ليثأرا
.في الموسم الآتي ستشتبك الرؤى
.حتى الأمام سيستدير إلى الورا
…وهنا رصد لجدلية ( الذئاب/الخراف) فالقرامطة عادوا لإتمام ما لم يكملوه ذاك الزمان. وستنقلب موازين كل شيء رأسا على عقب.
.وسينكر الأعمى عصاه ويرتدي
.نظارتين من السراب ليبصرا
….وهنا رصد لأولئك الذين سيبيعون [ العروبة] في سوق[ القرامطة]
.سيرى المؤذن والإمام كلاهما
.سيقول(( إنا لاحقان بقيصرا ))
.في الموسم الآتي مزاد معلن
.حتى دم الموتى يباع ويشترى
…وهنا رصد لما سيباع من الأوطان والدماء في مزادات( لندن) و( نيويورك )
.ناديت يا يعقوب تلك نبوءتي
.الغيمة الحبلى هنا لن تمطرا
.ستجيء سبع مرة فلتخزنوا
.من حكمة الوجع المصابر سكرا
سبع عجاف فاضبطوا أنفاسكم
.من بعدها التاريخ يرجع أخضرا
…وهنا رصد لظاهرتي التشريد والتجويع المتعمدتين الممارستين على الأوطان العربية………
فالناقد المحلل لهذه القصيدة وكذا قارئها العمدة يسهل عليه استخلاص ظاهرة( الرصد الشعري) بين جنباتها،فالشاعر هنا تنبأ راصدًا ما يحلو للبعض تسميته بظاهرة ( الربيع العربي )، فقد وصفها بدقة متناهية مفصلًا مفصلا،إرهاصاتها،أحداثها،سلبياتها،نتائجها،آثارها حتى بعد أعوام طويلة،فاستحقت تبعًا لذلك هذه القصيدة وهذه التجربة لقب ( الشعرية الفذة المتفردة )..ذلك ما جاء مختصًا بجانب المقال الأول، أما القارئ المطلع على ما يمكن أن نسميه ب( التهريج الشعري ) المعاصر فإن أحدنا يقرأ النص والنصين والتجربة بأكملها ولا يكاد يرصد ( المعنى والفكرة والموضوع والصور…) ،لا يرصد ( المعاناة والغربة والحب والمرأة والحرب…)، لايرصد سوى كلام منثور مرصوف بعضه بجانب بعض،بل حتى ذلك ( الرصف الكلماتي ) يعاني التنافر في أحيانه الكثيرة..فلا شعرولا أدب ولا فن،ذلك( التهريج الكلامي ليس يستحق ( معاناة الرصد ) بل انه يسفر عن وجهه المشوه دونما عناء…فلو أخذنا هذا النموذج النثري:
.(أذكر لم تكن القناديل تغار من الكواكب،كان الضوء صديقا لكل شيء، وكانت الألوهة بشرة الكون،ما أحوج شيخوخة الكلام إلى طفولة الأبجدية، إلى ذلك الوقت يجلس الكون باكيا يمسح دموعه،بأجساد الموتى عن أحذية المارة،قال رحل:لماذا تريدون وضع السماء في قفص………؟) لوجدنا كل ما سبق ذكره من الأحكام ….إننا بعد ذلك..سنعاني ضياعًا لثوابت الشعر الحقيقي واستعبادًا مما أسميناه ب( التهريج الكلامي ).