“الفن ليس سوى رهان على الموت“
الكاتب التشيلي أرييل دورفمان يتحدث عن مسرحيته “مخبأ بيكاسو”
ترجمة وتقديم علي كامل
“لن يكون هناك المزيد من الروائع، الأفضل أن أموت الآن، وآخر عمل فني لي ينبغي أن يكون موتي”.
بابلو بيكاسو
في مقدمته لمسرحية “مخبأ بيكاسو” يقتبس المؤلف أرييل دورفمان مقولة لأوغست ستريندبيرغ تقول: “أي شيء ممكن أن يحدث، كل شيء ممكن ومحتمل، ليس ثمة وجود للزمان والمكان إلا وفق أساس ضئيل من الواقع، المخيّلة تجول وتنسج أنماطاً جديدة، مزيج من الذكريات والتجارب والابتكارات الحُرّة والعبث والارتجالات».
أرييل دورفمان كاتب أمريكي من أصل تشيلي، شاعر، روائي، مؤلف مسرحي وسينمائي، فضلاً عن كونه ناشطاً مميزاً في منظمة حقوق الإنسان. غادر دورفمان بلاده ولجأ إلى المنفى إثر الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال بينوشيه عام ١٩٧٣ والذي أطاح بحكومة سلفادور أليندي.
كان دورفمان ولا يزال صوتاً مدّوياً ضد القمع السياسي وانتهاكات الحريات، ولعل مسرحيته الشهيرة «الموت والعذراء» التي تحولت إلى فيلم سينمائي عام ١٩٩٤، هي بمثابة تجسيد جلي لنبرة ذلك الصوت.
حين أُرغم الكاتب أرييل دورفمان على مغادرة بلده تشيلي عام ١٩٧٣ إثر انقلاب بينوشيه وأمضى السنة الأولى من منفاه السياسي في باريس فإن تجربته في المنفى تكاد تتماهى إن لم تكن مستبعدة وتجربة بيكاسو الذي اختار هو الآخر مغادره بلاده إلى باريس بشكل دائم عام ١٩٣٦ إثر انقلاب الجنرال الإسباني فرانكو خشية أن يلاحقه ذات المصير الذي أفضى إلى قتل مواطنه لوركا.
لا مكان للفنان أن يختبئ!
يُعيد المؤلف في هذه الدراما صياغة الوقائع التأريخية وبناءها بشكل افتراضي لإجراء نقاش فكري بشأن الفن في مواجهته للحياة. إنه يبتكر شكلاً بيضوياً للأحداث هو بمثابة إشادة بالتكعيبية، الحركة التي نشأت أوائل القرن العشرين والتي أسسها ودافع عنها بيكاسو معاً هو والرسام الفرنسي جورج براك، حيث يتم فيها تفكيك الأشياء المألوفة بشكل هندسي وإعادة تجميعها بأشكال مجردة.
“إنَّ أفضل ما يمكن أن تفعله لفنان عظيم مثل بيكاسو” يقول دورفمان “هو ألا تأخذه على محمل الجدّ إنما أن تستكشفه من خلال منظار ملتوي بوصفه أباً للمدرسة التكعيبية”.
فالمؤلف يقوم هنا بتفكيك التأريخ وإعادة تركيبه عبر التلاعب بالزمن ومزج الشخصيات الحقيقية بشخصيات تخييلية. إنه خلق تأريخ افتراضي إن لم يكن مبتكراً بديلاً للتأريخ الحقيقي، يتعقب فيه ضابط نازي بيكاسو عن كثب ليقتله في الآخِر. (الجميع يعرف أن بيكاسو توفي عام ١٩٧٣ في مدينة موجان جنوب فرنسا عن عمر ناهز الثانية والتسعين عاماً)، إلا إن دورفمان يطرح في مسرحيته “مخبأ بيكاسو” سؤالاً افتراضياً مثيراً للحيرة والدهشة وهو: ماذا لو لم يمُت بيكاسو عام ١٩٧٣، ولكن تم قتله من قبل النازيون عام ١٩٤٤ أثناء احتلالهم لباريس؟
بُنيةٌ كهذه ليس هدف المؤلف منها تعتيم الحقائق أو تشويهها بالطبع، إنما إيضاحها وإضاءتها، والفنان لديه وسائل عدة لقول الحقائق.
“إن الحقائق ملأى بالأكاذيب غالباً” يقول دورفمان “لكنها أكاذيب ممتعة، ليست تلك التي تؤُذي الناس، بل تلك التي تطرح أسئلة. وقد سبق لجان كوكتو أن قال الشيء نفسه بأن الفن هو كذبة تقول الحقيقة“.
تجري أحداث المسرحية في مُحترف الفنان بباريس في أربعينات القرن الماضي إبان احتل النازيون باريس تساندهم حكومة فيشي التي كان يرأسها المارشال فيليب بيتان الذي تولى الحكم من عام ١٩٤٠ إلى عام ١٩٤٤. كان بيكاسو حينها يعيش في باريس في سلام وحياد واضحين دون أن يُصاب بأذى في حين تعّرض الكثير من أصدقائه من الفنانين والمفكرين الفرنسيين إلى الملاحقة والموت على يد النازي، ولعل أبرزهم صديقه الأقرب الشاعر ماكس جيكوب.
المسرحية تتضمن ثلاثة فصول هي (الفريسة، الملاحقة، ثم القتل) موزعة على سبعة مشاهد، والمؤلف يستخدم الرقم سبعة لأنه الرقم السحري بالنسبة لبيكاسو كما يقول.
نص اللقاء
ـ يبدو أن من العسير جداً تجسيد هذا النص على خشبة المسرح؟
ـ ينبغي القول بدءاً أنه نص تجريبي. دعنا نقول إنني حاولت، بتواضع، أن أتعامل مع الزمن في المسرح مثلما تعامل بيكاسو مع المكان، وهو خلق العديد من وجهات النظر وإزالة حواجز الهُّوية. لذا فالمسرحية يمكن أن تقف على الحد بين الشعبية والتجريبية.
ـ بما أن شخصيات المسرحية المختلفة تطرح وجهات نظرها الواحدة تلو الأخرى، إلا إن ثمة مستويات متجاورة من الوقائع تأتي بعضها إلى جانب الأخرى…
ـ معظم السير الذاتية على سبيل المثال تميل إلى أن تكون أفقية المبنى إلى حد ما، أو على الأقل، تتقهقر إلى الخلف ثم تتقدم نحو الأمام بالتناوب، أي أنها في حركة ذهاب وإياب من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ وبالعكس… بمعنى، يمكن التنبؤ بها سلفاً.
لقد قلت لنفسي “كيف بإمكاني كتابة مسرحية حول بيكاسو كما لو إن فنه لم يكن موجوداً على الاطلاق؟”. كان لا بد أن تتأثر هذه المسرحية
ببيكاسو بالطبع، فالثناء الأعظم ليس للشخصية التي تقف على خشبة المسرح، إنما لبيكاسو وللفن الذي كان قام بتجسيده.
أستطيع القول إنها مسرحية ما بعد ـ بيكاسو، في حين أن معظم المسرحيات التي شاهدتها حول بيكاسو وعن فنانين آخرين تميل إلى أن تكون كما لو أن الفنان لم يكن له أي تأثير عليها مطلقاً.
ـ إنها ليست مسرحية تكعيبية تماماً، أليس كذلك؟
ـ بل هي محاولة للقيام بفعل يتماهى وما فعله هو في لوحته (آنسات أفينيون): أن يجمع كل هذه الشخصيات، وقد تم تشويهها كلها، ولا أحد يعرف مَن…
بعبارة أخرى، الواقع شيء مسّنن وخشن… إنه أشبه بمرآة تم تحطيمها وأعيد تشكيلها، إلا إن بعض قطع من هذه المرآة ستكون دائماً في عداد المفقودين.
لتقديم تجربة كهذه للجمهور ينبغي أن تكون ممتعة للغاية في زمن مثل زمننا. أما إذا كان الأمر ليس كذلك فهذا خطأهم وليس خطأي في طرحها بشكل استفزازي (يضحك).
ـ حسناً دعنا نتحدث عن هذه المرحلة الزمنية من حياة بيكاسو. والمسرحية، نوعاً ما، تغطي الفترة التي تفصل بين لوحته الشهيرة جورنيكا التي أنجزها عام ١٩٣٧ ونهاية الاحتلال النازي لباريس عام ١٩٤٤. وقد عاش بيكاسو خلال تلك المرحلة في باريس تصفها أنت بأنها مرحلة غير موّثقة من حياته.
ـ طيب. نحن لا نعلم الكثير عما فعله بيكاسو، ما نعرفه بالضبط هو أنه كان مختبئاً. ولا أعني بكلمة «مختبأ» هنا بدلالتها المجانية، لأن العديد من الفنانين والأدباء غادروا بلدانهم خوفاً من خطر النازية وتوجهوا إلى الولايات المتحدة، فينيسيا، فرنسا، والبعض منهم هرب إلى إنجلترا. كان الناس في جميع أرجاء العالم قد فروا من قبضة النازيين.
ـ وينبغي القول إنَّ بيكاسو في تلك الفترة كان الرسام الأكثر شهرة في العالم.
ـ بالضبط. لقد كان في ذلك الوقت هو الرسام الأكثر شهرة في العالم. وسوف يخرج من الحرب بشهرة أوسع، وهذا شيء استثنائي من وجهة النظر هذه. لذا فنحن ليس لدينا معلومات عما فعله في تلك السنوات الأربع. أعني، مؤكد أن هناك بعض الوثائق، لكن، عموماً كان بيكاسو حينها يمارس عمله بشكل طبيعي وبقي في باريس ولم يغادر وكانت لديه علاقة مبهمة بأناس في المقاومة ممن يعتنون به. بول إيلوار أحدهم، وهو إحدى شخصيات المسرحية، وكذلك الكاتب السوريالي مايكل ليريس، كانا حريصين على لا يحدث مكروه لبيكاسو.
من جانب آخر، كان بيكاسو في خطر كبير لأنه كان لاجئاً وليست لديه وثائق. بعبارة أخرى، كانت لديه فقط وثائق تؤكد إسبانيته. كان منفياً من إسبانيا ومن الممكن ترحيله في أية لحظة، ويمكن أن يُقتل في أية لحظة، وهذا ما تقترحه مسرحيتي كمجاز لنوع آخر من الموت الذي حدث له. وثمة حقيقة أيضاً أنه كان عرضة لمخاطر وتهديدات جسيمة طوال الوقت لأن الضباط النازيين واصلوا زياراتهم المفاجئة له. حتى قيل أنه عندما اقتحم ضباط الجستابو شقته في باريس سأله أحدهم، بعد مشاهدته للوحته الشهيرة جورنيكا بالأسود والأبيض، إن كان هو من قام برسم تلك اللوحة، أجابه بيكاسو: “كلا، أنتم من فعل ذلك”!.
كان هناك مسعى من جانب النازيين القول، حسناً بيكاسو في باريس، إذن كل شيء على ما يرام. لذا فقد كان مضطراً لاجتياز المياه الهائجة والمضطربة لأن الوضع كان خطيراً للغاية. والسؤال الحقيقي بالطبع الذي يمكن أن يُطرح على أي فنان، سواء كان عظيماً أو عادي، هو، هل سيضحي بحياته، وبالتالي بشيء أكثر من حياته، ألا وهو كل ما يريد رسمه، كل رسوماته المستقبلية…
ـ “أطفاله” كما كان يسميها. من هنا تبدأ حلقة 2 المنشورة في عدد 56
ـ أطفاله، نعم. إذا كانت الأعمال الفنية هي بمثابة أطفالك، فهل يمكن أن تضحي بكل هذا الجمال الذي تمنحه لعيون العالم، من أجل انقاذ حياتك؟ ماذا يحدث لو أن أحداً ما جاءك وقال لك: هل يمكن أن تخّبأ شخص هذا؟ هل بوسعك أن تّزور مثل هذه الوثيقة؟ هل يمكن توّقع على التماس لإنقاذ صديقك المفّضل الذي سيتم ترحيله إلى معسكر الاعتقال أوشفيتز (ماكس جاكوب مثلاً)؟ هل يمكنك أن تنقذه. هل ستضع نفسك على المحك، أم ستنقذ نفسك من أجل أطفالك؟
أيهما الأفضل أن يكون لديك ثلاثون عاماً أخرى من نتاجات بيكاسو، أم أن يكون لديك بيكاسو كبطل حقيقي؟ كل تلك الأسئلة كانت تُطرح عليه طوال الوقت من جميع القوى. بعبارة أخرى، المسرحية تتحدث عن كل من حوله كان يسعى لجذبه في هذا الاتجاه أو ذاك.
ـ لماذا بقيَ بيكاسو في باريس حين دخلها النازيون، في رأيك؟
ـ السؤال هو: كيف يمكن للنازي أن ينصب فخاً لبيكاسو؟ لا تنسى أن بيكاسو كان محمياً، أقول كيف يمكن أن يعلق بيكاسو في شباك ذلك الضابط النازي؟
ـ هو جعله يرتكب خطئاً، حينها يستطيع أن… يعتقله أو يطلق الرصاص عليه.
ـ بالضبط. أنت تعلم بأن بيكاسو كان محمياً. ثمة مشهد في المسرحية يقول فيه القائد النازي، أن بريكر، وهو نحات هتلر الخاص، قال: “لا أريد أحداً أن يلمس شعرة من رأس بيكاسو”. هذا يعني أنه كان يعرف أنه محمّي.
وحين يسأل الضابط النازي لوشت قائده: “وماذا لو قام بقتل ضابط ألماني أو أخفى شخصاً من المقاومة؟»، يجيبه القائد: “آه، حينها بالطبع بإمكانك فعل ما تريد”.
“وهذا بالضبط ما سأفعله” يقول لوشت، “سأقوم بقتل بيكاسو في ذات اليوم الذي جرت فيه محاولة قتل هتلر». لا تنسى أن ثمة محاولة اغتيال لهتلر حدثت في برلين. لذا حينها حتى هتلر نفسه لا يستطيع حماية بيكاسو. هناك مقطع حذفته من المسرحية
وكنت قد استعرته حقاً من حديث لبيكاسو يقول فيه:
“في اليوم التالي شاهدت امرأة عجوز وقد ابتسمت لي بفم خال من الأسنان وقدمّت لي قطعة من الخبز، لكنني لا أستطيع أخذ تلك السيدة العجوز معي وتحّمل أعباءها”.
لقد كنت أحدق في هذا المقطع من منظور المغترب أو المنفي. لا شك أنه كان خائفاً من العودة إلى إسبانيا رغم العروض المغرية التي تلقاها من أمريكا والمكسيك وغيرها. لقد غادر بيكاسو بلده إسبانيا ولم يعود إلى هناك على الاطلاق. وفكرة تركه هذا المكان ثانية، المكان الذي صنعه هو، وأعني باريس،
هي أسوأ عقوبة بالنسبة له. لذا أعتقد أنه قرر الانتظار ليتدبر الأمر الصعب هذا. وقد كنت أنا أيضاً في غضون فترة لجوئي في الولايات المتحدة أفكر بقوانين بوش بشأن الهجرة حيث كنت قلقاً حينها بإمكانية ترحيلي بوصفي مواطناً تشيلياً.
أنا أعرف أن هذا الأمر يبدو غريباً جداً في بلد كأميركا، إلا إن ثمة نوعاً من الارهاب كان يحوم في الأجواء يشي بأن لا أحد مستثنى من هذه القاعدة فحتى المواطن الأمريكي من الممكن أن يكون دون حماية.
حينها فكرت مع نفسي قائلاً: “سأفعل أي شيء على ألا أغادر مجدداً. هذا هو وطني الآن”، لذا لعلني حينها كنت أمتلك ذات الإحساس الذي كان يمتلكه بيكاسو في ألا أصبح لاجئاً مرة أخرى.
ـ هل تحاول القول إن المنفى في باريس كان بمثابة قيد فني فرضه بيكاسو ذاتياً على نفسه؟
ـ إطلاقاً. أعتقد أنه قد أدرك ذلك فقط في وقت لاحق. وهذا ما يدفعني لطرح السؤال الثاني وهو: “إلى ماذا سينتهي به الحال أخيراً”؟
لديَّ إحساس أنه لم يكن يدرك ذلك. إنها دورا مارا (*) هي من تقول له في بدء المسرحية: “يمكنك فقط أن تعمل وتعمل وتعمل. لن يكون هناك المزيد من إقامة المعارض، ولن يكون ثمة أحد ليقاطعك أو يزعجك». كان بيكاسو في ذلك الوقت هو الفنان الأكثر شهرة في العالم. والشهرة يمكن أن تكون عبئاً
رائعاً بالنسبة لك. ويمكن ألا تشكل عبئاً عليك فحسب، بل تكون مرآةً خاطئة بالنسبة لك، وللسبب ذاته يمكن أن ينتهي بك الأمر في القيام بأشياء تؤجج تلك الشهرة بدلاً من أن تأجج لهيب الفن.
ـ أو يمكن أن تُخضِع المرء لرغبات الآخرين، ما يجعل صوته يتلاشى…
ـ أو ربما يصبح صوته مجرد تكرار لتلك الأصوات. حين تكون في حضرة الخوف الوجودي، الفراغ القابع هناك، الفراغ الذي يحدث كما أظن لنا جميعاً نحن الذين نكرس جهودنا من أجل الفن، يمكنك إما أن تحاكي ما هو سائد أو مشهور وتقوم بتكراره، أو يمكنك المضي قدماً والقيام بأمر مختلف.
هذا الأمر قد أدركه بيكاسو أخيراً، على الأقل في المسرحية. هذا الشبح الذي دعا الرجل الأعمى بلزاك أن يسأله: «ألا تريد أن تكون ما كنته في البدء من دون أن يكون أحداً وسيطاً بينك وبين الخوف”؟
الفن ليس سوى رهان على الموت؟ أنت تضع الفن بينك وبين الموت. ضع ذلك في هذا المنظور، بمعنى آخر، إنها عودة ثانية إلى شبح الخوف. إنه قيد، لكنه يمكن أن يكون أيضاً دافعاً خلاقاً ومثمراً جداً. وبهذا المعنى أعتقد، لسوء الحظ، أن أعمالي الأدبية والفنية كانت تتغذى على المخاوف التي قاسيتها.
دعني أقل إنني لو لم أمر بسنوات المنفى وسنوات بينوشيه وسنوات الحرب لن أكن هذا الشخص الذي أصبحت عليه اليوم ككاتب وفنان. تلك السنوات هي التي جعلت مني شخصاً بوسعه على الأقل أن يدنو من بيكاسو أو يعالجه بشيء من التعاطف مع معضلاته.
ـ حينذاك ستصبح متعاوناً مع خوفك.
ـ أوه، نعم، تماماً. وقد كادت المسرحية حينها على وشك أن تسمى «المتعاونون»، إلا إنني فضّلت تسميتها بـ (مخبأ بيكاسو) لأنه أكثر إثارة.
ـ لماذا؟
ـ لأنه لم تكن هناك مخابئ على الإطلاق. كنت أريد أن أوحي أن ثمة شيئاً ما يسعى بيكاسو لإخفائه، شيء ما غير ظاهر للعيان هو بحاجة لأن يتم الكشف عنه. الجميع كان متعاوناً أو متواطئاً معه حتى أنا. أنا أيضاً موجود هناك من أجل قتله وبعثه ثانية.
ـ هل تشعر بشكل أو بآخر أن خبرات بيكاسو وتجاربه أثناء الحرب العالمية الثانية هي التي قتلته؟
ـ إلى حد ما، نعم. إنني أحذو حذو جون بيرغر (**) حقاً في هذا الشأن. أنا لاعتقد أن بيكاسو قد عمل شيئاً بعد الحرب يستحق
الذكر مثلما عمل أثناءها حتى نهايتها. فهو لم يبدع عملاً مثل جورنيكا. لو عقدنا مقارنة بين جورنيكا والعمل الذي أنجزه عن الحرب الكورية أو تلك المناهضة للجرائم ضد الإنسانية، سنجد أن ما أنجزه بعد الحرب في الحقيقة هو مجرد أعمال عادية جداً تفتقر إلى الالهام والإثارة فيما يتعلق بفنه السياسي، قياساً بأشياء أخرى. أعتقد أن بعض
أعظم أعماله هي تلك التي أنجزها في باريس، مثل مجموعته التي تحمل عنوان «المرأة الباكية»، عام ١٩٣٧، وثمة لوحة جميلة بشكل خاص وهي بورتريه لابنته الصغيرة مايا. في هذه اللوحة يمكن ملاحظة خلوها من أي توتر، ثمة إحساس بالرقص على حافة الهاوية، الإحساس الذي ظل يعتري بيكاسو دائماً حتى النهاية.
إنني أحب تنويعاته. هو شخصياً قال: “لن يكون هناك المزيد من الروائع، الأفضل أن أموت الآن، وآخر عمل فني لي ينبغي أن يكون موتي”.
ألبرت لوشت، الضابط الألماني، خصمه وقاتله في المسرحية، يقول له في النهاية: “كل الأعمال التي لم تنجزها أبداً هي تنويعاتك” لكن ذلك لم يكن ذا أهمية بالنسبة له. بيكاسو قال لهذا الضابط الألماني: “إذا متُّ فسأكون أعظم من فيلازكز وغريكو وغويا”. (***)
ـ نعم، إن جرأة لوشت على قتله، يقول بيكاسو في المسرحية، “تجعل منه إله”.
ـ الإله هو الوحيد من يقرر موته. فهو، في هذا السياق، أشبه بالمسيح الذي يختار موته، ولهذا يصبح المسيح أعظم عمل فني وأحد أعظم الأعمال الفنية في الانسانية جمعاء.
إن مسرحيتي برمتها هي بمثابة استكشاف متواصل للعلاقة بين الحياة والفن والحدود الغائمة جداً بينهما.
دورا مار العشيقة الباكية (*)
ـ في إحدى لقاءاتك قلتَ بأن مسرحية “مخبأ بيكاسو” هي بمثابة قصة حب أيضاً؟
ـ بالضبط. إنها قصة حب حقيقية. قصة حب مع شخص عُرف بنرجسيته في حياته العاطفية. ما هو مثير بشأن حياة بيكاسو هو أن في كل
وقت، كل فترة من حياته، كل مرحلة من مراحله الفنية، سواء الوردية، الزرقاء، التكعيبية ومن ثم المرحلة الكلاسيكية، ثم سنوات الحرب. في كل واحدة من تلك المراحل التي عاشها وأنجز روائعه كان مرتبطاً بعشيقة مختلفة. أحياناً بالمرأة التي أراد أن يتزوج، وأحياناً لا. ومن
بين كل تلك النساء استثناءاً هي الشاعرة والفنانة دورا مار، المرأة التي التقاها عام ١٩٣٦ حين أصبحت بلاده خطراً يهدده، والمرأة التي أراد التخلص منها حين تقدم الحلفاء لتحرير باريس من النازية. أو بعبارة أخرى، حين كانت الحرب على وشك الانتهاء.
لذلك، دورا مار هي امرأة بيكاسو الباكية، امرأة بيكاسو المُعّذبة، المرأة التي هي في مركز لوحة جورنيكا، والتي كانت أشهر امرأة على الاطلاق لم يرسم مثلها في أي وقت مضى، لكنها أيضاً المرأة الفنانة بشكل استثنائي والمصّورة العظيمة. عشيقة معظم أصدقاء بيكاسو في الواقع قبل مقابلتها له، وواحدة من تلك الأرواح المتعافية الحرة فضلاً عن كونها سياسية حقيقية.
كان الحب بينهما مشدوداً ومتوتراً لأنهما كانا يحبان بعضهما البعض بعمق، لكنها بالطبع علاقة معذبة كما ينبغي أن تكون في علاقات الحب أوقات الحرب.
إن ما كان يبحث عنه بيكاسو هو امرأة تلهمه وتحميه. لذا فالتوتر القائم في المسرحية مصدره أنه طالما بيكاسو هو بحاجة لحماية من دورا مار فعليه أن يحتفظ بها. وهي بالضرورة ستقوم بحمايته، رغم أنها تعلم أن النازيين سيقتلونه. وبالتالي ومع تقّدم أحداث المسرحية لا يمكن لدورا مارا فعل أي شيء لوقف جريمة القتل التي هي على وشك الحدوث. لهذا فهي كما أظن علاقة غير عادية. بمعنى، بقدر ما هي ترغب
في التمسك به، تزداد حدة القسوة عليها من جانبه، لذلك هي تتمنى موته بالآخِر والخروج من حياته. إلا إنها لا تستطيع التصريح بذلك ولا الإصرار على التخلص منه، أعني، إخراجه من البلاد وما إلى ذلك. لذا تجد أن علاقة الحب هذه تتغلغل في كل نواحي المسرحية رغم ملاحقة الضابط النازي له، الشخصية التي قمتُ بابتكارها. إنها علاقة مثيرة ومشوّقة بالفعل.
ـ دعنا نتحدث قليلاً عن ثيمة الإنقاذ. إنها الثيمة التي تتواصل في الظهور طوال المسرحية كما أعتقد. الشاعرة والرسامة دورا مار مصّرة
على إنقاذ بيكاسو، كذلك الصحفية الأمريكية شارلين بتروسيان، الشخصية الافتراضية في المسرحية، التي تكتب سير حياة أولئك الفنانين أمثال لوركا والتي تتمنى لو لم يموتوا، وهدفها هو شكل من أشكال الإنقاذ. بيكاسو نفسه، في عدم استجابته لما حلّ بالشاعر ماكس جاكوب من قبل النازي تكشف عن محاولته لصرف الأنظار عنه لإنقاذه.
حسناً، ما هي الطريقة التي تحاول أنت فيها إنقاذ بيكاسو؟ ما الذي يحتاجه بيكاسو ليتم انقاذه، وما هي الوسيلة التي تتبّعها المسرحية لعملية الانقاذ تلك؟
ـ هذا سؤال جيد للغاية، لأن موضوع الإنقاذ أو الخلاص قد يكون هو ما كان يحفزني أو يثيرني جوهرياً لكتابة المسرحية، وأنا لم أبتكر أو أُصيغ عملاً على هذا النحو أو بهذه الطريقة من قبل أبداً.
أنت على حق، لأنني بالفعل أريد إنقاذ بيكاسو من محاولة تبسيط فنه وترويجه. بعبارة أخرى، أريد أن أعيده إلى المجد والخوف كونه ذلك الفنان العظيم. ثمة إحساس هو لو أنني قمتُ بإنقاذ بيكاسو فأنا بذلك أعيده إلى الموقع الذي يستحقه، كما أعتقد، والذي هو أيضاً موقع مفعم بالتعقيدات الهائلة. بمعنى آخر، إنني أسعى ألا أكذب بشأنه.
إنني أفترض أن الناس بعد مشاهدتهم المسرحية سينظرون إلى بيكاسو بطريقة مختلفة، وسيكون بوسعهم إعادة تفسيره بطريقة مختلفة. لذا،
ومن هذا المنظور، فأنا متعاون. أليس كذلك؟
إنني مغرم به مثل أي شخصية أخرى في المسرحية. لكنني كفنان، أزعم بإمكانية أن أفعل به مثلما كان يفعله هو بنسائه وموضوعاته. لقد أحالهم إلى متطلبات فنه. إلا إن عملية انقاذه بالنسبة لي ستكون معقدة. بمعنى أن العملية هي جزء من مَهمّتي بوصفي عضواً في منظمة حقوق الانسان، حيث القسط الكبير من أدبي مفعم بشخصيات تسعى لإنقاذ أحد ما، لكن تلك الشخصيات، عموماً، غير قادرة على ذلك. إن الأمر ربما مرتبط بالحياة التي عشتها، في أن أنجو من موت محقق… ربما؟ (****)
ـ وهل العمل هذا هو بمثابة اعتذار…
ـ لأنني بقيت على قيد الحياة؟ لأنني نجوت؟ … ربما.
ـ وهل الاعتذار هذا نيابة عن بيكاسو؟
ـ لست متأكداً. ربما لا يُحب بيكاسو أن أقوم بذلك نيابة عنه.
ـ ثمة احتمال كبير جداً أنه لا يفضّل ذلك. لكن، هل تعتقد أن سلوكه في باريس يتطلب اعتذاراً؟
ـ لا أظن ذلك. هو يقول في الآخِر: «لقد عملت. لقد قمت بما كان عليّ القيام به». بعبارة أخرى، لقد وُضع بيكاسو في موقف لا يطاق، لكنه نجا.
أنا شخصياً أميل في جزء كبير من حياتي إلى الاعتذار عن بقائي على قيد الحياة. أقول هذا بشكل شخصي، لأنني أشعر بالذنب إزاء جميع الذين ماتوا بدلاً مني في صباح الانقلاب العسكري في تشيلي.
ماكس جاكوب مثلاً مات في حين بقي بيكاسو حياً. كوكتو قُدّم إلى المحاكمة، وبيكاسو هو الآخر قُدّم إلى المحاكمة لكن تم إعفاؤه من أي تهمة من قبل القضاة.
ما أعنيه بالضبط، هو إن بيكاسو خرج من كل ذلك دون أن يصاب بأذى. أشعر إنه ليس بحاجة إلى اعتذار، وعليه أن يعيش مع كل أخطائه.
أعتقد أن الشيء الذي لا يطاق هو أنه لا ينبغي لنا الاقرار بما ارتكبه من أخطاء فيما نحن نحتفي بمعجزاته.
ـ بيكاسو لديه أخطاء، ومع ذلك هو ليس بحاجة للاعتذار.
ـ لا، إنه ليس بحاجة لذلك، لأن بدون تلك الأخطاء لم يكن لأعماله الفنية العظيمة وجود.
ـ دعني أطرح عليك السؤال التالي: تُرى على أية أرضية أخلاقية يقف المرء في عالم كهذا؟ إن إدراكي لمثل هذا العالم محدود حقاً…
ـ وأنا سعيد لأجلك. فالأفضل ألا تعرف ذلك الرعب وذلك القمع وتلك الخسارة.
ـ إذاً هذا هو حكم غيابي، حكم الغائب، وأنا أُقر بذلك. لا أريد توخي الحذر، هنا. لكن ما يهمني هو الدرجة التي يحكم فيها المرء على نفسه في عالم كهذا، أو يعفي نفسه من الحكم. في ظل عالم كهذا يتساءل الانسان: هل إن إجراء تغيير ما في سلوكي وتدخلي أو عدم تدخلي يمكن أن يجعل الحياة أفضل أو أسوأ؟
ـ ليست هناك إجابة سهلة على ذلك.
ـ لكن بيكاسو عموماً لا يتدخل.
ـ إنه لا يتدخل، لكنه لم يغادر باريس أيضاً. ولم يتعاون. حين تكون في وضع كهذا فإن الأنظمة الاستبدادية تبتكر خيارات سيئة وشريرة بغض النظر عما تفعله.
ـ ألا ينطوي هذا “اللا موقف” على مشاكل أخلاقية؟
ـ نعم. الشخص الأكثر نقاءً أخلاقياً ينتهي به الأمر إلى الموت، كما هو الحال في معسكر أوشفيتز، مثلاً، أليس كذلك؟ (*****) إنه وضع صعب أن تكون في هكذا موقف لتقول، “هل يمكنني إسداء خدمة لكم أم سأتعرّض للموت؟”. الكثير من الناس يقولون: “أنا أفضّل حقاً ألا أتدخل”. ويتراجعون خطوة إلى الخلف.
أعتقد أن بيكاسو كان يشعر بذنب محّدد، حسب تفسيري أنا على الأقل فيما يتعلق بهذا الأمر. الفخ الذي نصبه له الضابط النازي لوشيت، هو أن يجعله يقاوم كي يستطيع قتله.
{النازي الأعلى رتبة من لوشيت، في المسرحية، يقول للأخير: بيكاسو لا ينبغي أن يتعرض للأذى إلا إذا خرق قوانين الاحتلال}.
فبالتالي، بيكاسو كان يواجه مأزقاً. ولو أن أي انسان في هذا العالم، حتى وإن لم يكن تحت ظل نظام استبدادي، قد تعرّض لمأزق كهذا، فسيواجه السؤال التالي: “هل أقدّم المزيد؟ هل أستطيع القيام بخدمات أكثر؟”.
في عالم ليس فيه أحد منا قديس، لأن غالبيتنا ليسوا قديسين، فإن أمراً كهذا يخلق مأزقاً أخلاقي. وهذا هو الأمر المثير للاهتمام
والذي يعني أن تكون إنساناً. أما إذا اعتقدنا العكس فهذا يعني أننا نغلق عيوننا. لذا فإن أعمالي بدلاً من أن تتوارى بعيداً عن تلك المعضلات تتجه مباشرة صوبها.
ـ لقد لمستُ القوة والجرأة التي يجيب بها بيكاسو على أسئلة الصحفيين «حول ما فعله أثناء الحرب» في خاتمة المسرحية.
ـ بيكاسو في الخاتمة يقول الحقيقة، إلى حد ما، حول ما يشعر. بمعنى آخر، إنه يصبح بالفعل بيكاسو الشخصية الشعبية الشهيرة الذي يتحدث بلسان التأريخ.
إنه، في المسرحية، يفعل ما قاله الضابط النازي لوشت لدورا مار بما سوف يفعله بيكاسو. إنه يقدم أسطورة ذاته، يصبح أسطورة أمام أعيننا. وهذا موقف مثير للاهتمام لأنني أعتقد أن ذلك هو الجانب المتطور والمتحول والمتجدد في شخصيته.
بيكاسو شخصية غامضة، فنحن نراه ماكراً، قاسياً، سخياً، صريحاً ومتخفياً، لكننا نراه في النهاية وهو الفنان بوصفه سلعة، بضاعة، يروّج لبيع نفسه. لكن كل ما قاله هو صحيح أيضاً.
ـ من منطلق آخر، أنا لا أعتقد ذلك، فقد أذهلتني القوة التي يرّد فيها بيكاسو على أسئلة الصحفيين. واضح أنه كان يوّد أن ما يقوله حقيقياً ويمثل اللحظة والمرحلة الزمنية آنذاك. لكنني لست واثقاً بمدى اعتقاده بما كان يقول.
ـ ولا يمكننا معرفة ذلك مطلقاً. كيف يمكننا معرفة الاختلاف بين ما نعتقده نحن حقيقياً وبين حقيقة ذلك الشيء؟ الذي أعرفه أنا هو أن ما نراه في النهاية هو بيكاسو آخر مختلف. وهذا هو ما أنشده وأتوخاه على وجه التحديد، لأنني أنا من ابتكر ذلك.
ثمة بيكاسو، ذلك الذي لا بد أن يختار ما إذا كان هو مستعد للمخاطرة بكل شيء لإنقاذ حياة إنسان واحد، حتى وإن كان شخصاً مجهولاً. وثمة بيكاسو آخر ذلك الذي يحيا فقط من أجل فنه ومجده، وهذا هو بيكاسو في نهاية الأمر.
ـ والذي هو بمثابة نوع من أنواع الموت ذاته.
ـ لكنه يقول: “الآخرون فعلوا أكثر مما أنا فعلت”. إنه يعرف ويدرك ذلك. ومن جانب آخر، هناك الكثير ممن تعاونوا أو غادروا البلاد.
ربما هذا ناتج حقاً عن تجربتي كوني منفياً لزمن طويل وأعود ثانية إلى تشيلي وأحيا تحت حكم بينوشيه ومن ثم أعود ثانية إلى المنفـى، فضلاً عن الاعتقالات وكل الأمور التي وقعت لي في حياتي.
من الواضح إن كل ذلك يؤثر على الطريقة التي أنظر فيها إلى أي شخص. وأنا من النوع الذي لا يكّون رأياً أو يصدر حكماً بعُجالة.
مرة أخرى أقول، ينبغي على المرء أن يتوخى الحذر في أن يكون قاضياً إذا كان غائباً ولم يكن متواجداً هناك. إنها دماؤهم التي سُفحت وليست دمائنا.
المسرحية ذاتها تسعى إلى دفع أولئك الذين لم يشهدوا الحرب إلى أن يكونوا في ساحاتها. وهذا هو ما ينبغي فعله. إذا كان باستطاعتي
تحويلك من شخص غائب إلى شخص حاضر، موجود وفاعل، فهذا بالضبط هو ما يُفترض القيام به.
ـ إن لحظة التغيير أو عملية التحول التي تجري في النهاية تذكّرني بقصة قصيرة لكامو بعنوان “الرسام في محترفه” من مجموعته “المنفى والملكوت”. كانت قماشة لوحة الفنان تتضمن كلمة (!) إلا إن متلقي اللوحة لم يستطع أن يحدد إن كانت الكلمة تعني solitare أي (منعزل) أو solidare ومعناها (متضامن).
نحن نشعر إلى حد ما أن الشخصية الرئيسية تتراجع وتتقدم بين المطالب المتعارضة لعالمي الفن والأخلاق.
ـ أتفق معك، لكن أحب أن أقول شيئاً حول ذلك. أنا لا أعتقد أن الشخصية الرئيسية في المسرحية هو بيكاسو، إنما هي دورا مار. وهنا تكمن المأساة الحقيقية كما أظن.
دورا مار، التي هي حقاً تتنقل من شيء إلى آخر. إنها الشخصية الوحيدة التي تخوض عملية التّحول الحقيقي. أما تحوّل بيكاسو فلم ينبثق من داخله، بل من الأحداث التي تجري في خارجه.
دورا مار كانت محاصرة بالفعل بحبها له وبحقيقة أنها كان يمكن أن تكون فنانة أفضل بكثير لو لم تلتقِ به. كان يمكن لموته أن يحررها لتصبح تلك الفنانة العظيمة. دورا مار، في الواقع، تختار أن تعيد بعث بيكاسو ثانية، لتنقذه، لتمنحه الحياة، لترعاه، أن تكون بمثابة أُمّاً له في هذا العالم. أن تلده، كما أعتقد، هو التحّول الأكثر إثارة للاهتمام في المسرحية.
لقد عُرف عني أنني أخلق شخصيات نسائية مُحكمة وقوية للغاية، ودورا مار هي واحدة منهن بالفعل. لم يحزن قلبي على بيكاسو قدر حزني
على دورا مار. لقد كنت أفكر دائماً بأنك إذا أردت معرفة الشخصية الرئيسية للعمل، أي عمل فني أو أدبي، عليك أن تسأل نفسك من هي الشخصية التي يتحطم قلبك من أجلها أكثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
(*)
دورا مار: هنريت ثيودورا ماركوفيتش (١٩٠٧ – ١٩٩٧) واسمها المستعار دورا مار: مصورة فوتوغرافية ورسامة وشاعرة فرنسية من أصل يوغسلافي كانت عشيقة وحبيبة بابلو بيكاسو منذ عام ١٩٣٦ إلى عام ١٩٤٤)
(**)
جون بيرغر (١٩٢٦ ـ ٢٠١٧) ناقد فني انكليزي، روائي ورسام وشاعر. حازت روايته (G) على جائزة بوكر عام ١٩٧٢.
تتضمن دراساته النقدية للفنانين دراسة فريدة هي بعنوان “نجاح وإخفاق بيكاسو” عام ١٩٦٥ هي دراسة استقصائية لمسيرة الفنانين المجددين، كذلك دراسته “الفن والثورة: إرنست نيجيستني، القدرة على التحمل، ودور الفنان في روسيا” ١٩٦٩. عاش بيرغر في باريس أكثر من نصف قرن بعد مغادرته بريطانيا بسبب نفوره من العيش فيها.
(***)
دييغو فيلازكز (١٥٩٩ ـ ١٦٦٠) رسام إسباني وهو الفنان الرئيسي في بلاط الملك فيليب الرابع وأحد أهم الرسامين في العصر الذهبي الإسباني. كان فناناً يؤمن بالفردانية من العصر الباروكي المعاصر. رسم العديد من صور العائلة الملكية
الإسبانية وشخصيات أوروبية بارزة أخرى، وكذلك العامة، وبلغت أعماله ذروتها في لوحته الشهيرة لاس مينياس ١٦٥٦).
دومينيكوس ثيوتوكوبولوس (١٥٤١ ـ ١٦١٤) المعروف على نطاق واسع باسم إل غريكو، نحات ورسام يوناني ومهندس لفترة النهضة الإسبانية).