عندما يذوب الصمت
كفاح الزهاوي
استيقظت من النوم ومازلت اشعر بالنعاس. قفزت من الفراش، متثائباً بصوت عالٍ مع إصدار نغمات نشاز في كل مرة ضغطت فيها على فمي بأصابع يدي المتراصة.
أرسل صادق وهو مزارع في الخمسينيات من عمره، ابنته الصغيرة البالغة من العمر عشر سنوات الى مقرنا في وقت الظهيرة، طالباً المساعدة الطبية، لأن زوجته كانت تشعر بوعكة صحية. اعددتُ حقيبتي الطبية وتوجهت الى منزلهم المتواضع، الذي بناه بنفسه من الحجر والطين على الهضبة المطلة على مقرنا. يتألف المنزل من غرفة واحدة، فيها موقد، منتصباً في منتصفها. بالإضافة الى الغرفة، بنى كوخاً صغيراً كان مدخله مواجهاً للمنزل. استخدمه كمطبخ.
بعد ان انتهيت من فحص زوجته. قدمت لي ابنته قدحاً من الشاي. وفي هذا الاثناء دخل شاب وهو بيشمرگة ينتمي الى أحد الاحزاب الكردية التي كانت تتواجد قواتها في نفس الوادي. كان نحيل الجسد، عيناه غائصتين في محجريهما، ضامر الوجه، يخفي تحت بشرته حزن عميق. يلبس معطف غامق اللون.
رحب صادق به وقال:
اهلا بك يا دكتور. تفضل بالجلوس.
أجاب بصوت خفيض:
تعيش.
ثم جلس قبالتي وعيناه تحومان الغرفة بتفحص كمن يلقي على أجوائها نظرة الوداع. ثم ارخى نظره إلى الأرض، كاد اليشماغ ان يسقط من فوق رأسه. ومع ذلك لم يرفع عينيه نحوي. بينما طلب صادق من ابنته تقديم الشاي للضيف.
وأردف صادق وهو يوجه كلامه الى الضيف:
كانت زوجتي تشعر بالتعب منذ يوم أمس، بفضل دكتور نضال من البيشمركة التابع للحزب الشيوعي العراقي الذي استجاب للطلب وتولى الأمر.
عندها رفع رأسه وألقى نظرة سريعة نحوي بإيماءة خفيفة من رأسه بطريقة كمن يقول مفهوم.
ثم أضاف صادق كمن لا ينسى خدمات الاخرين ايضا:
يزودنا دكتور بهزاد ايضاً بالأدوية الطبية في كل مرة يزورنا فيها.
كان بهزاد رجلاً في الثلاثينيات من عمره. وهو معاون صحي. جاء مع مفرزة الى المقر التابع لحزبهم في مهمة عمل.
وفي تلك الجلسة القصيرة ترك لدي انطباعًا بأنه غير ودود وانسان غامض، لذلك حاولت التجنب وعدم الخوض في أي نقاش ودي معه. بعد ان احتسيتُ الشاي، غادرت المنزل.
وفي اليوم الثاني، في تمام الساعة الثانية بعد الظهر عندما كنت أزور مقر حزبهم، تناهى إليّ أصوات تشي بالشجار، عرفت فيما بعد ان بهزاد هو أحد اقطاب الخلاف في هذا التبادل اللفظي مع بعض رفاقه.
وفجأة استولت عليه رغبة جامحة بمغادرة المقر والعودة إلى مكان إقامته في مقر آخر، على الرغم من مناشدات البعض لمنعه من اتخاذ خطوة قد يندم عليها بعد ان أخبروه بمخاطر الطريق.
عند خروجه من الغرفة، كان سلاحه من نوع الكلاشينكوف الروسية قد علا كتفه والغضب يغمر عينيه، ووجهه متجهم حد الانفجار.
كان يوما ثلجياً عاصفاً. رحل وحيداً في هذا الطقس المُهلك، رافضاً الاذعان الى النصائح، بل أصرَّ على العودة بعناد مستميت الى مقرهم والذي كان يبعد بحوالي أربع ساعات سيراً على الاقدام في الأيام المشمسة.
اعترتني قشعريرة في جميع أنحاء جسدي، ولم أجد اي مبرر لقراره مغادرة المكان في ظل هذا الجو العابس والكئيب، وفي ظل هذا الإصرار المجنون على شق طريق مبهم المعالم، وهو في حالة نفسية حادة. تراءى لي كمن يفكر بالانتحار.
كنت ابحث عن تفسير مقنع لغضبه الذي اشتدَّ في لحظة، وقدرته الذهنية على مواصلة المسيرة بمفرده في هذه الوديان العميقة التي تغدو خطرة عندما السماء لا تنقطع ثلوجها عن السقوط. لابد وأن تركيزه كان منخفضاً ورؤيته ضبابية وفكره مُضْطَرِب. كل هذه العوامل مجتمعة كانت كافية لإلقائه في متاهة شاقة.
وفي صباح اليوم الثاني توقفت الثلوج عن الهطول والسماء كانت صافية كالزجاج، والشمس تضيء بقوة خاوية من الحرارة، وكأن السماء لم تكن قبل عدة ساعات في حرب ضروس مع الأرض وهي تغرقها بوابل من زخات الثلج.
خرج صادق في رحلة الصيد كعادته بعد ان تناول فطوره الدسم. لم يدم مكوثه طويلا في رحلته تلك، حتى عاد أدراجه بسرعة لينقل خبرا سيئاً إلى مقر الحزب الكردي، بعد ان تأكد بان بهزاد كان يرقد متجمداً بالقرب من كهف مفتوح ليس عميقاً نزولا الى الوديان القريبة عنا دون إعطاء مزيداً من التفاصيل…
بادره أحدهم بسؤال بينما علامات الحزن ترتسم على وجهه:
هل هو ميت؟
اجابه صادق بتردد، كمن غير واثق من الأمر:
لا اعلم، لكن جسده بدا جامداً والثج غطاه، لذلك هرعت اليكم لإبلاغكم على أمل ان تتمكنوا من إنقاذه.