لماذا الحرية الأكاديمية مهمة جدا وفي نفس الوقت لا يطالب بها احد؟
هل هناك حدود مشروعة للحرية الأكاديمية؟
ما هي بالضبط العلاقة بين الحرية الأكاديمية وحرية التعبير بشكل عام؟
لا يمكن إنكار أن الحرية الأكاديمية هي أساس المشروع الاكاديمي السليم، ولكن عندما يتعلق الأمر بالتخصصات الاكاديمية كعلوم الاجتماع والنفس والتربية والتاريخ والاقتصاد والفلسفة والتي تبحث في ألافكار والمفاهيم والقيم، تصبح القضية أكثر تعقيدا واهمية. فقد تعتبر جهات معينة تفسيرا معينا لحدث ما تفسيرا مسيئا وخطيرا. في هذه الحالة، ما الذي يمكننا فعله للحفاظ على الحرية الأكاديمية عندما تعتبر جهات معينة بداخل الجامعات تفسيرات معينة للأحداث الاجتماعية او التاريخية اساءة او اعتداء او كفر. بصراحة، تصبح المشكلة أكثر حدة عندما تكون هذه الجهات مجرد قوة مسلحة بدون سلطة رسمية، ولكنها تمثل تيارا سياسيا او اجتماعيا رئيسيا، وبهذا تكون لديهم القوة للرقابة على ما يثار ويناقش من الحجج والموضوعات والتفسيرات.
يتمثل الرأي السليم في أن الحرية الأكاديمية هي قيمة اساسية، أي شرط ضروري لتحقيق قيم أخرى، مثل الكشف عن الحقيقة او تحقيق إنجاز علمي. وبالتالي، فإن أي تقييد للحرية الأكاديمية يمثل حاجزا غير مباشر أمام تحقيق القيم الجوهرية، والتي تشكل سبب وجود الجامعة. فالعمل التعليمي الاكاديمي بحسب د. سعيد اسماعيل علي (2005) “ليس مجرد تزويد الطالب بكم من المعارف والمعلومات، وإنما الجامعة ” بيئة ” اجتماعية وثقافية ذات مواصفات خاصة تسهم في إعادة صياغة الإنسان”.
لكن ما هي الحرية الأكاديمية بالضبط؟ ما الذي يجوز لنا أن نقوله ونعمله وماذا لا يمكن ان نقوله ونعمله؟ هل تتيح لنا الحرية الأكاديمية الإدلاء بتصريحات فظة وخبيثة أو الإساءة الى احد عمدا تحت ستار البحث العلمي؟ علاوة على ذلك، هل لنا الحق في اقتراح نظريات وأفكار وحجج مسيئة باسم الحرية الأكاديمية؟
نحتاج اولا إلى تعريف واضح للحرية الأكاديمية. يمنحنا بحث غوغل البسيط بعض هذه التعريفات: “الحرية الأكاديمية هي حرية الباحث في التعبير عن الأفكار دون التعرض لخطر التدخل الرسمي أو الحرمان المهني”. أو: “الحرية الأكاديمية هي حرية التدريسيين والطلاب في التدريس والدراسة واكتساب المعرفة دون أي تدخل غير معقول أو دون أي قيود قانونية أو تنظيم مؤسسي أو ضغط عام. من بين عناصرها الأساسية حرية التدريسيين في البحث عن أي موضوع يهمهم فكريا، وفرصة لعرض نتائج أبحاثهم على طلابهم وزملائهم وعامة الناس، ولنشر بياناتهم واستنتاجاتهم البحثية دون رقابة، وأن يدرسوا بطريقة يعتبرونها مهنية صحيحة. بالنسبة للطلاب، تتمثل العناصر الأساسية لحرية التعبير في حرية دراسة أي موضوع يهمهم، والتوصل إلى استنتاجاتهم الخاصة، والتعبير عن آرائهم حول هذه الموضوعات” (موسوعة بريتانيكا). من هذه التعريفات، يمكننا أن نستنتج دون أي صعوبة جوهر الحرية الأكاديمية. هي حرية البحث في أي موضوع دون التعرض لخطر النبذ أو العقاب بسبب الاستنتاجات التي قد تتوصل إليها.
في الحقيقة تحدد طبيعة الأشياء التي نتحرى عنها طبيعة البحث الذي نقوم به. حقيقة أن العلوم الطبيعية تبحث في الأشياء الجامدة أي الأشياء الخالية من الإرادة الحرة والعقلانية والعواطف تحمي الباحثين من المشكلات التي تنشأ في العلوم الاجتماعية والفلسفة والعلوم الإنسانية. التحديات التي تواجه حرية التعبير الناتجة عن طبيعة الأشياء التي تبحث عنها العلوم الاجتماعية هائلة. القيود الأخلاقية الأساسية الذي يواجهه الباحث هو أنه يجب عليه فصل آرائه الشخصية وقيمه وتحيزاته وصورته النمطية ومصالحه عن الحياد العلمي أو الموضوعية. وبشكل أكثر تحديدا، ما نؤمن به كبشر حول حقائق وأحداث ومواقف معينة لا ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار عندما ننخرط في البحث العلمي الذي نحاول فيه إيجاد تفسيرات معينة أو إظهار بعض الارتباطات أو اختبار مجموعة من الفرضيات.
في هذا السياق، السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكننا اقتراح أي نوع من الفرضيات التي نعتبرها ذات صلة، أو على العكس من ذلك، هل هناك سلسلة من الفرضيات التي لا ينبغي لنا أبدا صياغتها؟ على سبيل المثال، هل يسمح للاكاديمي ان يبدي رأيا معارضا لمشروع لائحة تنظيم المحتوى الرقمي والتي من شأنها تهديد الحق في حرية الرأي والتعبير والتضيق على الحريات في الفضاء الرقمي؟ وما هو قدر الجرعة المسموحة للتدريسي من المساءلة والتشكيك في عقيدة او فكر لغرض ممارسة قدر من التفكيك والتحليل العلمي ومن دون التعرض للملاحقة القانونية او التهديد بالقتل؟ وهل يمكن للتدريسي من انتهاج اسلوب مغاير للتعليم عبر التلقين والتكرار ودراسة الكتب الكلاسيكية وباساليب تدريس تقليدية عقيمة دون تفاعل مع الطلاب (محمد الربيعي، 2018)؟ وهل الخروج عن نمط ثابت ومبرمج في التدريس او الامتحانات والتخلص من فكرة قديمة هو عمل ضد الادارة العليا “السامية والنبيلة”؟ وهل يُسمح للاقتصادي، في حريته الأكاديمية، بمحاولة إيجاد علاقات متبادلة بين الاقوام والشعوب والتنمية الاقتصادية؟ أم بين العرق والقومية والذكاء والأداء الأكاديمي؟
وفي هذا الصدد يطرح د. محمد سعد برغل (2021) سؤالا جوهريا وهو: هل تمثل علاقة الأستاذ الجامعيّ بالدرس والطلاب ترجمة أمينة للسياسات الحكومية التي تختار مناهج التعليم العالي وتحدد مقاصده وآلياته بحكم أنّ ميزانية الجامعات تأتى منها، وهو ما يمكّنها بالتالي من إحكام قبضتها على السياسات الأكاديمية وإزاحة كلّ الموضوعات التي ترى فيها خطرا يهددّ وجودها؟
في الواقع اتجهت الجامعات العربية منذ نشوئها إلى تضييق حدود الحريات فكبلت التدريسي بقيود الرقابة والمحرمات والمقدسات، ومنعت عنه حرية التعبير عن آرائه، وغرست فيه الخوف من النقد، ودربته على الاستلاب الفكري وقبول الواقع وأبعدت عن عقله فكرة مقاومة السلبيات الاجتماعية والاقتصادية والفساد السياسي، ودرَّبته على الثناء والمديح (سمر روحي الفيصل، 1996، خالد صلاح محمود، 2015). وحسب ما كتبه د. عبد الفتاح ماضي (2012) فان الجامعات العربية تعاني من الانغلاق الفكري والبحثي لكثير من اساتذتها وباحثيها، باكتفاء البعض بما تعلموا في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه، أو في بحوث الترقية، وعدم الانفتاح على مدارس فكرية جديدة أو محاولة اكتساب معارف جديدة.
يتعلق التمييز الاول للحريات الاكاديمية بحقيقة أنه يكاد يكون من المستحيل رسم خط فاصل واضح بين الحدس الشخصي والعناصر الذاتية الأخرى، من ناحية، وعملية البحث العلمي، من ناحية أخرى، والتي، على الأقل من الناحية النظرية، يجب أن تكون موضوعية تماما. يتعلق التمييز الثاني بالقيم التي يجب أو لا يجب على التدريسي أو الباحث الالتزام بها. في السنوات الأخيرة، شهدنا في العالم الأكاديمي الغربي عملية تم فيها إلقاء اللوم على الكثير من الأساتذة بسبب قيمهم الشخصية ووجهات نظرهم للعالم. جادل بعض الأشخاص وفئات اجتماعية معينة بأن الأشخاص الذين يلتزمون بقيم سياسية ايديولوجية محددة لا ينبغي السماح لهم بأن يكونوا مدرسين أو باحثين. منطق هذه الحجة هو: للحصول على وظيفة مدرس، لن يكفي تلبية معايير أداء معينة، لكونك ستفي، في نفس الوقت، ببعض المعايير الأيديولوجية أو العقائدية، وعندها سيكون هناك تعارض بين معايير الاداء الاكاديمي والمعايير الايديولوجي Charlotte West, 2021)).
حقيقة أن طريقة التفكير هذه تدفعنا نحو فهم سلطوي للجامعة حيث ترتبط هذه المسألة ارتباطًا وثيقا بفهمنا للحرية الأكاديمية. ما هو بالضبط دور الجامعة في مجتمعاتنا الحديثة؟ هل دور الجامعة يتركز في تعزيز البحث العلمي واكتشاف المعرفة والتحصيل الدراسي؟ أم على العكس من ذلك دور الجامعة في تعزيز قيم مثل العدالة الاجتماعية والمساواة؟
إذا كان دور الجامعة هو تعزيز الاكتشاف والابداع العلمي، فمن المشروع اعتبار الحرية قيمة مفيدة تخلق الظروف اللازمة لتحقيق القيم الجوهرية، مثل الحقيقة العلمية والإنجاز الأكاديمي. من ناحية أخرى، إذا كان دور الجامعة هو تعزيز تحقيق القيم الجوهرية بخلاف تلك المذكورة أعلاه، فقد لا تشكل الحرية الأكاديمية قيمة مفيدة فيمكن أن تحل محلها اليات أخرى، مثل الرقابة أو التدخل من أعلى إلى أسفل لسلطة رسمية لتحديد مواضيع الدراسة، واستنتاجات البحث، ومحتوى المناهج والمقررات، وهذا ما يحصل فعلا في الدول الدكتاتورية. ويبدو لي ان من اهم المبادئ التي يجب على الجامعات العراقية والعربية تبنيها كأسس عامة هي حق الاستاذ الجامعي في حرية التفكير التحليلي النقدي والمبادرة والتجديد وجعله قادرا على الجمع بين ضروريات التدريس والبحث العلمي والادارة الوظيفية والاكاديمية (محمد الربيعي، 2007).
دعونا نذكر بإيجاز ثلاثة أسباب تجعل دور الجامعة يجب اساسا أن يكون لتعزيز البحث العلمي واكتشاف المعرفة، وليس فضاء لتجانس القيم ووجهات النظر. أولاً، لا يوجد إجماع حول القيم التي يجب أن تروج لها الجامعة، وبالنظر إلى الطبيعة التعددية للمجتمعات الحديثة، سيكون من غير الواقعي التفكير في أننا سنصل إلى مثل هذا الإجماع. ثانيا، الجامعات بطبيعتها مؤسسات يجب أن تكون محايدة فيما يتعلق بالاختلافات في الرأي والقيم وبالعلاقة مع التدريسيين والطلاب. أخيرا، تعتمد رفاهيتنا ونوعية حياتنا على تقدم المعرفة العلمية، والتي تعد المدخل الرئيسي للتقدم التكنولوجي. إن أي تغيير في وظيفة الجامعة لا علاقة له بالاكتشاف العلمي والتقدم في المعرفة من شأنه أن يقوض تقدم المعرفة، وبالتالي التقدم التكنولوجي. كما ان عدم مراعاة معايير النزاهة الأكاديمية، والأمانة العلمية والالتزام بالحياد وحماية الطلبة من أي عمليات قد تستهدف التلقين الأيديولوجي أو المذهبي أو الحزبي قد يمكنه ان يقوض تقدم المعرفة.
واخيرا، يأتي التحدي الرئيسي للحرية الأكاديمية من أولئك الذين يريدون تغيير الدور المجتمعي للجامعة. حتى لو لم يعترفوا بذلك علنا، فهم يتبنون نهجا قوميا او طائفيا وبعضهم يطلق شعارات كالجامعة المنتجة والاخر يصر على التمسك بالمركزية وبالضد من الاستقلالية. وبالتالي، إذا أردنا المضي قدما وإجراء مناقشة صريحة حول الحرية الأكاديمية، يجب أن نذهب إلى جذر المشكلة ونجيب على السؤال بصراحة: ما هو دور الجامعة في المجتمع اليوم؟