بروموثيوسية مظفر النواب
الشعرية والشاعرية
عبد الحسين شعبان
تقترب صورة مظفر النواب في الذاكرة الجمعيّة العراقية والعربية من صورة برومثيوس في الميثولوجيا الإغريقية، الذي انحاز إلى البشر حاملًا شعلة النار الإلهية من جبل الأوليمب لتكون قبسًا لهم، وهو ما أغضب زيوس، آلهة السماء والصاعقة الذي يمثّل قوّة الطبيعة، منه غضبًا شديدًا.
لم يكن التمرّد بالنسبة لمظفر ضربًا من العبث أو اللّاجدوى، بل إن العبث ألّا يتمرّد الإنسان، وبقدر ما تشبّث بروموثيوس بالحياة، تشبّث النواب بها أيضًا متحدّيًا القدر الغاشم رافضًا المساومة والخنوع، وهكذا صنع بتمرّده وإصراره لحن حياته البروموثيوسية.
وحسب ألبير كامو يصبح الإنسان بتمرّده أقوى من المصير. والمقاومة هي لحظة وعي وفقًا لمظفر، وهذه هي التي تقود الإنسان إلى التمرّد، وهكذا فشرارة واحدة تكفي بالنسبة لمظفر أن تلهب روحه المتمردة فتتحوّل الرغبة إلى فعل والحلم إلى إرادة نشوانًا للكمال والاكتمال ورفضًا للهوان والامتهان.
المتمرّد هو من يقول “لا” وفقًا ﻟ طه حسين، والتمرّد مسار فيه قوّة “الأنا” المحرّكة لتحقيق الذات، حتى وإن كان الخروج من الجماعة والانشقاق عنها ورفض الشائع والمستقر والمعروف، وهو ما عمله مظفر النواب، فلم يكن متمردًا فحسب، بل كان مثل شهاب انفكّ من السديم، ليكون القدوة والمرجع.
هكذا أصبح مظفر بوصلةً وشراعًا باختيار طريقه الخاص في الإبداع بدلًا من الاتباع، والحداثة بدلًا من القدامة والأشكال الجديدة بدلًا من القوالب الجامدة، وانتقل من الشكّ إلى اليقين في إطار شكوك فرعية صغيرة في اليقينيات الكبيرة السائدة، فقد تمرّد على المسلّمات، بمختلف مسمّياتها وأشكالها وهو تمرّد عقلي لأجل إنسان لم يولد بعد وحلم لم يتحقق وأمل قد يبدو الوصول إليه مستحيلا. إنه تمرّد للخروج من شرنقة الخنوع إلى فضاء الحريّة ومن قيد الاستتباع إلى رحاب الاستقلالية ومن عبء التقليد إلى شاطئ التجديد، ويمكن القول “أنا أتمرّد فأنا موجود” وهو لسان حال مظفر النواب، باقتفاء أثر ديكارت “أنا أفكّر فأنا موجود”.
في هذه الأجواء الإبداعية – التمرديّة نشأت شاعرية مظفر، حيث تلاقحت موهبته مع رسالته الشعرية باستخدام تكنيك شعري ولغوي ومصطلحي خاص به، حتى ليمكن القول أن ثمة قاموسًا مظفّريًا بدأ يتكوّن، لاسيّما في اللغة المحكية (القصيدة الشعبية).
وإذا كانت الشعرية تتعلّق ببحور الشعر وأغراضه والشواهد الشعرية والانفتاح على اللغة ودلالاتها، فإن الشاعرية كمصطلح استُخدم في أواسط القرن العشرين كتعبير عن الإحساس الرفيع بتمثيله الروح التي تلامس الشعر وتعبّر عن جوهره، وهو ما جاء عليه غوستاف باشلار في كتابه “شاعرية أحلام اليقظة” (1991)، فكيف يمكن التوقّف عند شاعريّة المبدعين ومنهم مظفر النواب؟
الشاعرية تتميّز بالحساسية والجمال والإلهام، ومثلما ترتبط بفن الشعر فهي ترتبط بعموم الإبداع. وقد توقّف باختين عند شاعرية الروائي ديستوفسكي. وسبق للمعلّم الأول أرسطو أن تناول في كتابه “فن الشعر” التكوين الفني ومحاكاة الطبيعة بصفتها جوهر الشعر بما فيه الملهاة والملحمة والحوار والموسيقى والرقص، فثمة فارق بين ما يسمّى شعرًا وبين ما يسبغ عليه حيّزًا جماليًا بحيث تشعر أنه “شعر”، وهو ما نشعر به ونتحسسه حين نقرأ شعر مظفر النواب، ناهيك حين نسمعه بصوته المؤثر ونبرته المتميزة مموسقًا وممسرحًا تتراقص صوره الفنية برشاقة فائقة، وهارموني عالي الانسجام.
وتختلف الشاعرية من شاعر إلى آخر باختلاف إبداعه، وهذا هو الفرق بين شاعرية تنطلق من الروح وأخرى شكلية. وبالطبع هناك معمار لكلّ قصيدة يتم هندستها وفقًا لمعجم الشاعر اللغوي واستعاراته وتركيباته، والأمر ينسحب على مكنونات الإبداع الأدبي والفني، وبقدر ما يكون المبدع متقنًا لصنعته تكون اللغة مطواعة بين يديه؛ والرسالة الابداعية بقدر جماليتها فإنها تعبّر عن مدى إنسانيتها.
وبالنسبة لمظفر النواب فكتابة الشعر وإن كانت خلاصًا فرديًا وتعبيرًا عن روحه التوّاقة إلى الحريّة، إلّا أنها بدأت تأخذ بعدًا أكثر جماليةً ورمزيةً في الخلاص الجماعي، لاسيّما الانحياز إلى المظلومين والمهمّشين.