سأذبح حمائم شعري.. لا متسع اليوم لأحجيات الهديل ، انهضي يا أوراق الكتاب ، مزقي ثوبكِ الأبيض ، ضجي سواداً حلقي كالغراب ، ليكن سوادك ثقوباً في نهارٍ يُطلُّ من خلف تلال القذيفة..
انبشي الأرض ، اقلبي التراب.. وجه الأرض محتجبٌ بالجثث ، ابحثي عن متسع ٍ لأقدام الصغار وأكفهم الطرية أولئك المساكين الذين لم يتعلموا المشي بعد ، الذين كلما استقامت قامتهم ونمت سيرون تشكيلاً جديداً لفنون الدمار.
آهٍ يا عيناي ، آهٍ يا قدماي.. كلما نبش الغراب ، كمن يستحم بالتراب ، كي لا يعتاد قابيل الجديد مشهد الموت ، وجد بئراً جديداً يزدحم بأشلاء يوسف والدماء ، تكسرت أناملكِ يا سماء.. آهٍ يا مآذن الشام العتيقة.. مئذنة الحي المكسورة خنجرٌ يطعن الروح ، يَجُبُّ ألفة خطواتي للطريق ، أهذا ما كان دربي ؟! وبراثن من حولها تنزعُ عقد الياسمين عن صدر جدار بيتي وتفتح فيه عيوناً ترمقني برائحة النار والبارود.. يا أيتها القذيفة تدسين مخالبكِ في أركان قلبي وفي أشجار التين العتيقة ، وفي وجه دربي.. تباً لكل تلك الشظايا في فنجان قهوتي وصحيفتي كل صباح..
يا أعين الأطفال يا أعين الأطفال.. كيف أنزع منكِ الشظايا وليس فيما حولكِ إلا بقايا من كل شيء ؟! أرجوحة ٌ فقدت إحدى ذراعيها تتشبثُ بالأخرى كي لا يركبها الغياب..
يا للقذيفة كعاشقة شبقة مجنونة تضاجع جثة عشيقها ، تتعشَّق في جسده وكأن خلاياها أسراب من النمل تداهم خلاياه.. آهٍ وللآهِ آهٌ .. كنا لا نعرفها إلا في مواويل العتابة وأغاني الغرام ، آهٍ وأنت يا أبي المُلام ، تستنسخ الماضي في حاضرك وتزج بي بين الزحام !
كم وكم بكت أشجار الكينا والدالية دمعاً أخضر؟! تبكي أطفالاً ضحكاتهم ، لشفاه العيون ، كالسُكر ، ما استطاعت أذرعها الكثيرة أن تمسك النار وما أغرت خضرتها طيور الحديد ، فحطت على أجسادهم الصغيرة وعلى أضلاع الحُلم في المُقل.
آهٍ يا أيها الجحيم المُعلّب ، آهٍ يا صومعة الأحقاد ، يا قذيفة ، يا أيتها الغريبة التائهة في شوارع البلاد ، تمددي كيف شئتِ ، مُدي أسنانكِ كيف شئتِ ، سأجعل كفاي حمامتين تطوفان فلسطين ، سأحيل أناملي مناقيراً وأحداقي مجاهراً ومناظيراً وسأخرجكِ من عش العصفور وسأحذفُ ما كتبتهِ بين حروف ذكريات العاشقين على أشجار الحَور وسأستنشق كل البارود من أوردتكِ يا غزة ، وسأقص ضفائر أمي وأختي وابنتي لأضمد بها جراح المئذنة.. آهٍ يا دوحة المدرسة كم ركضت عيناي تبحثان عن خطوات الأطفال فيكِ وعن أشيائهم الصغيرة الضائعة ، كم أنتِ شاحبة ٌ يا شموعي العاليات تحت وشاح الصمت ! من يوقد المآذن ترحاباً بالفجر ، من ينفخ فيكِ يا نايات الروح ظهراً وعصر ، خذ قلبي يا مسجدُ قُبَّة ً فدمعي استطالَ على الوجناتِ مآذناً وتلك الحمائم والنوارس مصلوبة في دفاتر السماء. من ذا يرتب سرير الروح ، و أمي ، أُمَّتي ضريرة ؟!
كم هي بيوت العرب هشة الجدران ، من زجاج ٍ صنعوا الأوطان وفوق كل وطنٍ علق أحجارهُ الشيطان ، يضحك بشفاه مقصاتهِ ، كلما قيل له كفى ترفاً ألا تخشى الخواء في جيوبك ؟! قال: بل سيشتري العربي كل ما أصنع وسأبيعه ما أشاء طالما يدعني أصنع له عدواً.
قبل ألف عام كنت أشاهد رجال الملوك يتقاتلون وكنت أبكي ، ليس عليهم فجلهم طامعٌ بالغنائم والسبايا.. كنت أبكي المدائن وأهلها والخيول ، واليوم كلٌّ يأمل نصراً وكلهم خاسرٌ وسهام النار كثيرة ضريرة .. أركض إلى دار أخي وقد داهمتني عنها أخبار ، أراها نائمة تِلكُمُ الدار ، أحاول رفع أجفانها عن أطفال أخي ، أحاول سحب ابنته من تحت ذراعها البدينة ، تتقلب الدار في نومها حتى تختفي جثث أهلي ويغدون فكرةً في أحلامي وأحلامها.. أرفع عتبة الدار شاهدةً ، الدارُ كل الدار قبرٌ ، هنا عاشوا هنا ماتوا ، أسير أتعثر بحطامي ، أسير ولا أسير ، فكلما سرتُ رأيتني أمامي ، لا أرى ما أمامي !