ما زلت أذكر تلك اللحظة حين التقيت بها في المرة الاخيرة من ذلك الصباح الخريفي، ضباب يتجه نحو الأفق، يحجب الرؤية رويداً رويداً. وكنت غارقا في تأملاتي في واقع الحياة وقلبتُ الأوراق المبعثرة على المنضدة في مكتبي وكانت النافذة الوحيدة في الغرفة مغلقة في الطابق الثاني من البناية، وتردد وقع اقدام خفيفة وهي تصعد الدرج وتقترب الصوت روداً رويداً من الغرفة، فجأة انفتح الباب، ترددتْ في وقفته قبل الدخول ثم خطوت الى الداخل ووقفتْ قرب الباب الخارجي للغرفة كانت تبدو عليها الحيرة. ولم يكن على وجهها مرحها المألوف، وكانت صورة وجهها تلوح بسر ترتبط به أغوار نفسها وكانت هذه النفس كأنها مرعوبة او مهمومه لم أكن انتظر مجيئها، وقد شعرت بفرح ممزوج بقلق لمجرد دخولها الى غرفة المكتب.
– في البداية بدا عليٌ التردد وعدت اهز رأسي بقلق، أمِطْتُ اللثام عن مخاوفي.
– وقفتُ خلف المنضدة واحدى يديَ في جيب السروال والثاني مرفوعة لأحيها بحرارة وهي لم تستجيب، ضلت واقفة، ويدها اليسرى على خصرها المشبوب.
– قلتُ:
– تفضلي اجلسي،
– بقيت صامتة وتحدق فيٌ، استمريتُ في النظر اليها بهدوء وهي في حالة عصبية حادة، تركتها حتى تقرر بنفسها. بعد برهة، جلستْ على الأريكة القريبة من الباب واتكأتْ بظهرها على المقعد بعد أن أخذتْ نفساً طويلاً دون أن تنبس ببنت شفة! ضمت ساقيها وعيناها محددتان في السقف، كانت تضع شال من الحرير على كتفها.
– سيطرتْ عليٌ في هذه اللحظة شعور بحزن عميق، وأنين الظلمة ووحشتها تتسرب الى قلبي وكياني. لم تكن على عادتها، بعد فترة من الصمت، رددت كلمات لم أفهمها فقد كانت مبهمة وغامضة وهي ترتعش كما ترتعش نبتة وضعت في الماء، وبدا الانفعال واضحا على وجهها. وملامحها أقل صفاء مما كانت منذ أعوام.
قالت جوهرة:
– لم أتِ وحدي اخي طاهر معي وهو جالس مع الاستاذ علي في غرفة الانتظار.
اردفتْ:
– انك تسئ لي عند اصدقائك.
وقد تعجبت من كلامها، وهي تعرفني وتعرف طباعي جيداً، لم اقل شيئا تسئ إليها، وكانت تحكي بطريقة تود ان تسمعها وتشعرك بأنها ضائعة الحق في الحياة..
كدت اسمع دقات قلبها لعنفها، كانت كئيبة تلفها هالة من الحزن وتبدو متعبة ومرهقة بسبب مرض غريب أَلِمَ بها. كان الموقف صعبا ًماذا اقول لهذه الانسانة التي عرفتها مناضلة صلبة مثقفة لا تستكين وتضج بالحيوية والتألق وتستقطب الاهتمام. كنت حائرا لم اتفوه بكلمة.
في تلك اللحظة، نظرت إليها بدهشة، وكأنني رأيتها لأول مرة.يطاردها الحزن في كل مكان، ويحيط بها، ويدور حولها، دون أن يدمرها بضربة من مخالبه، أخذتُ أراقبها مراقبة المكتشف الذي يحاول معرفة الحقيقة.
– حاولتُ ان اغير مسار اللقاء وتفكيري لا زال مضطرباً منذ اللحظة الأولى من لقائي بها، سحبت نفسا عميقا بعدما فكرت أن أغير مجرى الكلام عساني ان أستطيع التغلب على حالتي وتقليل مساحة الحزن الذي تلبسني كقوة خارقة.
– ركنت الى الهدوء وزال عني التوتر، ولكن الأفكار والذكريات ظلت تتوالى علىٌ.
كنت أفكر فيما إذا مصارحتي لها بما يجول في خاطري تخفف من حدة توترها.
قلت لها بأعصاب هادئة:
– عندما تتوترين تتراءى لي انك أكثر جمالا!
يبدو أنني عندما نطقت هذه العبارة بدت كما لو كانت مغازلة أكثر مما كانت ملاطفة الجو.
لقد شعرتُ أنها تغيرت مشاعرها ورسمت على وجهها علامات الرضا لأول مرة في هذا اللقاء ربما شعرتْ بالسعادة. شعرتُ بهدوء داخلي عميق تسري في جسمها.
ونقطة البدء في تعارفنا معا، كانت صباح ذلك اليوم من الأيام، حين دخلتُ بيت أم سلام وكنت على موعد اللقاء بها في مهمة حزبية. كانت جوهرة تجلس في الغرفة التي تطل نافذتها على الباب وقد لمحتْ وجهي وعرفتْ من خلال تجربتها الحزبية على أنني شخص غير عادي، هكذا هي قالت لي، بعد أن تسلمتُ منها رسالة تطلبْ تنظيم عملها مع المنظمة
كانت جوهرة زهرة جميلة، فاتنة، بشرتها ناعمة بلون بياض السكر ممشوقة القوام، وشعرها الشقراء مسدول على كتفيها، كانت تتميز ببراعة مشيتها المتناسقة واناقة ازيائها، صحيح انها امرأة حادة المزاج، ولكن انسانة طيب القلب وكريمة النفس، شخصية ذكية وشديدة الحضور فهي كانت تتمتع بثقة بالنفس، وهي سيدة مشهورة على نطاق مدينتها. ويبدو للمرء في الوهلة الأولى عندما يقع المرء بصره عليها أنها ليست بحاجة إلى أحد، ظلت محبة للناس، قريبة منهم، تحاول أن تقدم لهم ما تستطيع وهي تسعى لمساعدة المحتاجين.
هذه المناضلة التي لم تنقطع عن المعرفة وعن النضال السياسي خلال المراحل الصعبة والخطرة التي يعجز القلم عن وصفه.
كانت تدخل الى غرفتها تقضي ساعات عديدة منكبا على الكتب. وكانت لها مكتبة عامرة بمختلف الكتب الادبية، والفلسفية، والاقتصادية، وغيرها.
صقلت جوهرة فكرها وشحذت مواهبها وانارت بصيرتها، فلم يعد مجرد انسان عادي تساق في خضم الحياة دون ارادة ووعي وإنما كانت في مجمل حياتها السابقة تتناول المسائل بالتفكير والتحليل والتدقيق والتأمل وقد قابلتها أيام عصيبة وواجهت ظروف شديدة التعقيد بعد حملات الاعتقالات التي شنت على رفاقها. فظن البعض أنها لا تقدر الصمود أمام هذه المصاعب، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، بل تخطت كل هذه الصعوبات والعقبات التي اعترضت طريقها وخرجت من المآزق كافة بطريقة ذكية.
ولكن في الحملة الاخيرة قبل ثلاثة عقود ونيف أصيبت بصدمة كبيرة بعد أن تعرضت الى التهديد والوعيد والتعذيب النفسي والبدني من قبل أجهزة الأمن والمخابرات للسلطة العراقية اثناء اعتقالها في بغداد في نهاية الثمانينات من القرن العشرين. حولت حياتها الى تعاسة، ومرهقة للغاية.
لقد كانت على مدى الأعوام الماضية وتأخذها يومياً حمماً من الحزن وتنتابها نوبات الخوف واليأس وخيبة الأمل وهي غير مقتنعة بما يقال لها، وهي تصر على ما تتخيلها هي واقعية وهذا ليس مرض كما يشاع عنها. ولا تشعر بالرضا والسعادة وتحولت حياتها ومن حولها الى جحيم منذ فترة طويلة وفي بعض الاحيان يساعدها الحظ ينمو ببطء وتعود إلى حالتها الطبيعية، في هذه اللحظات الجميلة تطل خيالاتها من عقلها الباطن وتهيمن الخوف مرة اخرى.
تسبب تخيلاتها التي تتكلم عنها ضيقاً لمن حولها وفي بعض الأحيان ما يثير سخريّةَ أبنائها. يصفها ابنها الأكبر بأنها متعبة بسبب توترها وخيالاتها.
خلال هذه السنوات ها هي تعيش الحالة نفسها وفي عينيها جفت الدموع، لا تزال تعاني من الخوف القديم الجديد، فقد خارت قواها وامتلأت رأسها بأفكار من نسج خيالها. وغالباً تنقبض قلبها وتدخل غرفتها وتغلق الباب والشبابيك على نفسها من شدة القلق. إن القلق ضلٌت تنهشها طوال هذه الفترة.
كما هو معروف أن الرأس تفرز عند التوتر الشديد دهوناً ومواد أخرى، وتساعد الدموع على إخراجها بعدها يشعر المرء بالهدوء، أما جوهرة كانت تحتقن الدموع في عينيها وتزداد التوتر.
في بعض الليالي، تستولي عليها كآبة غريبة. تأخَذَهُا عَلَى حِينِ غِرَّةٍ، ويستبد بها خوف، تشعر أنها الوحيدة، قد هجرها صديقاتها واصدقائها جميعا معانيا من اضطراب عميق دون تعرف لماذا تحدث لها. دون تدرك أنها ابتعدت عن العالم من شدة الخوف بعد مرضها.
تتحدث مع نفسها وتقول:
– لا أحد يزورني، كما لو كانوا نسوني، كما كنت، حقا، غريباً عنهم!
– نعم الجميع هجروني، بقيت وحيداً اصارع هؤلاء الحيتان، وحتى في بيتي لا أشعر بالراحة.
يُعدّ اضطراب الوهم من الأمراض النفسية المصنّفة تحت اضطرابات الذهان، وهو مرض يعاني فيه الشخص من مشكلة في إدراك الحقيقة، لا تدرك جوهرة سبب هذا الأسى الذي يزحف الى داخلها، وأن ما تعاني منها ليس مرضًا بحدّ ذاته، والاصعب من حولها لا يفهمونها وقد رفضت العلاج النفسي، مما اضطر أحد أقاربها طرح مرضها على طبيب الأمراض النفسية وكتب لها الحبوب، واخيراً أبدى استعدادها للعلاج الدوائي، وبعد أن تناول الأقراص، بدأت تقوم بتنظيم ما تدور في رأسها في فترة بسيطة وقد ساعدها على التهدئة في السنة الماضية، وأقلعت عن التخيلات والاوهام وبدأت تمارس حياتها بشكل طبيعي.