سميرُ الظُلمَة
يحيى علوان
حينَ يجفُّ الضياءُ ، يَنسَرِبُ في التيهِ .. يسقطُ فَحمُ الله ، تَنطفيء كلُّ الألوان، فَتَفغَـرُ الحواسُّ،
تصرخُ بما لا تَدري من الإيقاعاتِ.. بِـدءاً من ولادة الصمتِ.. حتى رُقادِه.. بأنغامٍ وهواجِسَ ..
لاعلاقةَ لهـا بمهارةِ العازفِ ، بلْ بحالةِ ” آلةِ العزفِ وأوتارها ، مشدودةً كانتْ ، أم مُنسَرِحَةً … ”
تَتَحَـزَّمُ بالصمتِ ، تُحاولُ العودةَ إلى ما قبلِ ظهورِ اللغةِ ، وبِـدءِ الزَيفِ..
ستنسِفُ ألغامَ اللغـةِ، كـي تتحاشى الفَصاحةَ، ألاعيبَ التَوريَةِ، وتَهويماتِ المجـاز..
فالوقتُ، وقتُ الجدِّ ، لا مجالَ فيه للهزَلِ والتَفَكُّهِ… إلاّ مُخاتلةَ الصدفةِ كي تنجـو بجلدكَ…
كَفاكَ تنتَظرُها (الصدفَة) بصورةٍ منُتَظِمَة !!
ودونماَ قَصدٍ منكَ، ستَنفَتِحُ ستائرُ النسيانِ، وسيستقبِلُكَ ( النسيانُ) بممحاته الحنون،
يمسحُ عن قلبكَ كَدَمات الذِكرى، ويغفرُ لكَ أَحزانَكَ،
فَتهرَبُ من دهاليزِ الذاكرةِ أَبخِرَةُ الماضي ..
قبلَ أن”تحتَرِفَ” الغربةَ و”تستوطنَ ” الضياعَ مُتظاهراً أَنكَ سائح …
يومَ فَتحتَ بابَ الرمادِ فسقطتَ في بئرٍ مـن الحمّى…
إذا كان الزمن يتكفَّلُ، حقاً، بإشفاءِ جروحِ الماضي .. فمنْ أَينَ أَينَعَتْ جِراحاتُنا،
حتى إكتَسَتْ شفاهُها بالشوك ؟
::::::::::::::::::::::
قُلنا وكَتَبْنا، على كلِّ درجاتِ السُلّم الموسيقي ونَغَماته،
حتى بَلَتْ عَتباتُـه فصارت نَغَماتُه نشازاً كورالياً من كثرةِ الترديد..
ولم يتبدّلْ شيء !!
نحنُ أيتامُ الفَرَحِ وأَرامِلُه!
مُدُنٌ نزَفَتنا ذاتَ زمنٍ، وتقيأتنا ذاتَ ضحىً مُشمِسٍ…
تَرَكَتْ فينا خوفاً غامضاً ،
ظلَّ ينمو بداخلنا، له طعمُ الخطيئة ..
جُرحَ الزمانِ غَدَوْنا… مُتغرّبينَ صِرنا،
نتكيءُ على أرواحنا بصمتٍ مديـدٍ،
مُـدنٌ ضَيَّعتْ يَقينَها.. تأريخَها وأساطيرَهـا، فَغَدَتْ مثل بَغيٍ بلا ذاكرةٍ،
بلا قلبٍ.. يمتلكها مَنْ يُريـدُ أنْ يسفَحَ فيها ماءَ فحولَتهِ !
فَرُحنا نَنْزِفُ خلفَ أَقنِعتِنا البهيجة…
وبعدَ أنْ رَحلنا كَمَـداً، إعشوشَبَ الحنينُ، حتى تَفَضّضَتْ أَوداجُهُ !
وغَدَونا أطفالاً نَقْرَعُ أبوابَ الذكرى،
.. صَيَّرنا رَجعَ صدى صرخةِ أَيـوبَ*.. نصباً من مرمرٍ !
شَبَقُه ، يصولُ بدَمِنا، فَنَتَعَثّرُ بِظِلٍّ مُفتَرَضٍ.. !
……………………..
طريدةَ “عيونِ السلطانِ ” صِرتَ …
هرباً من مُطاردةِ العَسَسِ، دَلَفتَ إلى خربة في الشواكة،
شاخَ فيها الزمنُ، تُعمي الموشورَ وتُجَنِّنٌ إبرةَ البَوْصَلة…
تَمشي على هُدُبِ الهاجسِ، كـي لا تتعثَّرَ، فتُزعجَ ” صُرمايَةَ ” الخَرِبَـة ، سَكينَتَها ..
ظُلمَةٌ مُطبِقةٌ، تُقيمُ فيها الصراصِرَ عُرساً من صَفيرٍ يستولِدُ الوحشةَ..
مُثخناً بوطنٍ ، منفيَّاً فيه وإليه..
ستظلُّ تَنـوءُ بِجُثَّـةِ وطنٍ تتدلّـى من عُنُقِكَ.. وستنطوي على نفسِكَ، كَمَـنْ يحتضنُ جُرحَـهُ..
ستُسنِدُ ظهركَ للحائط، فتزوركَ زَخَّـةٌ عابرةٌ من غَفوٍ..
إيّاكَ أَنْ تخلعُ حذاءَكَ أو جواربكَ ، حتى لا تتزحلقَ في المنام بدمكَ… !
وفيما تُنصِتُ لآلامٍ تَناسَيتَها في زحمةِ “العيش”.. وتُطَرّزُ العتمةَ بدمعاتٍ سِرّية،
يَلسعُكَ جسم باردٌ.. لا تَراه… !
أخرَستهُ الظلمة …
مُتَوَجِّساً ، تَمُـدُّ يدكَ نحوه، ولا تزالُ تُرهِفُ السمعَ، للتأكُّدِ منْ أنَّ أَحَـداً، مِمّن يُطاردونكَ،
لم يهتدِ إلى مَخبئك .
بأصابعكَ سَتَراه أَملَسَاً، صامتاً.. ستَحتَضِنُهُ، لتَتعرَّفَ على تفصيلاته..
تُقَرِّبُ أُذنَك منه، فلا تسمع فحيحاً في صدره …
إذن ، هو ليس بمدّخنٍ، تقولُ لنفسِكَ، ولا تَصدِرُ خَرخشة عن رئتين هَدَّهما النيكوتين والربو..!
يا له من محظوظ !!
تتسلَّقُ أناملُكَ إلى أعلى، سترى أنَّ لـه وجهاً أملساً كالقوري ( إبريق الشاي )
.. كمْ هو محظوظٌ !! لأنه لا يحتاجُ لحلاقة ذقنه مرة كلَّ يومينِ، على الأقَل !ْ
……………………
تروحُ تُجري سياحةً في تضاريسِه..
ها هو بدونِ نظّارةٍ طبية، تَترُكُ حفرتينِ عندَ مَنبَتِ الأَنف…
عيناه بِلا رموشٍ، أو أَجفانٍ تشبهانِ عَدَساتِ التصويرِ..
أُذناهُ عاديتان، سوى أنَّ الصِوان خالٍ من منفذٍ …
فوراً يقفزُ إلى ذهنكَ الصَمَمُ، الذي أصابَ بتهوفن …
لا بُـدَّ أنـه كان سعيداً، إذْ تخلَّصَ من سماع التُرَّهات وتَفاهاتِ المحيط ..
أُخدودٌ صغيرٌ حولَ الفم، لنْ يكبر، ولن تُعَمِّقه تجاعيد السنين ..
……………….
تُطَوِّقُـهُ بيمينكَ، فيعتريكَ شعورٌ بالحَسَدِ إزاءه، لأنـه لا يُعاقِرُ ثنائيـِّةَ النسيان
والذكرى.. أو غيرهـا من الثنائيات !! أملساً عندَ الصدرِ ينتهي…!
إذن هو بلا رجلين.. وبالتالي لا يُعاني من ركبتينِ معطوبتين !!
يا لسعادته !!
وقبلَ ذلكَ، لا بطنَ له، فلا يشعر بالجوع أو التخمة، ولا يعرفُ ما هي القُرحـة ،
لا يفقه معنى أَن يأخذَ تسعَ حبّاتٍ في الصباح وخمساً في الليلِ، كلَّ يوم ..
ولا يخاف أنْ يَصيرَ لـه كرشٌ قبيحٌ !
والله ! لولا الحياءُ، لَقُلْتُ ما شَتَّتَ المَلَلا !
…………………..
هو لا يحتاج أَنْ يُشغِلَ نفسَهُ بالتأريخ ولا بـ”نهايته”!، التي إنتهتْ !
ولا حاجةَ به لأَنْ يَنْقَلِبَ إلى لقيطٍ فِكريٍّ، يَنْزَلِـقُ على ظهورِ مَنْ رَفَعوه ،
فإنزوى تِذكارهم في ظلامِ الحاضِرِ ..
ولا حاجَـةَ به للخَجَلِ من الشهداء !!
هو ليسَ بحاجةٍ لمُراجَعةِ “دوّامةِ ” سارتر ** وغيرها ..
يكتفي بوجوده الساكن ، هكذا !!
………………….
يا هذا من أين أتيتَ ؟
عفواً، لماذا عافَكَ أَهلوكَ ؟! أَتُراهم نَسَوْكَ ؟
أَم كانوا ، مثلنا ، نَجَوا بجلودهم ؟! فبقيتَ ساهراً على أطلالهم ها هنا ؟؟
أنتَ الغريبُ ” اللا أَحَـدَ ” هنـا .. لـنْ تستطيعَ الهَرَبَ …
كيفَ تهرَبُ من أشياءَ تسكُنُكَ..!
كُلَّما حاولتَ الهرَبَ منها، ستجدُ نفسَكَ وحيداً معها .. ستنفردُ بكَ .. هِيَ ،
أَمّـا أنـا ، فسأظلُّ أطوَي حقولَ الليلِ ، خارجَ كوكبِ الخوفِ..
أجلسُ، حيثُ أُريد ..
أتأمَّـلُ قوافِلَ زمانـي ..
……………………….
……………………….
فعِمْ مساءً ، ولا تَبْتَئِسْ من حَسَدي لصِفاتِكَ !!
طابَتْ وحشتُكَ ، سميرَ الظُلمَـةِ !!
ـــــــــــــــــــ
* “العهد القديم” ، إصحاح 42
** مسرحيةٌ لسارتر ، تقولُ أنَّ قتلَ “الطاغية” لايعني ، دوماً الخلاصَ من الأوضاع والظروف التي أدّتْ إلى خلقِ الطاغيةِ ..
فالأخيرُ ، هو في نهايةِ المطاف ، نتاجُ شعبٍ مُتَخَلِّفٍ وظروفٍ سياسيةٍ سيئة .. وأَنَّ تصفيته فقط ، لا تعني إلاَّ إستبداله بآخر .
لأنَّ ” أيَّاً كان ” الذي يحلُّ محلّه ، سيجدُ نفسه مضطراً للتصرُّفِ بالأسلوبِ نفسه…
“لا يُغَيِّرُ الله ما بقومٍ ، حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم “!! أي الظروف والمعطيات … إلـخ