في الثامن من شباط هذا العام حلت الذكرى الستين لانقلاب 8 شباط ـ فبراير1963 المشؤوم. حيث تمت الإطاحة بثورة 14 تموز يوليو 1958 ومنجزاتها المهمة مما كان الشعب العراقي يطمح إليه، وفي مقدمتها التحرر الوطني والانعتاق من ربقة الاستعمار وخروج العراق من النظام النقدي الإسترليني البريطاني وانسحابه عام 1959 من حلف بغداد العدواني الذي ضم المملكة المتحدة وتركيا وإيران وباكستان، وإقامة علاقات اقتصادية وسياسية متكافئة مع الدول وتصدير الموارد النفطية دون تدخلات خارجية. أيضا إصدار المراسيم الملحة ومنها “قانون تعيين مناطق الاستثمار لشركات النفط” رقم (80) لسنة 1961، وقانون تشكيل الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية وإطلاق حرية الصحافة. وقامت بخطوة تاريخية ولأول مرة، الاعتراف الصريح بحقوق الأكراد ضمن الدولة العراقية. ووضعت كذلك أسس الدولة المدنية وإرساء العدالة الاجتماعية والمساواة. وقامت بتحقيق الإصلاح الزراعي والاعتراف بحقوق العمال والفلاحين وتوزيع الأراضي ودور السكن على الفقراء وأصحاب الدخل المحدود وسعت من أجل المساواة القانونية للمرأة بسن “قانون الأحوال المدنية” وبذلت الجهود الكبيرة في قطاع التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية.
واجهت الثورة، ومنذ اندلاعها، العديد من الضغوط والمؤامرات من قبل القوى الخارجية والإمبريالية التي تضررت مصالحها السياسية والاقتصادية في العراق. أخطرها كان تخطيط حزب البعث بمشاركة القوى اليمينية الكردية والأحزاب القومية العربية والرجعية للقيام بهذا الانقلاب، بمباركة ودعم القوى الاستعمارية وأجهزتها الاستخباراتية الطامعة بخيرات بلادنا وموقعها الاسراتيجي في المنطقة. تمكن عبد السلام عارف من القيام بانقلاب عسكري في 18 نوفمبر 1963. وفي 17 تموز- يوليو 1968، استعاد حزب البعث السلطة وأصبح أحمد حسن البكر رئيسا للجمهورية ورئيسا لمجلس قيادة الثورة وبقي كذلك حتى استقالته مجبراً في 16 يوليو 1979، وحل محله الدكتاتور صدام حسين لغاية غزو العراق.
اتسم الوضع السياسي في العراق في ظل النظام الدكتاتوري لحزب البعث، منذ انقلاب شباط 1963، بالصراعات السياسية والحروب العبثية والعنف والاضطهاد نتيجة سياسات الحكومات الدكتاتورية المتعاقبة، وحلت به حتى يومنا هذا كوارث ومصائب كبيرة. ففي ربيع عام 1969 اندلع القتال مرة أخرى بين القوات الحكومية والأكراد واستمر القتال حتى أبريل 1975. وفي أيلول سبتمبر عام 1980، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، التي أنتجت العديد من الكوارث التي شهدها العراق وشعبه، وبقي الأمر كذلك حتى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1988. ثم جاء قرار صدام حسين باحتلال الكويت، الذي أدى إلى نتائج كارثية ليس على العراق فحسب، بل على المنطقة ككل. إذ قامت الولايات المتحدة الأمريكية والقوى المتحالفة معها بتدمير البنية التحتية للعراق وفرضت حصاراً استمر 12 سنة، أدى إلى تخريب البنية الاجتماعية والاقتصادية وهجرة الآلاف من الكفاءات وشرائح المجتمع المثقفة والمتعلمة، وأرجع العراق اقتصاديا وصناعيا وحضريا وبنيويا وبيئيا عشرات السنوات إلى الوراء.
وفي عام 2003 خططت الولايات المتحدة لغزو العراق تحت ذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل لغرض السيطرة على منابع النفط وتغيير خريطة الشرق الأوسط لصالحها. وبعد الاحتلال تم تفكيك مؤسسات الدولة العراقية من جيش وشرطة وحرس حدود إلخ. ثم وضع الحاكم الأمريكي بريمر أساس نظام المحاصصة الطائفي، الذي لا زال قائماً حتى الآن، وألغى بهذا مبدأ المواطنة ليحل محله مبدأ الانتماء الطائفي والاثني، وعمل على تدمير الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي والحرفي وفتح أبواب الاستيراد غير المحدود وإلغاء الضرائب الجمركية والقضاء على منجزات الثورة وتعليق العمل بالعديد من القوانين المهمة التي تراعي حقوق المجتمع وكرامته، فيما أقدم من تقلد الحكم من العراقيين على إلغاء ما تبقى منها وتعويضها بقوانين جديدة تضمن مصالح الطبقة الحاكمة وتتعارض مع المصالح العامة للمواطنين. الأمر الذي جعل العراق، ضعيفاً، عرضة للتهديد والابتزاز. كما وتعمد حجب القوى الوطنية دورها لتفعيل الإرادة العراقية والنهوض بمهامها خلال المرحلة القادمة بشكل مواز للتوزيع المجتمعي والجيوديمغرافي لتتمكن من إعادة أعمار البلد وتطويره.
ومن خلال متابعتنا للأوضاع في العراق منذ السقوط وإلى يومنا، نستطيع القول: هناك الكثير مما يشغل بال المواطن العراقي في الداخل، من أهمها الأمور التي يستفيق العراقيون على متابعتها هو: فقدان الأمن والاستقرار، عدم حماية المواطن وشرعنة استباحة دمه. كذلك معرفة السقف الزمني لإنهاء أسباب الفوضى والصراعات السياسية. إلى أين يذهب النفط العراقي وعائداته منذ الغزو؟، ومن المسؤول عن سرقته والاستحواذ على منابعه؟. لماذا لا تصرف اموال العراق لسد العجز المعاشي للمواطنين واعادة اعمار العراق وصيانة البنية التحتية التي تضررت جراء الحروب وأعمال النهب والسلب!. ولم يتوقف تسائل العراقيين عند هذا الحد. انما تجاوز حدود المطالبة الصارمة بايضاحات حول ابسط الامور المتعلقة بحقوق الانسان وحرية الرأي والتعبير ومحاسبة سراق المال العام وممتلكات الدولة وعقاراتها.
اليوم، واذ تمر الذكرى الستين لانقلاب 8 شباط 1963 المشؤوم، ما تزال بلادنا تعاني من وطأة التدخلات الاجنبية من قبل ايران وتركيا والولايات المتحدة، وجعلها ساحة للصراع والحروب المدمرة، كما أن تناحرات الساسة المتنفذين وصراعات كتلهم على مواقع النفوذ والسلطة، جعل الشعب يدفع غاليا ثمن هذه الصراعات العبثية والمدمرة، وهو ما أضاع على عراقنا الكثير من فرص التطور والتقدم، وأبقاه في عداد الدول المتخلفة في ميادين اقتصادية واجتماعية وتقنية وعلمية كثيرة. لذا فهدف التغيير قد أصبح ضرورة ملحة، وعلى القوى المدنية والعلمانية تقع مسؤولية توحد جهودها من أجل إنقاذ العراق وبناء الدولة المدنية الحديثة وإرساء العدالة الاجتماعية والقضاء على المحاصصة الطائفية والعرقية وفساد المليشيات المسلحة التي أشاعت الفوضى وعمليات الخطف والقتل والتهجير القسري وحولت حياة العراقيين الى جحيم حقيقي كما وأوصلت البلاد الى حافة الانهيار.