على أطراف نهر بردى
كفاح الزهاوي
نشر في “صوت الصعاليك”على 3 حلقات
سيتذكر عادل ذلك المساء العذب من شهر حزيران بعد سنوات طويلة وهو يتنقل من عالم إلى آخر، كمتشرد أعمى تحت أشعة الشمس المثقلة، يمضي أيامه دون ان يترك عنوانا على أرصفة الزمن.
بينما كان عادل يبحر في ضياء هذا العالم الجديد كسائح مجهول، بدأت آثار اقدامه تتلاشى من الذاكرة. وفي زحمة الشوارع والسيارات المجنونة انتابه شعور بالضياع في متاهة الريح، مكسواً بغبار الكلل، مترقباً أن تنقشع الغمامة. كل هذا أثار في نفسه علامات الكآبة، واحساس غريب وكأنه يعيش في جوِ خانق من العزلة والنسيان. على الرغم من ارتفاع الموج، ولكن كان بإمكانه الشعور أنه لا يزال يتنفس.
اعتاد عادل أن يقضي يومه متجولا في أرجاء المدينة كجندي مجهول في أرض لا ينتمي اليها، غريب لا يحمل بطاقة تشير الى موطنه، لكن ندوب جروح الوطن طفحت على مرافئ الانتظار.
دُمَرْ گازية، المحطة الرابعة في حياته الصاخبة. منطقة صغيرة تقع على أطراف دمشق، تتكون من منازل غير متناسقة هندسية. وعلى جانب الطريق وتصاعداً باتجاه المرجة مركز المدينة، يزدحم بالمطاعم الفاخرة في الهواء الطلق، يعج بالزبائن ليلا مع جلسات ممتعة، حيث يتم تقديم مشروبات روحية وعشاء طازج ولذيذ. يختلف الى هذه الأماكن في الأغلب رجال أغنياء وأصحاب أموال.
في احدى الليالي والسماء يغطيها الصمت، يتوسطها القمر، تزينها النجوم المتناثرة، أنوارها تشق غمار الليل. ارتاد عادل مع صاحبه صلاح الذي يعيش معه في نفس المنزل أحد المطاعم الراقية الواقعة على مسافة ليست بعيدة عن الدار، رغبة منهم ان يعيشوا بعض اللحظات الباهرة، الممتعة في أجواء مختلفة، على الرغم من أنهم كانوا يعانون من وضع اقتصادي مترد. في خضم هذه اللحظات، شعر وكأنه تحرر من أعباء الحياة اليومية المعقدة. أحس بنوع من الحماسة تغزو قلبه وتسري في عروقه، وترسل إلى روحه احساساً بالأمان.
بعد الترحيب بهم، طلب كل منهم زجاجة من البيرة. وظلوا لساعتين يتبادلون أطراف الحديث حول القضايا السياسية والأدبية وصوت أم كلثوم مع اغنية لسه فاكر يصدح في أرجاء المطعم، وهم يحتسون على مهل، وزجاجة البيرة لازالت مملوءة إلى أقل من نصفها.
كانت علامات الاستياء واضحة على وجوه النُدُل من خلال الابتسامات المصطنعة وهم يراقبون المشهد عن بعد وكأن لا أحد في المطعم غيرهم. كانوا يحملقون فيهم من بعيد والزجاجة بالكاد تتناقص. وبين حين وآخر، يتم إحراجهم بالاستفسار فيما لو كانوا بحاجة الى المزيد. وكانت الإجابة: لا.. شكرا
عادل شاب يبلغ من العمر تسعة وعشرين سنة، متوسط القامة، شعره الاسود الكثيف مفروق في منتصفه بشكل مستقيم، نحيل الجسم، رشيق، طبعه عنيد، اجتماعي، بشوش، ابيض البشرة، وتحت أنفه البارز شارب رفيع. وبالإضافة الى ذلك كان بالغ الأناقة والثقة بالنفس، يتصرف بجلالة جديرة، ملامح وجهه توحي للآخرين أصغر من عمره بكثير.. تميز بعدم الانجرار الى النساء والاندفاع الى حبائلهن، وكان يتعامل معهن باحترام وحذر.
كالعادة استيقظ عادل صباحا على صخب الساكنين معه في نفس الدار، راح يتقلب ويتلوى في فراشه، ويدس رأسه تحت البطانية القديمة، ربما تصد عنه الضوضاء والجلجلة في المطبخ، وصوت عدنان الجهوري، وكأنه يخاطب حشداً من الناس. كان يحلم ولكنه لا يتذكر منه شيئا. حاول ان يواصل التفكير في الحلم ولكن خانته الذاكرة، حتى الأحلام صارت علامة باهظة الثمن، تتلاشى حالما تستيقظ، سراباً في صمت القبور، وكأن أحداثه أحاطها طوق من الجدار السميك. ومن خارج الدار تخترق الجدران صدّاح المارة في الدربونة الضيقة، حيث يقع محل ابراهيم في نهاية الزقاق، وهو فلسطيني سوري. ابنته كانت مراهقة جميلة بعينيها العسليتين الواسعتين، وبنيتها الفارعة، وبشرتها الناصعة البياض، رشيقة. يراها أحيانا عندما تذهب إلى المدرسة او عندما تعود منها. والدكان يقع بجوار منزله.
دبت الحياة في داخله نوعا ما. في البداية كان يشعر بصعوبة ان ينام برخاء محاولاً استدراج النوم ليأتي إليه، لأنه لم يعتد على هذه الحياة العصرية لفترة طويلة ولم يمس امرأة بعد ان أمضى حياته بين الوديان والجبال الشامخة والمنعزلة عن كل تماس مع التحضر.
ما ان غطى الليل، ساد احساس بحيوية الحركة في الشوارع والساحات العامة. ذابت ثلوج الحزن والقلق واستوطن الحلم والامل. زال الدم عن الطريق، ولكن بقع حمراء، لا تزال آثارها تطفو على سطح الذاكرة.
نظر الى السماء فوجدها زرقاء صافية، وأسراب من الطيور تلقي بأعلى صوتها اغنية تتناثر الحانها الفضية في الفضاء على هدير نهر بردى، وكأنهما يوحيان بخبر مفاجئ. وبينما كان عادل عائداً عبر الشارع المقابل لنهر بردى الشهير في دمشق من المركز الثقافي السوفيتي الواقع في وسط المدينة في طريقه إلى البيت والكائن في منطقة دُمَرْ گازية، مستغرقا تماما في تأملاته الخيالية، والرياح ساكنة في هدوء تام. وإذا بصوت نسائي ناعم يخترق الصمت. كانت هناك اشراقة عذبة تداعب وجهها وتضفي على نظرتها شيئا من الحزن ولكن ثغرها يضيء تفاؤلا:
– مرحبا
– مرحبا.
– هل يمكن أن تخبرني كيف يمكنني الذهاب إلى مساكن برزة؟
– عليك أن تذهبي الى الجانب الأخر وتستقلي الحافلة… وهو يشير بيده نحو المحطة.
وبعد ان أوضح لها عن الطريق في بضع كلمات بلهجته.
وفجأة قالت مستفسرة:
– انت من دير الزور.
– لا، انا عراقي.
– أهلا وسهلا. لان اهل دير الزور يتكلمون بنفس اللهجة.
– نعم.
– لا يبدو أنك كنت هنا لفترة طويلة.
– نعم جئت إلى سوريا منذ ستة أشهر.
قالت:
– صعب وبدون عائلة.
– نعم.
– ان لم يضايقك الأمر، ألا ترشدني الى المكان. انا من مدينة درعة.
– أهلا وسهلا.. كلًا لا أمانع.
بعد صمت قصير وهم يمشون جنبا الى جنب. هتفت بصوت خافت ومدت يدها نحوه والابتسامة تملأ وجنتيها وقالت:
– انا اسمي رواء.
وفعل هو نفس الشيء وقال:
– عادل.
– تشرفنا.
– اهلا وسهلا.
حلقة 2 في عدد 43
رواء شابة في العشرينات من عمرها قصيرة القامة، ممتلئة، شعرها اسود كالفحم، لها بشرة صافية، سمراء كخبز التنور، عنقها بارز، جميل جدا، وتحت الحاجبين تبرز عينان سوداوان، واسعتان وهادئتان. ذقنها مستدير. اما شفتها العلوية منتفخة قليلا بسبب طقم اسنانها الامامية، لكن اسنانها كانت جديدة لامعة، انفها عريض ولكن ليس كبير، اشبه الى حد ما بالفتيات من جنوب شرق آسيا، أما جبهتها لا عريضة ولا ضيقة. جسمها رشيق يزينه الثديين البارزين.
قبل ان يبحر الغسق في عتمة الليل ويتأرجح في نسيم المساء، كان عادل منشغلاً جدا بفكرة العودة إلى المنزل، حيث ركز تفكيره على الحافلة الاخيرة إلى دُمَرْ گازية والتي تغادر في الساعة الحادية عشر مساءً.
كان عادل حريصاً على عدم تفويت الحافلة. وإلا فسيتعين عليه العودة الى المنزل بسيارة أجرة. وهذا يعني انه نتيجة لذلك عليه دفع اموال اضافية لا يستطيع تحمل تكاليفها.
رواء كما لو كانت في مقابلة تلفزيونية وعليها أن تخبره بكل ما في جعبتها عن دقائق حياتها. راحت تتحدث عن نفسها بالتفصيل. انها حامل في الشهر الثالث، وزوجها كان طياراً، وتوفي بعد تحطم طائرته اثناء التدريب، وأنها تبحث عن رجل كبير في المخابرات السورية وهو يعيش في مساكن برزة، وأنها عانت الكثير من المتاعب بعد الحادثة.
كانت تقوم بسرد حكايتها بدقة ككاتبة موهوبة يمكنها اختيار كلماتها. وأمور أخرى كثيرة تتعلق بحياتها الخاصة دون انقطاع. وتموج فكره لإيقاعات حنجرتها وهي تبث حكايتها اليومية بنهم. وفي نفس الوقت تابعا طريقهما باتجاه موقع الحافلات، بينما عادل لم يكن في جعبته ما يثير رغبتها، ربما لم يتح له الفرصة ليقول شيئا عن نفسه وإن أراد فقد يبدو روايته سخيفة. هل يقول لها عن سنوات التحدي في مواجهة الموت أم عن حياته الحالية وهو يجول في الشوارع دون هدف، ويعيش في منزل يتقاسمه مع اربعة اخرين. بل كان يفضل نسيان الماضي والخوض في الحاضر والمستقبل. تراجع قليلا وضحك في نفسه. فهو لا يمتلك حاضره، فكيف له ان يبحر نحو المستقبل الذي لا يرى في الافق اي امتداد له. ومع ذلك كان يتمتع بصفة مؤثرة جدا، حيث مظهره الخارجي واسلوبه في الكلام يخلقان بخفة جوا من الثقة. يجعل النساء ان يشعروا معه بالأمان.
وبينما كانا الاثنان يشقان الطريق، كانت رواء تتحدث معه وكأنما يعرفان بعضهما البعض منذ وقت طويل. وأثناء محاولة عبور الشارع توقفا لبرهة ومال عادل جسده قليلا واشرأب عنقه الى الامام، وبعدها مباشرة مدّ يده الى الخلف باتجاهها كما لو انه يطلب منها التريث وهو يلقي بنظره يمنةً ويسرةً ليتأكد من خلو الشارع من السيارات. فوجئ بلمس راحة يدها بيده الممدودة خلفه حتى تشابكتا، وكأنما طفلة تخشى ان تضيع في زحمة الطريق. شعر للحظة ان وهج جمرتها قادر على تحريك الخيوط الصدئة التي ظلت راكدة لسنوات من الإهمال. تسرب خيط من الدفء من راحة كفها، تسرب منه وميض مفعم بولادة علاقة انسانية ورسائل محمومة. وظل عادل في إمساك يدها على مدى مسافة الشارع إلى الاتجاه الآخر. بعدها حرر يده بهدوء وتصرف بشكل طبيعي وكأن ما حدث مجرد لحظة عابرة. لقد كان بعيداً عن أساليب الحيل. كانت تصرفاته تنم عن البراءة المطلقة وحسن النية، ويؤثر على عقولهن بملاطفاته الهادئة.
وبعد ان وصلا إلى المحطة. كان هناك عدد قليل من الناس في انتظار وصول الحافلة. مكث معها وهما يتبادلان الأحاديث، وغالباً ما كان لرواء القسط الأكبر من المحادثة. وعندما ظهرت على مدى النظر الحافلة الموجهة الى مساكن برزة، طلبت رواء منه استكمال جميله لها ومتابعة الطريق معها للبحث سوية عن الشخص المعني في المخابرات ان لم يزعجه الأمر.
في الواقع، أبدى بعض التحفظات، خاصة عندما أخبرته عن غايتها من الزيارة. كانت الأجهزة الأمنية وصيتها تثير في نفسه ذكريات قاسية. ومع ذلك، كان متحمساً الى حد ما للشروع في هذه المغامرة، والى جانب ذلك، كان لديه فائض من الوقت، ولم يجرؤ على الممانعة. لم يعرف دوافعها، ربما لان حنان الانثى، يبعث روائح تطمئن القلب وتزداد عبقها كلما تسربت عبر مسام الجسد وتخدر العقل، أو ربما تخيلها لبوة صغيرة مثيرة للشفقة.
كانت في الساحة الصغيرة مجموعة قليلة من الناس، سرعان ما امتلأت بحشود كبيرة تقاطروا باتجاه موقف الحافلة من كل المنافذ المؤدية إليها مع صرخاتهم وقهقهاتهم تصدح في جميع أرجاء المحطة. وصلت الحافلة وتزاحم الناس على الصعود. اصطفا في الطابور، وتحركا بخطوات وئيدة انسجمت مع حركة الآخرين.
وقف عادل خلف رواء واضعا يده اليمنى على كتفها اليمنى، ويخطو مع خطواتها، كما لو انها دليل الطريق. أما رواء لم تبدِ اية ممانعة لتلك الحركة. صعدا إلى فناء الحافلة الذي كان مكتظا بالركاب من مختلف الاجناس والاعمار الى مساكن برزة. اتخذا مكانا بمحاذاة النافذة بالقرب من المقعد الأخير ووقفا هناك، استدار عادل ظهره الى النافذة وامسك بيده اليسرى العمود الممتد في سقف الحافلة، وبينما رواء وقفت على مسافة شبر أمام عادل وجهًا لوجه، مما أذاب في نفسه شعور غريب، حركت أوراق هواجسه، فسمع منها حفيفا. بينما رواء تدفقت انفاسها الهادئة بوتيرة تناغمت مع كل هزة تصنعها الحافلة.
أيقظت نظراتها عواطفه التي ظلت راقدة لسنوات في عالم النسيان. ومع كل خاطرة موسيقية، انزلقت ايقاعاتها عبر الخطوط الوجدانية، حتى ملأت فضاء الحافلة بعبق حضورهما. رواء شعرت في لحظة انها في كنف أسره، وهذا الإحساس بات ينمو كلما طالت رفقتهما. عادل دفن مشاعره في اعماقه التي ظلت ساكنة دون ان تطفح على السطح. اجتاحته احيانا فكرة تحطيم هذا الجدار المصطنع لكبريائه المفرطة التي كانت تعيق خطواته من أجل الحصول على غمار الحبور.
راح يتأمل قسمات وجهها وحركة شفتيها التي كانت تحوم في الهواء في هذه الرحلة القصيرة الطويلة، وكأنه كان يدون ملامحها في مخيلته، وبينما كانت رواء في حماس شديد للبحث عن اية حكاية لتبقي خيوط التواصل مشدودة. وفي هذا الوقت غاص عادل في الأعماق وكان ذهنه يبحر هناك بعيداً تحت المياه، وثقل الزمن الماضي يتبدد في كثافة الضباب. كلما رفعت عينيها والتقت عينيه، أشاح عنها نظره ولكن تظاهر بالاستماع إليها بجدية. كان ما شد انتباهه هو تصاعد تنهداتها كالبخار الحار، وارتفاع صدرها أكثر مما هو عليه. وحيال مرأى هذا المشهد، شعر ان جلده يقشعر، كما لو كان في العراء عاريا في جوٍ جليدي. أستسلم للصدفة المليئة بالمشاعر الملهمة، ولحظات سرمدية.
حلقة 3 في العدد 44
ربما كانت هذه اللحظات قد بثت نشوة السكر في روح الفتاة، على عكس عادل الذي لم يكن لديه هذا الشعور المفاجئ، لأن رأسه لم يكن غارقاً بالأفكار الخيالية التي لا تمت للواقع بصلة. وقد تعززت ذلك من خلال تجربته الطويلة في الحياة وفي علاقاته مع الناس، وما تمخض عنها من موقف ثابت في نظرته للعلاقات الرومانسية. على الرغم من حاجة عادل الى تلك العلاقة الانسانية، الا انه لم ير فيها المرأة المثالية أو فتاة أحلامه. اعتبرها مجرد نزوة عابرة ونسمات ناثرة تبددت مع انتهاء دورتها. ربما كان يفكر في إقامة علاقة معها، خاصة انها كانت مستعدة لذلك، لولا انها كانت متزوجة طيار مضطجع تحت التراب، وتبحث عن رجل مخابرات، علاوة على ذلك انها حامل في الشهر الثالث.
وأثناء سير الحافلة واهتزازها، كانت تمسك بذراع عادل بين فينة وأخرى كي لا تتأرجح مع تأرجح الحافلة. وفي أحد المنعطفات الحادة كادت رواء على وشك ان تقع، بادر عادل برغبة متحفزة وذلك بوضع يده على كتفها العاري البعيد ناصع كضوء القمر، وطوقها نحوه، بذريعة مسكها كي لا تقع. هذا الاحتكاك سرب وميض حميمي في أوصالها، كأنها أُنتزعتْ من ثيابها و كشف عن جسدها العاري. اسندت رواء راسها الى صدره حتى ترامت دقات قلبه اليها. لم يدم ذلك طويلا حتى حرر عادل قبضته، ارجعت رواء جسدها الى الخلف قليلا مع ثبات قدميها دون حراك. رفعت راسها والتقت عيناهما في نهر من التساؤلات، ووقعت نظراته على شفتيها النديتين، وفي هذه اللحظة انزلقت كفها اليمنى في راحته، وفجأة شدّت على يديه ولثمتهما دون ان تقول كلمة واحدة حتى شعر عادل بقبضتها. هذه الحركة أغرقته في طوفان من الذهول، وكأنها أخرجته من الأزمنة الأخرى وجعلته متيقظا مصحوبا بحيوية المشهد. راح يؤنب نفسه على ممارسة الزهو بدلا من الاندماج في عالم الحب. ولكن ظل ذلك الزهو المزيف يعشعش في اعماقه.
توقفت الحافلة عند احدى المحطات في مساكن برزة، المنطقة التي كانت في ذات يوم محطته الثالثة. وقف عادل ورواء بالقرب من الباب يستعدان للنزول. سمح لها أولا بالترجل من الحافلة وذهب وراءها. جالا سوية في الأزقة بحثا عن منزل ضابط في المخابرات الذي لم تكن رواء تعرف شيئا عنه، بل لم تلتق به مطلقاً، حتى لا تتخيل كيف يبدو مظهره، بينما كان لعادل رأي آخر عنه، كأن يكون قصير الطول، بَدين ودميم، له شارب ثخين وعريض، وكرش كبير، وسلوك متعجرف، صلف الكلام ويعشق النساء.
سألت رواء بعض المارة عن خليل عبد السلام، ينادونه: أبو راوية. كانت الإجابات واحدة: لا نعرف. ودام البحث أكثر من ساعة دون جدوى.
كانت المصابيح المضاءة من أعمدة المتراصة قد عكست ظلهما على أرض الشارع. وقد أقلقته الاحساسات الثقيلة، والمخاوف المجنونة، وفتاة يائسة كغريق يتعلق بقشة. كان يتمعن في ساعته القديمة ويرى الوقت يمضي وهي لم تدنُ من غايتها حتى الآن.
نظر اليها وسيل من العرق المتصبب قد تدفق من عنقه وانساب نحو عموده الفقري، وإذا بريح خفيفة تسربت عبر مسامات قميصه فأحدثت في جسده رجفة خفيفة.
أحيانا يشعر الانسان ان شيئا ما ينقصه ولكن يجهل اسبابه، نظراتها اليه وقربها الجسدي منه، ربما لم يكن لهما بُعد عاطفي، وإنما شكل من أشكال ملء الفراغ الكبير الذي تركه زوجها الراحل في حياتها، لاسيما لم يمض على وفاته سوى ثلاثة أشهر وفقا لبيانها. فهي كانت بحاجة الى مَنْ يطرح عن كاهلها الأحزان المتراكمة. فهي اشارت ايضا من خلال قصتها الى سوء معاملة أهل زوجها لها. وعزا أسباب لمسها له هو احساسها بالأمان، احساسها بالحنان وكأنما كانت تريد ان تعبر عن مشاعرها باللمس. توالت أفكاره جملة من التكهنات.
وفجأة وكأن حلقها قد جف، وظهرت بحة واضحة في صوتها، وارتسمت سمة الخجل على وجهها. تزاحمت الكلمات على لسانها في بادئ الأمر. تنفست الصعداء، عادت الى نفسها بعض الثقة وتتابعت كلماتها بانتظام:
– الوقت متأخر وعليّ البحث يوم غد مجددا.
وسكتت للحظة وكأنها تريد ان تقول شيئا أو تفصح عن أمر، تشعر بثقله.
وفي غمرة سكوتها لهنيهة، سألها عادل إذا هي كانت بحاجة الى مزيد من المساعدة.
نكست رأسها قليلا وعضت شفتها السفلى من الداخل وفوجئ بسؤال لم يتوقعه:
– انت كنت رائعا معي طوال الوقت. كان لدي شعور جميل أنك انسان طيب وتحب الخير، وهذا الموقف خير مثال على ذلك. لدي سؤال قد يكون صعب علي كامرأة طرحه. هل يمكنني قضاء الليلة معك في منزلك؟ وقالت الجملة الأخيرة بصوت خفيض.
ثم أردفت قائلة لتفادي سوء الفهم:
– عفوا، لحين يوم غد. لا اعرف احدا في دمشق سوى أبا راوية.
أجاب عادل بلهجة عبرت عن اسفه:
– شكرا على اطرائك وانت ايضا كنتِ رائعة جدا. ولكن مع الأسف انا اعيش مع اربعة اخرين في الدار.
قالت وعلامات الخيبة بادٍ بوضوح على وجهها:
– لا. كنت اتصور تعيش لوحدك. شكرا… على كل حال… احاول ان أجد حلا.
وعانقها عادل بحرارة، وأحس براحتيها تطوق ظهره بقوة. وقال لها:
– اتمنى لك حظا سعيدا. الى اللقاء.
أخبرته عيناها انها تريد رؤيته مرة اخرى، بينما عادل كان في عالم آخر، وعاد ادراجه كالشبح يسلك نفس الطريق، كما فعل قبل عدة ساعات، ولكن في الاتجاه المعاكس وهذه المرة وحده. انتهت رحلة الصداقة في منتصف الطريق وهكذا افترقا.