التبئير
في رواية الرجع البعيد للروائي العراقي فؤاد التكرلي
وليد عويد حسين
ينطلق مفهوم التبئير من قول العرب (البؤرة) أي (التخبئة والادخار) من هنا انطلق الاصطلاحيون في تعريفه على أنه تقييد الخبر السردي وانتقاؤه بالقياس إلى دعوة التقاليد له بالعلم الكلي. وهو مصطلح عبثي تخيلي خالص فالمؤلف ليس لديه ما يعلمه دائمًا مادام يخلق كل شيء ويجدر أن يستبدل الخبر الكامل الذي يزود به القارئ فيصبح هو العليم وأداة هذا العليم الانتقاء المحتمل لبؤرة موقعه، أي نوع من القناة الناقلة للخبر التي لا تسمح بأن يمر الخبر ليسمح به الموقع. يتبنى جيرار جنيت مصطلح التبئير من تعبير (بروكس و وارين): (بؤرة السرد)(1) وهو يميز بين ثلاثة أنواع من التبئير.
الأول: التبئير الصفر أو (اللاتبئير).
حيث الراوي العليم يقدم الأحداث ويتنبط دواخل الشخصيات. ويمثل هذا النوع المقاطع التي يظهر السارد فيها عالمًا بكل شيء.
ورد التبئير بأنواعه الثلاثة في روايتنا التي انتقيناها كأنموذج للتطبيق، رواية (الرجع البعيد) للروائي العراقي فؤاد التكرلي، إذ وظف التكرلي هذا النوع من التبئير وهو (التبئير المعدوم) أو الصفر في تضاعيف روايته حينما يقوم الكاتب الراوي السارد بتقديم وصف وأخبار خاصة بالمكان الذي ستجري فيه أحداث الرواية أو بعض أحداثها إلى جانب الأمكنة الأخرى المرشحة سواء أكانت أمكنة داخلية محلية أم أمكنة خارجية. وقد مثل السارد هذه الأخبار بوصف مدينة بغداد أو بعض شوارعها وأزقتها وسكانها وليلها ونهارها وغالبًا ما يأتي هذا التبئير في بداية الرواية في الشرح التفصيلي المعهد لأحداثها وهنا يكون الراوي السارد عالمًا أكثر من الشخصيات لأنه يُعد الشخصية البطلة الأولى الناقلة لأحداث الرواية، والراوي في نفس الوقت هو يصف ويحلل يقول الكاتب في رواية الرجع البعيد (( سارتا – أم مدحت وحفيدتها سناء – بخطوات وئيدة عابرتين شارع الكيلاني واشعة الشمس الحمراء والظلال الطويلة وأخذتا بارتقاء الطريق الترابي… وكان الشارع قبيل الغروب صاخبًا ورائهما، إلا أن ريحًا خفيفة حملت ضجته بعيدًا، وكانتا تريان مواضع أقدامهما رغم أن المصابيح الكهربائية لم تكن قد اضيئت بعد، غير أن وجوه المارين لم تكن متميزة بوضوح… كانت حزمة الفواكه والبيض والمخضرات ثقيلة وكانت تشعر بأنفاسها تضيق مع كل خطوة ترقى بها الطريق المرتفع باستمرار… عندئذ لمحته يخرج من انحناءة الزقاق القريب، طويلًا بارز الصدر متعثر الخطوات . لم تعتقد أن بوسعها أن تتعرف على هوية الأشخاص في هذه الغابة من الظلال… أية مخبولة عادت به من الكويت …)) (2) فالكاتب كما يتضح جليًا للقارئ قام في مفتتح الرواية بتقديم شرح تمهيدي تفصيلي ليصف أمكان مدينة بغداد وشوارعها بطريقة وصفية ( شارع الكيلاني – الزقاق القريب – غابة من الظلال – الكويت – مكان خارجي) فضلًا عن وصف طبيعة المدينة ( الشمس الحمراء – الغروب – الظلال الطويلة ..) وتلك هي الرؤية الخلفية أو (الرؤية من الخلف) .
هذا النوع من التبئير يبدو السارد عالمًا أكثر من غيره فهو يعلم كل تحركات الشخصيات وما يجول بخواطرها …. وهذا النوع من التبئير يشمل معظم الكتابات الكلاسيكية.
الثاني: التبئير الداخلي ( الرؤية من الداخل).
يأتي هذا النوع للتعبير عن وجهة نظر الشخصية الثابتة أو المتحركة- بعد أن يفسح لها السارد المجال- وهنا تكون معرفة الراوي بالمستوى نفسه الذي تعرفه الشخصية، فتكون العلاقة متساوية فلا يحاول التفسير أو التوضيح أو تقديم محددة أخرى خارج نطاق ما تقوله الشخصية ويتجسد التبئير الداخلي في الخطاب غير المباشر، ويبلغ حدوده القصوى في فن المنولوج الداخلي حيث تتحول الشخصية إلى (مجرد بؤرة). أما حدود الدنيا فتلك التي رسمها رولان بارت في أثناء تعريفه صيغة الخطاب الشخصي وهي أنه بإمكاننا إعادة كتابة مقطع التبئير الداخلي بصيغة المتكلم دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير في النص بتجاوز تبديل الضمائر.(3)
وقد وظف التكرلي هذا اللون السردي في روايته الرجع البعيد مركزًا حول شخصية واحدة وبالطريقة التي تراها هذه الشخصية بغية التعبير عن آرائها عن طريق آلية سرد الأحداث، يقول في هذا الشاهد (( … فد مرة طلعت من البيت وما رجعت جنت اتنقل ذاك اليوم بمصرف الرافدين وجنت متزوج صارلي ثلث سنوات أو أربعة. ما أتذكر زين حالتنا المالية لا بأس بيها. وجنت متصل إبعض الجماعات السياسية التقدمية والأدبية … أي طلعت بس وين راح أروح ما أدري شراح أسوي ما أدري. شي واحد جان بذهني ما أريد أعيش نفس حياتي …))(4) .
وقال في شاهد آخر في موضع آخر: ((… كمت أتمشى بالكبة. زين أتذكرت هذيج الساعات عبالك دا أركض ورا فد خيال فد شي ما ينكمش ولا ينشاف. وانتهيت بالتالي لنتيجة واحدة .. اتي هالانسان بها الوضع، بهالحالة العقلية ما أكدر أوصل إلى نتيجة لأن ما دا أكدر أثبت شي ولا دا أعرف منين أبدي…))(5) وقال كذلك : ((… بس ساعات التفكير هذي خلتني أحس فد صفاء بنفسي ما مجربه من كبل. طلعت من الأوتيل وجان الوكت دنيا ليل ورحت إلى أقرب بار شربت عبالك دا اشرب روح الحياة. شعرت بنشوة هائلة وبقيت أشرب إلى نص الليل ما اكتفيت ، اشتريت بطل ويسكي ويايه للغرفة وبقيت أشرب إلى أن طلع الفجر)) (6)
ففي كل تلك الشواهد التي ذكرتها نلحظ بصورة واضحة أن ملامح عنصر التبئير الداخلي تأخذنا إلى شخصية واحدة تهيمن على مشهدية النص وهي شخصية الأنا الساردة … كما ونلحظ أن السارد ((ترك للشخصية حرية التعبير عن وجهة نظرها، ويحدث هذا خصوصًا عندما يقدم الراوي الشخصية وهي تتحدث عن نفسها))(7). فالشخصية هي من تصرح….
الثالث: التبئير الخارجي (الرؤية من الخلف).
وهو النوع الذي تكون معرفة الراوي فيه من هذه الزاوية أقل من معرفة الشخصيات فهو يعرف عنها ما يراه ويسمعه من كلامها وحركتها دون أن يتمكن من النفاذ إلى دواخلها لينقل ما تشعر به معرفته السطحية المحدودة وهو كذلك لا يتشارك في الأحداث لذا فإن استخدام مثل هذا النوع من التبئير يعد قليلًا نسبيًا بالقياس إلى استخدام الراوي لنوعين الآخرين. وفي هذا النوع تكون بؤرته خارجة عن الشخصية المروي عنها فلا يعرف الراوي إلا ما يمكن للمراقب أن يدركه من الأفعال والأقوال وهو ما يجعل القارئ في حالة معرفة أقل من الشخصية التي يروي عنها ويقرأ عنها(8)
ويتجسد هذا اللون السردي في مواضع كثيرة من رواية الرجع البعيد من تلك النماذج: (( … ايقظوه بعيد العصر ولم تكن ماري معه. ذهبت دون أن تترك له شيئًا منى ولا رائحتها.. جلس إلى المائدة وهو يحس أنه فقد جزءًا من نفسه. لا يزال يذكر لحظات جلوسه تلك مثل أن يأتي بقية اللاعبين. كانت السماء تبين له من خلال شباك زرقاء صافية مليئة بالفرح والنور. كانت عالمًا نقيًا بعيدًا أرعبه فجأة. وعاد إلى للعب وفارقته كل لحظة. قاوم بعنف وتثبت بآخر ورقة نقدية لديه….))(9)
وقال أيضًا في موضع آخر: ((… ثم راه يتناول الكأس بسرعة ويفرغها في جوفه شعر بقشعريرة تمر من عنقه إلى صدره إلى ظهره بقي ساكتًا متوجسًا لا مجال أمامه لكي ينفي أي شيء قاله. لا شيء على الإطلاق لم يكن مستعدًا لمعركة مع مدحت عن الحقيقة والحياة …)) (10)
فالأمر الملاحظ من قراءة هذه الشواهد أن هذا التبئير يقدم عرضًا للأحداث بشكل موضوعي ويرسم الشخصيات دون آراء مسبقة تؤثر في نظرة القارئ إليها فهو يقدم مظهرها …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
معجم المصطلحات الشعرية والأدبية الحديثة، سعيد حجازي.
رواية الرجع البعيد، فؤاد التكرلي .
الرؤية السردية في روايات نجم والي، د. يوسف محمد اسكندر.
عودة إلى خطاب الحكاية . جيرار جنيت .
تحليل النص السردي تقنيات ومفاهيم، محمد بو عزة .