المسؤولية الاخلاقية لا المناصب.. من تصلح الشعب والوطن
عصام الياسري
في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية وتدخل الدول ومنها التي في جواره، بات العراق مهدداً بالتجزئة والتشرذم والاحتراب. فألهبت في كل مكان هذه الاوضاع الماسوية مشاعر العراقيين الخيرين ممن يعنيهم وطنهم. وخرج المواطنون إلى الشوارع احتجاجاً على سياسة الحكومات المتعاقبة المغرقة في الطائفية والفساد. وسقط خلال المواجهات الدامية مع مليشيات الأحزاب والأجهزة القمعية للسلطات العراقية المختلفة، الآلاف من الأبرياء بين قتيل وجريح. من أجل حريّة العراقيين وكرامتهم واستقلالهم، وأصبحت دماؤهم ديناً في أعناق الأحياء، ولن تذهب هدراً!
وفيما تنحدر الامور بعد سرقة الخاسرين في الانتخابات أصوات الفائزين نحو الأسوأ، وترتفع أصوات الشرفاء في الداخل والخارج للتضامن مع المتظاهرين، يظهر علينا وبشكل غير مسبوق بعض “العراقيين” من الوسط الإعلامي والسياسي والثقافي للدفاع عبر وسائل إعلامية ومجتمعية مختلفة، عن مواقف الأحزاب المهيمنة على الدولة وسلطاتها الرئيسية الثلاث. بهدف مصادرة حق الأغلبية من العراقيين في الحُكم على المستوى المنحدر للسلوك السياسي الذي إنتهجته الحكومات المتعاقبة، التي تسيطر عليها أحزاب “الإسلام السياسي”، الشيعية والسنية والكردية. التي لها “إشكالية” إنما مشتركة، تتعلق بالصراع على مفهوم “هوية الدولة ـ والدولة الوطنية والمجتمع” التي لا تضع لها هذه الأحزاب أية إعتبارات قيمية، بالقدر “الآيديولوجي” المتفق عليه: من أن الصراع بين الإسلام السياسي والدولة الوطنية لا يقتصر على منازعة الدولة لشرعيتها السياسية، بل يتجاوز التشكيك بهويتها. بمعنى أنها لا تؤمن بمفهوم “الوطن” جيوديموغراقياً، إنما بعقيدة “الدولة الإسلامية” التي لا تفصلها حدود وتخضع للخلافة الرشيدة أو ولاية الفقيه.
لا نظن أن هذه المواقف، محض وجهات نظر، لا صلة لها بأي توجيه من داخل بعض المنظومات العقائدية. ولا نظنها بدافع التعاطف والرمزية، بعيداً عن حدود الفوائد المادية والمعنوية. ليس الاعتراض على الإختلاف في وجهات النظر، إنما الاعتراض على جزئية السكوت على الظلم والطغيان وإستبداد القوى الظلامية وتجاوزها على المبادئ العامة لحقوق المجتمع والدولة ومؤسساتها بشكل عام. والغريب إن أغلب الذين يتصدرون الدفاع عن أحزاب السلطة وشخوصها. من أولئك “المتأدلجين” الذين انخرطوا مع الحشر، وكان بعضهم عراباً للاحتلال، وما زال “يلغف” من كل ثريد خارج المألوف الذي يتميّز به عادة الإعلامي والسياسي الحقيقي تجاه المشروع الوطني وأهمية صناعة إنسان المستقبل وتطور المجتمع وبناء الدولة المدنية الحديثة والدفاع عنها. بل جعل مهنته سبيلاً، وموقعه مسلكاً في غير محلهما للوصول إلى هدف أناني بشكل مدروس، لكنه انتهازي بالتأكيد. إلى غير ذلك، فإن المنهج السائد لدى بعض العاملين في مجال الفكر والإعلام، فيما يتعلق الأمر بالموقف من “مشروع الدولة، ولا دولة” يشكل في أغلب الأحيان، موقفاً منحازاً ومخالفاً للأعراف المهنية التي تتطلب الموضوعية والأمانة الحرفية البينية التي ينبغي أن تتوافق مع مفهوم الوطنية ولا يشكل نمطاً يعج بالمتناقضات في مختلف الاتجاهات.
في إعتقادنا، أن رسالة الإعلامي بالقدر الذي “يفكر” كمنتج للمعلومة، هي الارتقاء بمستوى المسؤولية وصون شرف “المهنة”. لكن عندما ينكفئ عن المنهج الجمعي العام ويتجه نحو غدر الحقيقة، كما يتجلى ذلك في أسلوب الكثيرين من الإعلاميين والمثقفين في زمن التسلط الطائفي الذي أوقع المجتمع في صراعات طائفية ـ عرقية وسياسية، كلفت العديد من الضحايا والدماء البريئة، والاخطر تعريض العراق الى منزلقات خطيرة تكلف مستقبل اجياله. عندئذ تسقط كل القيم والإعتبارات على المستوى السياسي والمجتمعي وحتى الأخلاقي.
إن الادعاء بلوغ المعرفة في مجال “الثقافة والإعلام”، وبلوغ، لا تعني بالضرورة درجة “الكمال” دون دليل قطعي، يفصل بين بلاغة الحقيقة والادعاء، لإنارة الطريق أمام المجتمع… (الاقتراب من المعرفة بدافع الاهتمام للوصول إلى الحقيقة لخدمة المجتمع كما يقول الفيلسوف “فيلهلم دِلتي” مسألة ضرورية، لكن “الإبداع” كلٍّ في مجاله للسمو بمستوى المسؤولية، أمر يحتاج إلى مهارة أخلاقية واختبارية واسعة الشأن، تصنع، فيلسوفاً أو أستاذاً متميزاً أو عالما شهيراً). لكن إن كان “الرأي” جَدَّفَا في غير موضعه بدافع وصولي انتهازي، فإن ذلك قطعاً ليس اَلْجَدِير الذي يستحق الاحترام. فليس المهم، أين وكيف تقول المهم، ماذا، ولمن، ومتى تقول؟ لتكون بقدر المسؤولية والاحترام… اليوم نحن أمام ديماغوجية قديمة جديدة تعمل على إزاحة المسؤولية عن من ارتكبوا جرائم سياسية واقتصادية ومجتمعية وتربوية ومعيشية، وأوصلوا بلدنا ومجتمعاتنا في أزمنة متعددة إلى مستوى من التدهور والحرمان. وبعد كل هذا تقوم حفنة من المافيات السياسية التي عادت لها كلمة الفصل بعد أن سرقت الانتخابات بسبب خطأ سياسي غبي غير مقبول ارتكبه الفائز، تقوم بتبرئة من ارتكبوا تلك الجرائم من كل مسؤولية. فبدل التحلي بالمسؤولية القانونية والأخلاقية والعمل على تقديمهم للعدالة لمحاسبتهم على ما ارتكبوه، تقوم برد الاعتبار لهم وتكريمهم بمناصب جليلة، وزراء، ومديرين ومستشارين. يا لها من جرائم لا تبشر بخير ولا تغتفر. الغريب من كان يبشر بالحق والعدالة وحفظ الأمانة لا يستحي الانتقال من جدران ديكتاتورية مستبدة إلى طراز جديد طائفية مقيتة وشوفينية انتهازية… فلا شك في أن هذا النوع من “الخطب” لا يتناسب مع الواقع ولن يفضي بأي حال من الأحوال إلى شرعنة توظيفه سياسية دراماتيكية، لإضفاء نوع من المصداقية على نهج وسلوك لن يغيره الادعاء الباطل، ولن يستطيع سياسيا انتهازيا ومنافق تبرير مآثم ما ارتكبه من خطايا بحق الشعب والوطن.