صَخَبٌ و صَمْتٌ ..
يحيى علوان
حينَ تُصابُ اللغة بالحيرة ، يغدو الصمتُ عِكّازُها !
* الكونُ يَغُطُّ في صخبٍ ، لا أستطيعُ التحرُّرَ منه .. فمصيرنا الوطني، وحتى الإنساني، يُعذِّبُ النفسَ.. ثمةَ إستبدادٌ كونيٌ ، لا يُصيبنا وحدنا! قد نشعرُ به أكثر من غيرنا ! لأننا الأضعف حالياً.. إلى جانب أزمة بتأريخنا وحاضرنا ومستقبلنا . لكن الأخطر هو أزمةُ العلاقة بالمستقبل . من هنا فالصَخبُ قويٌّ جداً ! لكن يجب الأّ نردَّ عليه بصخبٍ كتابي . لأننا لا نملكُ أدواتٍ تُصارع الصخبَ بصخبٍ لُغويٍّ ، فالصخب الماديَّ أقوى من صَخب الكتابة . لذلك يتعيَّنُ علينا أنْ نقاومَ هذا الصخب بنقيضه.. بلغةٍ هادئةٍ ، لغةٌ للتأمل ، ترتبط بالحياةِ وبتمجيد جمالياتها..
* الأنسانُ كائنٌ يتذكّر .. قلتُ في واحدة من الأفوريزمات ، التي أشتغل عليها (نصوص شحيحة)، قلتُ: [طالما أننا نتذكر وننسى، فنحنُ نحيا !] فالأنسان إذ يتذكر ، يستحضر صوراً من الماضي . بيد أنه لا يستطيع إستحضار التجربة وإستعادتها.. فعندما يتذكر يسعى إلى التحرّرِ من ضغط الحاضر. إنه يتذكر فقط لأنه يتذكر !
يتذكّر ليعرفَ مَن هو؟! وأين هو؟!
ينضافُ إلى ذلك ما للذهن من قُدرةٍ على تكوين صورٍ ذهنية لأشياءَ وأحداث غابت عن متناول الحس والوعي، تُضافُ إلى ذكرى محدَّدة ، فتدخلُ في نسيجها ، كأنها جزءٌ من الأصل ، تُحاكي مفرداتُها عملَ الخيال..!
فالطفولة بالنسبة للمبدع لا تُكتبُ مرةً واحدة .. إنها تخترقُ نصوصه من حينٍ إلى حين ، تستعيدُ عالماً مفقوداً ، حتى وإنْ كانت طفولةً بائسة ! ذلك أنَّ الذاكرة تُجمّلُ عناصرَ الطفولة وتشحنها بجماليات لم تكن فيها بواقع الحال .. قد تكون طفولةً بائسة ، لكن مسافة الحرمان تُجمِّل الماضي وتجعله هدفَ الأحلام ، التي نخترعها ، كي نَتَغلَّبَ على وطأة الراهن الثقيلة .. ولا نُفلِتُ بوصلةَ المستحيل .. الأنعتاق والحرية والعدالة..إلخ
الذاكرةُ ، إذاً ، تستطيع أنْ تَخلُقَ وَهمَ العودة إلى الماضي . لكن طريقة عملها الغامضة ، تكشفُ مدى تعقُّد العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل في الوعي الإنساني . فالذاكرةُ الفردية ، متحف خاص ، لا يختارُ محتوياته بوعي أو إنتقائية . هي ذاكرة عفوية وتطوعية .. تحنُّ إلى أمكنتها وأزمنتها السابقة .. قد تستعيدُ ذكرى فَرَحٍ ، لم يَعُدْ يُفرِحُ ، أو ذكرى حزنٍ لم يَعُدْ يُحزن .. إنها تعمل بطريقةٍ تختلف عن الذاكرة “الرسمية”. ذلك أنَّ الأخيرةَ تنتقي بوعي كامل ما تريد للجماعة أنْ تتذكره عن تأريخها ، إذ تنزعُ عن الذاكرة طابعها المُطلق ، لأن التأريخَ يحاول أنْ ينسى ..
فالذاكرة الرسمية لا تُريدُ للجماعة أنْ تنسى ، بل تُحدِّدُ لها ما ينبغي تذكُّرَه . وهكذا تُخضِعُ الجماعة لسياسة صنعِ الصورة عن النفس ، صورة خالية من العيوب ، لأن الذاكرة الجمعية هي ذاكرة وظيفية، براغماتية . أما الذاكرة الفردية فهي ” شاعرية “! ترتبط بشكلٍ حميمٍ ، تحنُّ إلى المكان الحميم ، الذي توقظ زيارته المُتخيلة كل ما في الزمن الماضي من جمال..
ثمة سؤال مشروع : هل تستطيع الذاكرة الفردية أنْ تكونَ حرةً تماماً؟! أَلا تتأثّر بالذاكرة الجمعية ، التي هي عالم العادات والتقاليد والأهداف “المشتركة”؟!
صحيحٌ أنَّ علاقة الذاكرة الفردية بالذاكرة الجمعية تحمي الفردَ من خطرِ الإقتلاع و اللا إنتماء ، لكنها تضغط أيضاً على طريقة تشكُّل شخصيته وخصوصيته .
في حالتي ، المُحدَّدَة ، أزعم أنني أستطيع التمييزَ بين تَذَكُّرِ ما هو شخصيٌّ وما هو عام .. لكنني لا أستطيعُ وضعَ حدودٍ سرمديةٍ بينهما ! لأنَّ ذاكرةَ الأشياء الحميمة الشخصية ترتبط موضوعياً بذاكرة الجماعة ، التي أنتمي إليها في علاقتها بالمكان .. الحنين ! فذاتي تحتضنُ ذواتيَ الأخرى ، فيختلطُ صوت الفرد بصوت الجماعة . لكن في الوقت عينه عندما تقوم الذاكراتُ الفردية بسرد حكاياتها، فأنها تُسهمُ في تشكيلِ ذاكرةٍ جمعية ، مثلما تُسهم الذاكرةُ الجمعية في تشكيلِ الذاكرة الفردية ، وفق شروطٍ وخصائصَ تتعلَّقُ بمستوى الوعي والثقافة….إلخ
قد يبدو غريباً بالنسبة للكثير من الناس عندما أقولُ أن علاقتي بالبيت / الوطن توطّدت في المنفى ! فعندما تكون في بيتكَ ، لا تُمجِّدُ البيت / الوطن.. ولا تشعر بأهميته وحميميّته . لكن عندما تفقده ، يتحوَلُ إلى صَبْوَة ، إلى مُرتجى ، كأنه الغايةَ القصوى .. بهذا المعنى عمَّقَ المنفى مفهوم البيت / الوطن ، كون المنفى نقيضاً لهما . لكنني لا أستطيعُ الآنَ تعريف المنفى بنقيضه ، ولا الوطن بنقيضه .. فقد إختلف الأمر وغدا كل منهما مُلتبساً ! لذلك أقولُ يبقى الطريق إلى البيت / الوطن أجمل ، وإنْ شئتَ الحلم بهما ، وحتى الحلم بالثورة أجمل من تحققها .. قد يكون البيت/ الوطن عادياً جداً– مندون إطناب في المديح والتوصيف – لكنك حين تفتقده، تكتشف نواحي أخرى لم تكن تراها وقت كان ” مُتاحاً/ متوافراً ” لديك .. فعندما كنّا “هناك” لم نشعر يوماً بأننا نحتاجُ إلى تقديمِ براهينَ عن حقّنا بالمكان ، بيتاً كان أم وطناً..
كانت علاقتنا بالمكان تلقائية وعفوية ، لا تحتاج إلى مسوّغٍ أو تبرير .. كنا مشغولين بأمرٍ آخر ، بالدفاع عن حقنا في إمتلاك مستقبل أفضل ، مع الإحتفاظ بحريتنا في أن نحلم ونعمل من أجل المستحيل !.. من أجل العدل والإنعتاق والحرية.. مشروعاً يشمل الجميع !
بأختصار ، كل الأحلام أكبر وأجمل من شكل تَحقُّقِها !
لكن للأسف لا تبدو صورةُ المستقبل القريب غير مُشِعّة ، بل قاتمة من منظور الحاضر !!
وعليه فذاكرةُ المُبدعِ هي مخزونُ الصور والإنطباعات ، التي عاشها ، رآها ، قرأها أو تخيلها من خلال ثقافته وتجربته الحسية والفكرية..
من جانب آخر ، فأنَّ أزمنة الذاكرة هي الماضي البعيد أو القريب .. وأمكنتُها هي الأمكنة المفقودة والغائبة ، أو تلك التي شَهِدَت تجربةً ” شخصية أو حميمة ” أو شهدت ” كارثةً جماعية “.. فنحنُ لا نتذكرها كي نستعيدها ، بل لنفهمَ حاضرَنا ونتهَجَّسَ طريقنا إلى المستقبل! فلا أحدَ يحنُّ إلى وَجَعٍ سابقٍ ، لكننا نحنُّ إلى أفراحٍ ، حتى صغيرةٍ وإنْ كانت تحتَ سماواتٍ مُلبّدة !! عرفناها في الماضي، ولا نجدها إلاّ في المستقبل ، كما نظن ! وعندما يتذكر الفردُ والجماعة الوجَعَ السابقَ ، فأننا نفعلُ ذلك كي لا تتَكرّر تلك التجربة المأساوية . لكن حين تصبحُ طريقُ الغدِ سالكةً ، أمامنا ، فأن شيئاً من النسيان يغدو واحداً من شروط التحرُّرِ والإنعتاق !
* * *
* الآنَ حان وقت الحديث عن الصمت ، سأسمحُ لنفسي أن أُعالجه بصيغةٍ أخرى غير ما تقدَّمْ ! ولن أُخوّضَ في موضوع “صمتِ” أجزاءٍ غيرَ قليلةٍ ممن يُسمَّونَ بالنُخَب ،”أسبابها”و”مسوّغاتها”…إلخ فهذا أمرٌ قد يحتاج إلى تحبيرِ مئاتٍ من الصفحات .. لا أنا بقادرٍ عليها ، ولا تتوفَّرُ لي مادةٍ أرشيفية تُعينني على ذلك !
.أُحبُّ أنْ أَبقى مستيقظاً ، طالما الليلُ صاحٍ ..
أُتابعُ المدينةَ كيف تنام ،
أُفضّلُ المشي “تُوالي” الليلْ ،
لمّا تستريحُ الشوارعُ والأزقة من تعبِ النهار!
ما أحلى أنْ تُتابعَ العالم يهداُ رويداً .. رويدا
وكيف يدخلُ الليلُ دهليزَ الصمت !
…………………..
مرَّةً صادفتُ في الزقاقِ مفردةً بمفردها صامتةً ، حزينة ..
لمْ أسألها ما بها .. كي لا تَحسبني أتطفَّل على حُزنها ،
أو أَني أُريدُ فَضَّ صمتَها..!
لكني عرضتُ عليها أن تدخل في جملتي ،
حتى لا تبقى وحيدة فبردُ الليلِ ساديٌّ !
………………
ـ الصمتُ، صُراخُ الأحشاء ، حين يمتليءُ الفم رَملاً..!
ـ تَصمِتُ “وحوشُنا” تحتَ قَمرٍ يُطلقُ في دَمنا نَمْلَ الحنين ..
ـ هل ينتهي عَفَنُ الدنيا ، إنْ خَرَجنا نصرَخُ من الفجائعِ إلى عالمٍ مُسمَّرٍ بالصمت؟!!
ـ وهل يبطُلُ مفعولُ ” السحر” إنْ كَسَرنا الصمتَ ؟!
.أَيكونُ بمقدورنا توصيف يَرَقَةٍ تَلصِفُ في غابةِ الليلِ؟!
ـ مَنْ ينبِشُ فينا ما تَرَسَّبَ منْ صمتٍ، عَجَزْنا عن قَولِه؟!
ـ سنكتبُ .. ونكتبُ لنَصيرَ للصمتِ فَماً ..
فالصمتُ منبسطٌ أمامنا ، مثل بحيرةٍ بلا رمالٍ تَتَشَرَّبُه ..
ـ النَبعُ يَشهَقُ بزَبَدِ كلماتٍ خَنَقَها الصمتُ ..
ـ أيّ الطُرُق خارِجَ الصمتِ نَنْشدُ ؟
فللزورقِ، الذي أَعمَته ذاكرتُه ، أشرِعَةٌ في كلِّ الإتجاهات؟!!
ـ بوّابةُ المستقبلِ مُقفَلَةٌ من الداخل ، كي لا نقولَ صامتة ، مثل بوابةِ حانةٍ سهرَتْ حتى الفجر..
لماذا لا تَملّ أيادينا من الطَرقِ عليها؟!
ماذا تُرانا ننتظر؟!!
…………………
من قَعرِ البئر ، يَنِزُّ صوتٌ :
ـ ” تأمَّلوا وأكتبوا ..لتخلِقُوا مَنْ نصوصكم سُلَّماً يُخرجَكم من بئرِ الصمتِ ،
إلى فضاءٍ على أجنحة البَجَعِ !!”