لم يصادفه من قبل شتاء قاس وشديد مثل هذا الشتاء. يغلف البياض معالم المدينة، حدث هذا في اليوم السابع من شهر يناير عام ٢٠٠٧، بعد انتهاء احتفالات راس السنة بفترة قصيرة. انهمرت الثلوج بكثافة حتى الفجر، والطقس بارد.
دقت الساعة السادسة صباحا. كان يمشي في الممر الضيق المؤدي إلى الباب الخارجي، ادخل بطاقته في الجهاز الالكتروني المثبت على الحائط، الذي يفضي الى فناء الشركة لتسجيل ساعة خروجه.
الثلوج المتراكمة على سيارته الواقفة عند موقف السيارات المخصص أمام الشركة، قد اخفى جسد السيارة ولونها الازرق الغامق.
بعد انتهائه من عمله ليلًا والذي يبدأ من العاشرة مساءً حتى الساعة السادسة صباحا، عاد إلى البيت منهكًا، دخل الى الدار بعد أن أغلق الباب خلفه بحذر كي لا يقلق العائلة، كان ابنه دانيال البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة وابنته ماريا ست سنوات يغطون في النوم. ولم ينتبه الى زوجته التي كانت تشارك ماريا غرفتها، بعد ان أصاب علاقتهما في الآونة الاخيرة بعض الجفاء والفتور.
غطت سماء العلاقة الزوجية غيوم داكنة حتى اختفت رويدا رويدا زرقتها. طفق هذا التدهور في العلاقة بينهما بعد ولادة ماريا بستة أشهر وتفاقمت مع تقادم الزمن. أخذت زوجته تبحث عن المبررات من أجل تعكير صفو العلاقة بينهما حتى وصلت الى الذروة. اولى بوادر الانهيار كانت، عندما تظاهرت بانها تعاني من الأرق وقلة النوم، بسبب شخير زوجها المستمر أثناء النوم، الأمر الذي دفعها إلى نقل فراشها إلى غرفة المعيشة في الطابق العلوي، ولم يلبث مبيتها هناك طويلا، حتى انتقلت بعد يومين إلى غرفة ماريا في الطابق الأرضي.
أحيانا كثيرة أثارت تصرفاتها الشكوك من تكرار جلوسها غير المعتاد مع الأطفال، فهي لم تجرب قط الاهتمام بهم، وكانت تتجاهل دورها كأم، كانت تجلس مع الأطفال وتدردش معهم وتهمس في اذنهم، وقد أضحت حياتهم من جراء ذلك مشوشة. وما ان يفاجئها وهي تكلم الأولاد، حتى يجتاح الارتباك قسمات وجهها، وكأنما تخطط لارتكاب جريمة.
كان يقول لها:
– ما بك وكأنك قد ارتكبت إثما؟
تبقى صامتة كصمت الأموات، وهذا ما يعزز الشكوك حول سلوكها الخفي.
دخل إلى غرفة النوم في الطابق العلوي وغط في نوم عميق. استيقظ على رنين الهاتف، وكانت الساعة الحادية عشرة وأربعين دقيقة قبل الظهر، مضى مسرعا إلى مصدر الصوت ورفع السماعة، وإذا بصوت امرأة يرن في أذنه تقول:
– مرحبا.
– مرحبا.
– هل يمكنني التحدث إلى مادلين؟
– هي في العمل الآن.
– انا مديرتها، مادلين لم تأت للعمل اليوم.
اثناء حديثه مع مديرتها عبر الهاتف، القى نظرة خاطفة من نافذة المطبخ مندهشا، حيث لاحظ اختفاء السيارة، شعر بالألم، وكان على وشك البكاء. وأعرب عن قلقه من الصقيع الذي غطى سطح الأسفلت كالزجاج، لأن زوجته لم تكن ماهرة في قيادة السيارة.
قال:
– ربما تعرضت لحادث مروري أثناء القيادة في طريقها إلى العمل، بسبب الصقيع، ثم نقلت على إثرها إلى المستشفى، اعتادت ركوب الحافلة بدلا من قيادة السيارة في مثل هذا الطقس.
قالت:
– لا تقلق، تحقق من المشكلة ثم اتصل بيّ على هذا الرقم.
بعد ان أخبرته عن رقم تلفونها، وضع سماعة الهاتف واتجه نحو المطبخ والقلق يساوره. وفجأة التقطت حدقاته ورقة على طاولة الطعام، كانت عبارة عن رسالة قصيرة قد تركتها زوجته قبل ان تغادر البيت. قرأ مضمونها:
(انا اخذت الأطفال إلى جهة مجهولة، ان أردت معرفة الأسباب، عليك الاتصال بالجهات الحكومية التابعة لحماية الأطفال، حاول الاتصال بالباحثة الاجتماعية وهذا رقم تلفونها المذكور أدناه.).
ما أن انتهى من قراءة الرسالة حتى أصابه شلل فكري، وقف جامدا في مكانه دون حراك، جاحظ العينين، ثقيل الرأس.
رفع سماعة الهاتف واتصل بمديرتها في العمل وأخبرها بحقيقة الأمر عن أسباب اختفائها.
حاول عدة مرات الحصول على الباحثة الاجتماعية المذكور اسمها في الورقة دون أية نتيجة، كان يعيش في حالة من الترقب والتفكير في كنف هذا الصمت الفاحش.
وفي الساعة الثانية ظهراً، رن جرس الهاتف وإذا بصوت نسائي يتسلل إلى أذنه، بعد ان قامت بالتعريف عن نفسها، وكان نفس الاسم المذكور في الرسالة، قالت أن زوجته والأطفال في حمايتهم.
قال الزوج:
– هل هم في خطر؟ ومن يهددهم؟
أجابت بنبرة الواثق من الأمر:
– عندما يشعر الإنسان بخطر معين ويبلغ السلطات لأسباب تمس حياته، من واجبنا أن نحمي هذا الشخص.
رد بهدوء:
– ولكن لم أسمع أن أحداً قام بتهديد اولادي، وإن وجد شيء من هذا القبيل فأنا مضطر أن أطلب الحماية من الشرطة، واعتبر تصرف زوجتي عملية اختطاف لأولادي.
قالت:
– رجاءً لا تفعل ذلك، وإنما نحاول التحقيق في الأمر ومن ثم نقوم باستدعائك أيضا، إلى ذلك الحين لا عليك سوى الانتظار.
أيقن في سره يقينا راسخًا لا ريب فيه، إنها خططت للأمر بتفاصيله في غفلة منه سعياً منها أن تنتقم دون أن تأخذ بنظر الاعتبار ما قد يترتب من آثار نفسية على الأولاد، لم يفهم أسباب انتقامها، كان في أكثر الأوقات بمثابة الأب والأم معاً، ما الذي يدفعها إلى الانتقام؟ أسئلة كثيرة كانت تسبح في أروقة فكره.
خرج إلى فناء الدار، رشقت الريح الثلوج المتراكمة على شجرة الأرز فتناثرت على وجهه، عاد إلى الداخل متجهما.
توغل في صمت الجسد وسكونه، هذا الجسد المتماسك الذي طالما كان جسراً لهم للعبور إلى ضفة المستقبل، أخذت المشاعر تحترق في منفى الرمال وتفتت القلب وتطفئ نور التواصل. انتابه شعور، بأن الزمن قد توقف عن الدوران وتبدد الحلم في قاع الظلام.
وفي الليل أصابه أرق، فقد الإحساس بالواقع إحساس بقسوة ووطأة الصمت، هذا الصمت الناجم من غياب الأطفال. هل كان هذا فعلًا حلماً عبثياً؟ راحت الأفكار المتضاربة تتماوج في رأسه المصدوع.
شعر بعضلاته مشدودة ومفصله جامدة، وألم قاس يخترق أوصاله، جلس متكئاً بظهره على الحائط، وعيناه تحدقان في الصورة المعلقة على الحائط لولديه دانيال وماريا. أجهش بالبكاء كبائس فقد كل الأمل بالحياة. مرت عليه الليالي وكأنه في بحر الظلمات، هذه الغمة المفاجئة التي حلت بالزوج، دفعت به إلى التفكير مليا أن يكون أكثر يقظة وأشد صرامةً.
فجأة انتابه شعور بالوحدة القاتلة، كان يوما عصيبا، هبت رياح باردة على شرفات عزلته، وسيل من لسعات البرد تجول على طول الجسد كصعقة كهربائية، صراخ ثقيل يشق صدره ويحبس أنفاسه. شعر أن الزمن قد فقد كل معانيه، حتى الحياة أصبحت الخرقة الوسخة تمسح بك الأرض وتطعنك بسكين الغدر حالما يغفل المرء عنها للحظة.
راحت الأفكار تتغلغل في صميمية الشقاء، انقض عليه إحساس بالإحباط، وكأنه مطوق بملايين الصفحات المعتمة، بينما تسهو زوجته في هذه اللحظات في الخارج مغرورة بفعلها غير المدروس وهي تتأرجح على شفا حفرة من الهدم والنسيان.
حاول أن يركز وعيه على نقطة واحدة وهي أن لا يفقد زمام السيطرة. قليل من الهدوء لكي يستعد لتركيز أكثر صعوبة. الآن عليه ان يبعد عن نفسه المشاعر والحنين بعد أن قضت مادلين عليهما بغبطة اللامبالاة وأن لا يتمادى في قراراته. لم يستطع ان يخفي حقيقة معاناته. التعب والوهن جعله غافل الذهن، لم يكن لديه متسع من الوقت ليستدرك الموقف ويفوت الفرصة عليها في غفلة منه.
انهمرت من عينيه الدموع بصمت، والأسى العميق المرسوم على وجهه المضطرب، لتنبثق عنهما جداول من الآهات، كلما طفحت في ذاكرته تلك الأيام وهو يمنح العائلة جل حياته من أجل أن تعبق برائحة الربيع العذبة في سهل طموحاتهم.
وبعد عشرة أيام وهو يعيش في عزلة عن عائلته، اتصل دانيال بوالده عبر الهاتف الجوال الخاص بوالدته معبراً عن اشتياقه، طالبا أن يلتقي به. قبل ذلك تشاجر دانيال مع الموظفين التابعين إلى دائرة الرعاية الاجتماعية، بعد ان أصابته حالة من الهستيريا و قام ببعثرة أثاث الشقة السرية، وإثارة الفوضى، مما أجبرت السلطات على إتاحة الفرصة لهم أن يلتقوا بوالدهم، انفجر الأب بالبكاء حال سماع صوت ابنه.
وفي اليوم التالي التقى الأب بأولاده وزوجته في أحد المطاعم على بعد عشرة كيلومترات من مدينتهم، وهو يحمل في خلجانه أكاليل من الشوق والبهجة، لم يكن يتوقع أن يكون يوما قاتما، فاجأته أولى ضربات البرق حين أطبقت سيول الظلام على أجواء اللقاء، في لجة ذلك الظلام انقض عليه إحساس بالإحباط، وإذا به يصطدم بجدار التفاؤل وهو يتلقى ضربة موجعة تحطم سارية الأمل، وتغرق زورق العائلة، بعد أن عرت مادلين نفسها وكشفت عن الدوافع الحقيقية الكامنة وراء تصرفاتها المهينة التي لا رجعة فيها، علاوة على ذلك لقنت الأطفال في ترديد الأكاذيب ضد والدهم للإيقاع به لرصيدها الخاص، وبهذا وضعت لمساتها الأخيرة على تلك العلاقة التي لم يصدق يوما أن تنتهي .