الحلم وقطار الوهم
كفاح الزهاوي
من غور السحب القاتمة للدخان المتصاعد يتسلل الى العالم كائن من هذا العصر ذو رأس كبير يشبه وعاء فارغ، ساذج وعقيم، وجهه ثقيل كامد تزينه لحية رثة، يترقب هبوط الليل عن كثب، حتى لا يفوته قطار الحلم. تثيره المغامرة، وتحثه شهوة السلطة.
فهو عبارة عن صوت بليد ومخادع يجسد نذير الشؤم، ويحمل صداه أطنان من البرق والرعد، مشحوناً بمواد سامة. يحاول ان يسبر قدراته الخرقاء في عالم الغيب، ليرى عمق طموحاته، وقدرته على تطبيق التجربة في عالم اليقظة في ظل مخلوقات لا ترتقي عقولها عن ادمغة المواشي.
يعيش حياةً خاوية تطل من نافذتها عجائب الدنيا، يتميز بالقلق، لا يثبت على حالة، تجده في تأرجح دائم. فهو ينتمي الى حظيرة المزاجيات ويساق وفق هذه الرؤية ذات طبيعة خطيرة ويغامر على إشعال نار الموقد بحطب المعدومين والبسطاء. هكذا يجد نفسه في قلب الحدث، حيث تجري وقائعه منذ ان أسدل جفنيه وغاب عن الواقع.
يعتمد في منهجه على الأفكار الروحية التي توهم الناس بأن الأقدار تحكمهم وتنشد لهم الانتظار. تنبثق من غور العتمة، ثمرة تهور ورعونة وبلاهة كائن شاذ يتصرف كطفل أحمق يعبث بأمور كبيرة وذات أوجه عديدة أكثر تعداداً من ان تستطيع طاقته استيعابها. فهو شخصية غريبة الأطوار، متقلبة المزاج، تحركها الغرائز.
الليل يزحف بهدوء غير مألوف، كأطياف مغروسة في حلمه الوهمي، مستسلماً للمساته الهادئة، تتدفق من نهره الأفكار. أما الحلم، فهو نتاج الليل فيشرئب عالمه الغامض بكل تفاصيله ويتعالى كجبال مخيفة، تحيطه هواجس الاحتراس من كل شيء بما في ذلك ظله، فيقوم بعمليات التفتيش الدقيق كجزء مهم من مشروعه الاحترازي، وذلك من خلال تعقبه لكل عربات القطار، مدركاً ان لا يتسلل إليها دخيل قد يعبث بأركان العربة ويسبب التخلخل والاهتزاز في مسار القطار وينهار الحلم.
كان جدران العربات مطلية باللون الاخضر، كلون من ألوان الخداع البصري، بثت في حناياها إشراقة مضيئة ولاحت نورها كاليراعات تتلألأ كالنجوم في فضاءات العربات وتلمع كزمردة ترفل وتداعب سواد الليل.
أصابه داء الجمود منذ الطفولة بعد ان قيدت الأوهام أفكاره بسلاسل الهلوسة. التوغل في العمق يغدو نصلاً حاداً، يقطع شريان التواصل، ويسكب شلالات من الدم. يخفي الرماد الحار تحته الجمرات الهادئة التي قد تتوهج بنفحة ريح غير متوقعة، نافثه ألسنة من اللهب وتنشب الحرائق.
عندما يحين الوقت كي يخلد الى النوم، يسلم جثته الضخمة للرقاد في فراشه كالعادة، يبقى حريصا على وضع غطاء الفراش مستقراً وإلا ينزلق عن جسمه وينحرف حلمه العظيم عن مساره. فهناك مَنْ يتربص من خارج السور، منتهزاً فرصة اختباء القمر لزعزعة قطار الحلم عن سكته الهادفة.
لا يغفل لحظة عن التمسك بنفس الخطوات التي يخطوها بحذر وأناة في كل ليلة: يمد ساقيه على امتداد الفراش على شكل خطين، ويسحب الغطاء بعناية وبقياس ثابت، يتأكد أن الوسادة لم تتحرك من مكانها، بل يتفحص ان رائحتها لم تتغير، وان لونها مازال بلا خدوش. تَعَوَّدَ ان ينام على ظهره مع بقاء رأسه الفارغ ووجهه الذي يوحي ملامحه الدميمة بالدناءة، والخسة، مستقراً دون حراك، منتصباً باتجاه سقف الحجرة العالية، كي تبقى الصورة ثابتة لا تحيد عن خطوط الحلم.
يسعى جاهداً على رسم أسوار الحدود داخل حجرته الكبيرة من خلال وضع قِطَع الكرتون، يصنع منها جدراناً وهمية لتبدو الحجرة صغيرة. ظنّاً منه: ان ذلك سوف يوهم الدخلاء ويساعده في حماية فضائه من العدوان غير المتوقع. وكذلك لصد تسرب الضوء من الخارج عبر النافذة الى داخل الغرفة بغية منع كشف اسرار الحلم.
يمارس هذا النمط من السلوك على نحو ثابت دون الشعور بالملل. لابد للقطار ان يمضي في طريقه دون ضجيج، فصوت القطار لا ينبغي ان يسمعه الغرباء. الاستغراق في النوم يمنحه فرصة أطول ليعيش الحلم بحرية أكبر.
ينتابه شعور عظيم بما يقدمه من إنجازات عندما ينأى بنفسه عن عالم اليقظة. فهو يشعر بالتباهي، لكونه قادراً على التحكم في مصير محتويات عربات القطار على مدار الساعة وحدهُ، وبينما هو مستغرق في نومه العميق. وها هنا في عالمه المضطجع يخترق الطرق الوعرة والأنفاق المظلمة والجسور المهترئة دون أن تقف اية قوة حائلةً أمام جبروته.
عندما تدور عجلات القطار على السكة الحديدية تنفث أشكالا مختلفة من الضجيج، الحافلة بالتهديدات، الذي يهيمن على صوت الانسان، وفي وسط هذه الفوضى المفتعلة يصبح حينها ذلك الصوت ضعيفا لدرجة أن الأذن بالكاد تستطيع تميزه. وفي غمرة هذه الرحلة الوهمية بدت الغابات أكثر هدوءً وظلاماً، وبدت عتمة الليل وصَمْته أكثر كثافةً واتساعاً، حتى تخيل المرء تلك العتمة كأنها غيوم داكنة، تستلقي بكل ثقلها على جسم القطار.
القطار يسير على مدار الساعة دون هدف في ضبابية مطلقة، بينما هو يقف منتصباً بقامته القصيرة، جارياً ببصره فوق السهول الكثيفة بالأعشاب على خطى جامدة تتسلى بالعبث، حصادها الأفق المجهول على امتداد رؤية لا نهاية لها.
قال في نفسه بصمت وكأن الكلام يخرج من عينيه:
هل يمكنني تجاوز حدود الخيال.. أن اخترق جدار المستحيل وصناعة المعجزات. أنا سيد الكون وكلمتي سامية. لا يزال القطار يندفع بلا هوادة في مهب الريح.
وفجأة بدأت شفتاه ترتجف للحظة وكأنه يحاول ان يقول شيئا مسموعا. ولكن رجعت الأفكار القهقري وغرقت في القاع. وهنا نشأت سحابة من الصمت صارت فاصلاً بين تلك الأفكار التي كانت تجول في ذاكرته، وبين تلك التي كانت على وشك الخروج الى الهواء الطلق كالعبث. وكأنه عاجز عن إيجاد الحلول الناجعة وفَضَلَ الهروب منها تجنبا من تحمل أعبائها الحقيقية، مندفعاً بنظره بعيداً، ساداً أذنيه، مدعياً الصم، تاركاً هموم الناس تقطر سواداً.
يخترق القرى المنسية مُخْتَالاً، تلك الأماكن يطوقها سور من الطين، تعبق بطيبة اهاليها، الا انهم يجثمون تحت أنقاض الجهل والفقر المدقع. كلما ثقل حجم السكون، ينصت الى همسات اناس فقدوا حياتهم، انفاس موتى لم يملكوا ارادتهم. يهتف في حلمه العظيم انه المنقذ ورسول هذه الأمة.
يشعر بزهو كونه القائد المفدى والعقل الجمعي والمفكر بالرغم انه لا يمتلك أي شيء من هذا كله.
تمر الأحداث أمامه كزخات مطر صيفية، انه بالكاد يشعر بتأثيرها. أما آفة الضغينة والحقد والحنق فكانت تنهشه نهشاً، وتستقر في اعماقه لينقلها الى النفوس الضعيفة التي استوطنت في بيئة الجراثيم الخطرة والمستنقعات الآسنة، النافثة منها روائح كريهة تلحق بمن حولها اضرارا جسيمة. وإن تقاطعت معه الاحداث، او لاقى في طريقه الأخطاء، وإن كانت فادحة، يُبقي عينيه مغمضتين دون ألم وبوعي كامل، كي لا يرى نزيف الدم الجارف من قلوب الهالكين. هكذا يرى الواقع في نهجه الصالح.
يمارس العبث دون ان يدرك معالمه او ينتبه إلى سلوكه. فهو يحاول ان يقنع ذاته بجدية المهمة واستمراره حتى النهاية لتحقيق مشروعه المقدس. يتراءى له أثناء تجواله في تلك الطرقات، انه مستطلعا ومكتشفا، بل يعتقد انه في رواية سينمائية التي تجسد علاقة مكانية زمانية، منطلقا من فكرة: ان الاحداث تتعاقب حتى تحقيق الهدف والوصول الى القمة.
وفجأة تردد صدى صوت في العربات جعل ضجيج القطار يتبدد. شَبكَ وجهه في راحة يديه ليمنع شرارة الكلمة من أن تلذع قسماته المرتعدة:
– هل الإيمان بقضية معينة تنفصل عن المعاناة اليومية للناس ومدى الظلم الذي يلحق بهم، وبإمكان المرء إنقاذ مَنْ على شفا الموت.
ما كاد ان يزيح يديه عن وجهه وإذا بصدى الصوت يخترق سمعه كرصاصة قاتلة:
– نعم هذا السلوك العبثي هو الذي يزحزح الإنسان ويمنعه من رؤية الأشياء بوضوح. فضلا عن تبني الأفكار الخيالية كمفاهيم مطلقة تجعله ينتهي به الأمر في دوامة من الارتباك والانحراف.
وما ان يتولاه الذعر، ينتفض خائفاً، مسرعا الى الانزواء والخضوع في ركن العربة. يطفئ خلايا عقله ويعتكف لحين زوال الخطر.
يرى الأشياء بشكل مختلف عن الواقع. أفكاره مستمدة من رمال الصحراء، ممزوجة بغبار سام، تصطبغ دقائقه بألوان جديدة، تخفي جوهرها الحقيقي. بينما حلمه يتعارض مع مجرى الواقع. يحتار الانسان في شأنه، فهو لغز غريب، يقتحم الموائد دون تفكير ان يصاب بعسر الهضم، يبدأ بقضية ثم يتركها دون الشعور بالذنب أو المسؤولية عن عواقبها.
مع مرور الزمن أضحى هو الآمر والناهي. كل تناقضات الحياة صارت تنبثق من اعماقه. تحول هذا الوهم من بذرة الى شجرة اشباح ترافقه في كل ليلة. شعوره بالغبطة الزائفة والغرور الوهمي حوله الى وحش قاسٍ، وأصبح أكثر عدوانية عندما يواجه نفسه في أحلام اليقظة. غدا النهار كابوساً جاثماً يقلق هواجسه ويهدم جدران خططه. فالشمس المتوهجة في السماء تعمي عينيه وتحرمه من تحقيق اوهامه. وعندما ينوي تطبيق الحلم على الواقع، فإنه يصطدم بالعقبات، فيكون الفشل نصيبه كلما يخطو خطوة.