المنطقة الخضراء .. ودولة الصدر الفاضلة في مهب الريح
عصام الياسري
كما كان متوقعا، الصدر غادر بالمجمل ما التزم به من تعهدات لتغيير الخارطة السياسية، في مجاليه، “إنهاء نظام المحاصصة الطائفية التوافقية ـ والقضاء على الفساد ومحاسبة مدبريه”. ومن جديد أدى فشله إلى خيبة أمل سياسية ومجتمعية واسعة. بعد أن تحول الصراع المستمر على السلطة بينه، وبين خصومه السياسيين في “الإطار التنسيقي” إلى أعمال عنف خلفت وراءها بعد يومين من الاقتتال العنيف بأسلحة متطورة، عددا لا يقل عن 50 من الضحايا الأبرياء وما لا يقل عن 400 جريح… وبحسب التقارير فإن المنطقة الخضراء وسط بغداد، كانت قد تعرضت إلى أربعة صواريخ أطلقت من منطقة مجاورة يوما قبل اندلاع الاشتباكات المسلحة بين مختلف الفصائل “يوم الإثنين 29 آب”. انتهت بعد تصاعد العنف برجوع الصدر عن “التزاماته” وإنهاء الاعتصام وتفكيك الخيام ومغادرة معسكر الاحتجاج في الحي الحكومي في المنطقة الخضراء. بذلك أسدل الستار على واقعة “ثورة” طالما تكرر مشهد نهايتها الدراماتيكي، دون أن يعرف أحدا أسرار خفاياها بيد نتائجها مؤلمة.
مفاجئة الصدر بسحب أنصاره المساكين من سوح التظاهر والاحتجاج ليست بجديدة، فقد سبق أن أنذر أنصاره مرات على الانسحاب ووضعهم في موقف سائب. مما يجعل الأطراف المناوئة لان تستقوي بالسلطة، بل لا تضع حدا لممارسة القمع السياسي الميليشياوي ضد المجتمع العراقي برمته وبالأخص الحراك التشريني. وفي كل مرة يؤدي إحتكامه للإنسحاب دون مبرر موضوعي، إلى تعزيز مواقع مناوئيه الذين طالما يشاكسونه السياسة والعقيدة، ويتحينون الفرص للإيقاع به فحسب، إنما مواجهة فئات المجتمع الرافضة للطبقة السياسية برمتها بقساوة. من جهة أخرى، فإن انسحاب الصدر هذه المرة، على المستويين، البرلماني والسياسي ـ الجماهيري، شكل لحظة انتصار لخصومه، دفعت به نحو خسارة العديد من القيّم والاعتبارات وأخطرها فقدان “المصداقية” السياسية والعقائدية. فيما أحاط حراك تشرين وقوى المجتمع المعارضة للنظام الطائفي بالكامل، إعادة تموضعها لايجاد بدائل جديدة تضمن تحقيق ثورة التغيير الشامل لمنظومة الحكم، بعيدا عن مآلات الصدر ومتناقضاته. إذ لم يشكل انسحابه وعدم صموده “الوجداني”، هذه المرة، استثناءً، إنما خطوة نتائجها على مختلف الصعد السياسية معروفة. الأمر الذي حذا بالمعارضة أن لا تمضي سبيل الصدر دون تعهد يضمن مصداقية ثباته، ايضاً، حقوق قوى إنتفاضة تشرين والمعارضة الوطنية لتغيير النظام السياسي برمته.
مما يثير الدهشة والاستغراب ايضاً، أن بعثة الأمم المتحدة في العراق ( يونامي ) رحبت بانسحاب الصدر وأسمته “بالمعتدل”. وكتبت على تويتر: “ضبط النفس والهدوء ضروريان لسيادة العقل”. ولا نعلم عن أي عقل؟ تتحدث هذه السيدة الأممية المسؤولة في بلد يهدر دم الأبرياء على يد أحزاب أصحاب السلطة وميليشياتها المسلحة يومياً، فيما أبنائه يعانون من نفاق المنظمة الدولية ومبعوثتها. وغرد القائم بأعمال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي على تويتر أن الدعوة لإنهاء العنف هي “مثال على الوطنية” دون أن يشير إلى أي نوع من الوطنية، يتحلى هؤلاء الأوغاد وخطاياهم بها. في الوقت الذي بلغ فيه نظام الحكم حد العهر السياسي والسقوط في مستنقع الابتذال والرذيلة التي لا شفاعة لها.
إنه لمن الغرابة أيضا، وفي يوم أسود، سقط فيه العشرات من القتلى والجرحى الأبرياء، وحدهم، هم من تضرروا جراء الحوادث ولا ذنب اقترفوه سوى المطالبة بأبسط حقوقهم. يخرج الصدر ليقول في خطاب تلفزيوني: إن ما حدث يحزنه. وإنه يعتذر “للشعب العراقي”، معلنا أنه سوف “يتبرأ” من أتباعه الذين يعارضون إنهاء معسكرهم الاحتجاجي في المنطقة الخضراء، متجاهلا صدق هؤلاء المساكين الطامعون في حياة أفضل. وكانوا سببا في ارتقاء مكانته وتعزيز تياره كقوة أقوى في الانتخابات النيابية التي جرت في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. فيما فشل في تشكيل الحكومة التي كانوا يأملون بسبب الجمود السياسي وتصرف حلفائه “البرزاني والحلبوسي” وانتهازية النواب المستقلين وتقلباتهم الجدلية.
إذن، وببساطة متناهية تخلى الصدر عن ادعاءاته لتغيير النظام السياسي في العراق ومحاسبة الفاسدين، لا بل تخلى حتى عن محاولة الإصلاح بمساعدة البرلمان بسبب سحب نوابه غير المبرر وسط حلقة فارغة، بين حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وهو ما يعارضه خصومه. إنه أفرغ عقيدته من محتواها وأثبت بأنه غير قادر على الاستمرار والثبات حتى النهاية. فأصبح لا مسلك لديه سوى بعثرة الجهود لصالح الخصوم وإفشال مشروع تغيير النظام السياسي بالكامل.