وقفة مع كتاب: «نقد العقل الديني إديان الارض.. ودين السماء»
قبل ان ندخل في صلب الموضوع، أقول: قبل فترة زمنية ليست بطويلة ألف الدكتور المفكر عبد الحسين شعبان كتابه الموسوم: «دين العقل وفقه الواقع مناظرات بيني وبين الفقيه احمد الحسني البغدادي» ويتضمن مساجلات معرفية وثقافية وعقدية وسياسية مع سماحته ادام الله ظله. هذا الكتاب اصبح مثيراً للجدل، وكتب عنه الكثير من المثقفين نقداً وتقييماً لأهمية المناظرات التي دارت بين فقيه إسلامي متمرد على الموروث الرجعي المتخلف وبين مفكر علماني ماركسي مغامر في نقد المتمركسين المؤدلجين، وجرى حوله مؤخراً مناقشته في منتدى الفكر العربي في العاصمة الأردنية بحضور ثلة من المثقفين العرب.
منذ زمن بعید و«رجل الدین» وممارساته في بعض «الشعائر» الحسينية هي خط احمر لايجوز الاقتراب منها، ولو بايحاء صغير. كما ان منهج المؤسسة «الدینية» الحوزوية ظل هو الآخر خطاً احمر. لان اصل الاستنباط منه، فهذه «الشعائر» او ما يسمى بالطقوس الحسينية لا يمكن مناقشتها، ولو بحرف واحد. وهذا ما جعل المجتمع العراقي والايراني الإمامي وغيره من المجتمعات الشيعية ولمئات السنين العجاف اشبه ما يكون بالجسد الهامد البارد امام ما يحدث في العالم من تطور وتقدم، فكل هذه المعاناة، نتیجة تسلط الحكام الاجانب في العهود الماضية، حتى وصل الحد ان من راح يحكمنا هو لیس من اصل عربی. او مسلماً حقاً. وقد أعترف له بالخلافة الاسلامية. على غير ما اشترطته الشيعية الإمامية بوجوب الهاشمية او القرشية. صفة حقة.. نعم قد يقول القائل لقد ظهرت هنا وهناك بعض الأصوات الناقدة. والرافضة. ولكن نجیب: بان هذه الاصوات لم تبلغ حدَّ الجهر والصراحة فهي خجولة ويكتنفها الخوف احیانا، او ياتيها الرد عنيفاَ من يدعي الولاية على شؤون المسلمين، لقد قرأنا كثيرا عن نقد العقل العربي لبعض الكتاب والمفكرين، وعلى لسان من لم یكن محسوباً على «رجال الدین»، ان یكن قد اعترف صراحة بالعلمانية أو المدنية، كالجابري وأركون وكثير غيرهما فالتحدي في منتهى الصراحة. اما اليوم وقد يصور هذا التحدي بكتاب بعنوان جدلي «نقد العقل الديني أديان الارض.. ودين السماء» من رجل من رحم الحوزة. ومن اقطابها ومن بیت علمي وأدبي وسياسي اصیل ورفيع. وقد نال أعلى درجات الاجتهاد والاستنباط ولم يتجاوز العقد الثالث من عمره الشريف. وقد اعترف له المعاصرون من أقرانه بفضله. وعلمه، وبعد نظره، فهذا امر يستحق الوقوف عنده والنظر في دواعيه ودوافعه.
ولكن، الذي يدعو إلى السكون، او النظر في العمق، ان المؤلف هو سماحة الفقيه السيد احمد الحسني البغدادي. الذي عرف بالجرأة والشجاعة ومند نعومة اظفاره. واليوم وقد تجاوز العقد السابع من العمر، وكأنه اراد تتویج هذه العقود الذهبية السبعة. بجمع ما لديه من افكار واطروحات حداثوية تقدمية يسارية إسلامية نتیجة القراءات الثقافية المستحدثة والمشاهدات. لما يجري على الساحة العالمية. والكتاب الذي بین ایدینا يضم اکثر من مئتين وتسعة وستون صفحة. وكان من محتوياته: بعد المقدمة:
– مدخل إلى منظومة التخلف المجتمعي.
– القسم الاول: الخطاب السلفي والخطاب الحداثوي بين المقدس والمدنس.
– والقسم الثاني: فكر وتخلف رؤية مغايرة.
– والقسم الثالث: العملية السياسية افتراع واستثمار فی الاصل والفرع.
والقسم الرابع: وسائل ناعمة للتأثير على العقول.
قد بدأ السيد الحسني البغدادي الكتاب بسورة التوبة والتي بلغت 129 آية. وفيه عدت بشكل مباشر وغير مباشر بان منذ زمن قديم تحركت من خارج الدائرة الإسلامية ايدٍ خفیة اتقنت العمل واللعبة في صناعة الانظمة السياسية وخلق الاصنام، والآلهة البشرية والمذاهب والاديان المختلفة وعدَّ مثل هذه الأمور. هي من دواعي الحقد والانتقام، وهذا ما تجذر في المجتمعات العربية والاسلامية الجهل والتخلف الوراثي أو السلالي أو التكويني أو الذاتي. وقد دعا سماحته إلى حث واستنهاض الأمة، والوقفة الايجابية. ثم لا بد من نفض الغبار والتحلي بروحةٍ وفق الاطروحات الحداثوية الاسلامية. وقد تحدث ايضاً عن الواقعة العاشورية.
وقد انتقد الخطاب الحسيني المحافظ القصصي الخيالي الجعلي الذي أصبح عنواناً تعيشياً أو طائفياً أو تخريفياً، أو تحريفياً.. ومن هنا صرح المؤلف: «وأخيراً.. يا للعجب العجاب الحسين الشهيد تشوّه بالوعاظ والخطباء والفقهاء لا بتقاليد العوام الجهلاء فان كانت المنابر الحسينية مختصة بأصنامها.. فالاصنام في حقيقتها ليس الأشياء دون معنى، وعنذئذ المنبر التبليغي الوعظي بلا معنى ليس إلا صنماً، والتدين بدونه ليس إلا وثنيةً مختصة بالتحريف والتخريف اللفظي والمعنوي وأنها هي الحقيقة. أقسم بصدقية نهضة الحسين الثورة والتصدي والصمود والتغيير لا بالتلفيق الكاشفي والبندري و… وقد يلومني البعض حينما أقول: وما أكثر كتب المقاتل عن واقعة الطف الرهيبة، وما أقل الحقيقة فيها، وما أكثر الخطباء والمبلغين في المدينة المكتظة يثرثرون من على المنابر كالببغاء كثيراً في الكذب والتزوير بدلاً من تفكيك نصوصها واستئناف ترتیبها من جديد!
إذن، من حق القرآن العظيم أن يصرخ: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ سورة الجمعة، 79، ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ سورة النحل، 116 ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ سورة يونس 59». ونفی ان يكون لھا جذر قبل ابتداع الصفويین لها، ومعلوم ان البويهيين في القرن الرابع هم اول من سمح بظهور هذه «الشعائر» عندما امر الرجال والنساء بالخروج في مواکب يخترقون الشوارع في بغداد. الا انها لم تصل الى هذا الحد. الذي شاهدناه بالمعايشة الميدانية بضرب الرأس والظهر بالآلآت الجارحة، أو المشي على الجمر والزجاج، أو تطيين الجسد كله، أو الزحف على الارض باسم كلاب الزهراء (ع)، أو الشور الحسيني ولذا لابد من القاء نظرة على فكر السيد المجاهد احمد الحسني البغدادي، لكي ينبري البعض لیأخذ بايدي هذه الأمة فيشجب هذه المظاهر التي ما انزل الله بها من سلطان، واذا كان هناك من سبق السيد البغدادي.. مثل السيد حسون البراقي (ت 1914م) في كتابه (قراء التغازي)، أو الدكتور قاسم حسن صالح في كتابه: «نقد العقل السلطوي والديني من منظور سيكوبولتك». الا ان رؤية الفقيه المجدد جاءت وفق منظور خاص يحتاج الى وقفة ومحاججة، والسيد الحسني البغدادي. كما قلنا هو معروف بالجرأة والتحدي، ولعله استمد هذا العمق الثوري من جده المرجع الاسلامي الاعلى السيد المجاهد محمد الحسني البغدادي (ت 1392هـ – 1973م) الذي ارسى هذه القواعد لمن جاء بعده من الاجيال.