على الرغم من أنّ “الديموقراطيّة” فُرِضَت فرضا على العراق، الّا أنّها وعلى الرغم من حاجتنا الماسّة اليها لبناء بلدنا لم تستطع أن تلبّي أبسط شروطها، لخوض عمليّة سياسيّة حقيقيّة طيلة تصديرها لنا منذ الإحتلال الأمريكي للبلاد الى اليوم، هذا إن كان للديموقراطيّة حضور في المجتمع والدولة. كما ومن الضروري جدا عدم إضفاء الديموقراطيّة على شكل النظام السياسي العراقي الحالي كونه يؤمن بصناديق الإقتراع، كون صناديق الإقتراع لوحدها ليست دليلا على ديموقراطيّة نظام ما. فهناك الكثير من الأنظمة وتحت ظروف سياسيّة معيّنة تذهب الى صناديق الإقتراع لتأكيد شرعيّتها، وهذا ما ذهب اليه النظام البعثي وهو يؤسس ما يسمّى بالمجلس الوطني عام 1970، ولم يذهب العراقيّون الى صناديق الإقتراع لإنتخاب “مندوبيهم” الّا في العام 1980 ، أي بعد تولّي الدكتاتور صدام حسين السلطة. ومن أهم قرارات المجلس الذي تغيّر إسمه الى مجلس النوّاب العراقي بعدها هو توصيّة أعضاءه بالإجماع على تولّي الدكتاتور السلطة مدى الحياة … !!
إذا أعتبرنا ومن خلال التجربة القاسيّة التي مرّ بها وطننا وشعبنا ، والمحن اللذان مرّا بهما خلال العهد الدكتاتوري يعود لإفتقارنا لديموقراطيّة حقيقيّة، وأنّ النظام البعثي هو المسؤول عن جميع الكوارث والأزمات التي مرّ بها العراق نتيجة حروب الدكتاتور العبثية والحصار الظالم على شعبنا، فإننا بالحقيقة ننظر الى النصف الخالي من الكأس فقط. أمّا النصف الآخر من الكأس وهو الأهم والمملوء فهو تجاهلنا من أنّ الدكتاتور ونظامه كان لهما عمقا شعبيّا لدى قطّاعات لا بأس بها من شعبنا، سواء كان هذا العمق عن قناعة أو عن خوف من سطوة السلطة وبشاعة جرائمها. كما لا يجب أن نغفل إصطفاف الكثير من المثقفين العراقيين والعرب، الى جانب السلطة الدكتاتورية وتزيين وجهها القبيح، وعلى الضد من مصالح شعبنا وتطلعاته للعيش بأمان وكرامة.
إذا نظرنا الى العراق اليوم وهو يمرّ بأزمة سياسيّة هي إمتداد لأزماته السياسيّة منذ إعتماد “الديموقراطيّة” التي أنتجت نظام المحاصصة الطائفيّة، وأعتبرناها أي “الديموقراطيّة” مسؤولة عن كل الجرائم السياسيّة والإجتماعية والإقتصاديّة التي حصلت وتحصل لليوم، فأننا بالحقيقة ننظر الى الجزء الخالي من الكأس، أمّا الجزء الآخر من الكأس وهو الأهم والمملوء فهو تجاهلنا للعمق الشعبي لأحزاب المحاصصّة الطائفيّة القومية. هنا قد يقول البعض بخطأ هذا الإستنتاج وقد يكون على حقّ، الّا أنّ من حقنا أن يُثبت لنا هذا البعض سبب حصول نفس القوى السياسيّة المسؤولة عن دمار البلد على أصوات الناخبين العراقيين وهم يذهبون الى صناديق الإقتراع كل مرّة؟ سيقال أنّ القانون الإنتخابي غير عادل، هذا صحيح جدا. وأنّ المفوضيّة المستقلّة للإنتخابات غير مستقلّة وغير نزيهة، هذا صحيح جدا. وأن المال السياسي يستخدم لشراء ذمم الناس، وهذا لا ريب فيه. وأنّ المحكمة الإتحاديّة تتحرك وفق أجندات حزبية، وهذا ما لا شكّ فيه. وأنّ للسلاح والفتاوى الدينية دوراً في توجيه الناخبين، وهذا ما لا يختلف عليه إثنان. كل ما ذكرناه أعلاه تعتبر وسائل أو آليات للديموقراطيّة، أمّا العناصر الأساسيّة للديموقراطيّة والتي نفتقدها بالعراق، فهي غياب حريّة التعبير من خلال غياب أو تقنين الحريات الأساسية، وتغييب أو تقنين المشاركة السياسيّة لأحزاب وحركات من خارج منظومة أحزاب المحاصصة الطائفيّة القومية.
عهد الدكتاتورية كانت السلطة بيد البعث ولم تكن هناك قوى سياسيّة داخليّة قادرة على التغيير، لا من خلال الآليات الديموقراطية لعدم إيمان السلطة بها ولا من خلال إستخدام وسائل العنف، لقوّة السلطة وأجهزتها القمعيّة وأذرعها المسلّحة كالجيش والشرطة وفدائيي صدام والجيش الشعبي. ويبدو اليوم أنّ التاريخ يكرر تجربة النظام البعثي من جديد، فالقوى السياسيّة غير المؤمنة بنظام المحاصصة الطائفية القومية، غير قادرة على التغيير من خلال صناديق الإقتراع، لعدم توفر العناصر الأساسيّة للديموقراطية أي حريّة التعبير وإستخدامها في توسيع قواعدها الجماهيرية، وبالتالي رفض القوى المهيمنة على مقاليد السلطة سنّ قوانين تسمح في أن يكون العراق ديموقراطياً بحق. وهي ليست قادرة على التغيير من خلال إستخدام وسائل العنف لقوّة السلطة وأذرعها المسلّحة كالجيش والشرطة الإتحادية وقوات حفظ النظام والحشد الشعبي والميليشيات المسلّحة والعصابات والمافيات التي تديرها الأحزاب النافذة أيضاً. ولا عجب في ذلك، فالبعث وأحزاب المحاصصة وجميع الأحزاب والحركات السياسية العراقية هي نتاج مجتمعنا الغارق بالصراعات الطائفية والقومية.
الصراع السياسي الأخير بالعراق كان أحد أطرافه التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر وهو رجل دين، ويقال أنّ السيستاني هو من هدّأ الموقف بطلبه من الصدر بإصدار أوامره لأنصاره بالعودة الى بيوتهم، والسيستاني رجل دين أيضاً. وهناك من يثمّن مواقف الطرفين لنزع فتيل الأزمة وتهدئة الشارع، وهذا يعني أنّ لرجل الدين في العراق دوراً أكبر من المشاركة السياسية لتعزيز الديموقراطية وسيادة دولة القانون. فمجلس النواب العراقي “المنتخب” ورئاسة الوزراء ومعها الجمهوريّة، لا مكان لهم في تهدئة الشارع عند إحتقانه. أنّ تثمين مواقف رجال الدين في مواقف سياسية كما في المشهد السياسي الأخير من قبل أحزاب ومنظمات ومثقفين وإن كان فعلا لنزع فتيل الأزمة وتهدئة الشارع، يعتبر تنازلاً طوعياً من هذه الأحزاب والحركات عن الديموقراطيّة ونتائجه كارثيّة على المدى البعيد، هذا إن كانت هناك ديموقراطية فعلا بالعراق …..
منح رجال الدين الحق في حسم الأمور السياسيّة اليوم، يعني تفرّدهم بجميع القرارات السياسيّة بالبلاد مستقبلا، وهنا تكمن الخطورة التي على الأحزاب والحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني المؤمنة فعلا ببناء نظام ديموقراطي حقيقي الإنتباه لها، خصوصا وأنّ العراق تحت الوصاية الإيرانيّة وتدار شؤونه من طهران….