كيف الخروج من المُعضِلة-22 والأزمة السياسية الدستورية في العراق؟
بقلم الدكتور علي جاسم العبادي
وضع الأزمة السياسية في العراق الآن
أَوعَز مقتدى الصدر، زعيم “التيار الصدري”، إلى أمين عام “الكتلة الصدرية”، الدكتور نصّار زغير الربيعي، بتقديم دعوى قضائية إلى المحكمة الٱتحادية، في 14 آب/أغسطس 2022، ضد الرئاسات الثلاث يطالب فيها بحلّ مجلس النوّاب، وإلزام رئيس الجمهورية بتحديد موعد لِٱنتخابات تشريعية عامة مُبكِّرة. وقد نشر المكتب الخاص لزعيم التيار الصدري صورة نسخة من الدعوى القضائية. وفي يوم 17 آب/أغسطس 2022، أصدرت المحكمة الٱتحادية العليا قرارًا بتأجيل البتّ بدعوى حلّ مجلس النوّاب إلى يوم 30 آب/أغسطس 2022.
في البداية، يبدو أن مقتدى الصدر شعر بالثقة العالية أنه يستطيع تشكيل الحكومة ضمن كتلة “إنقاذ الوطن”، بعدما حصل على 73 نائبًا لمجلس النوّاب الجديد بعد ظهور نتائج الٱنتخابات العامة في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2021. مقابل ذلك، دخلت كتلة “الإطار التنسيقي” بزعامة نوري المالكي في حالة إنذار قصوى لقناعتها بأن مقتدى الصدر سيقوم بتهميشها تمامًا وإقصائها من مناصب الحكومة، خصوصًا بعدما أعلن الصدر مرات عديدة عن عزمه بتشكيل حكومة “أغلبية وطنية”، بينما أصَرّ المالكي على حكومة “محاصصة طائفية” كالسابق. وربّما كان ذلك أحد الأسباب التي دعت نوري المالكي إلى التآمر مع بقية القوى الإيرانية للإطاحة بالصدر، وهو ما علِمناه من “تسريبات المالكي” التي نشرها الإعلامي العراقي علي فاضل يوم 13 تموز/يوليو 2022 والأيام اللاحقة.
وعندما يَئِسَ الصدر من القضاء العراقي المنحاز بتركيبته الطائفية الحزبية لصالح المالكي وصل إلى طريق مسدود، ولم يبقَ أمامه إلا الشارع وتنظيم وتجنيد الأنصار المستقلّين الجُدُد من خارج الأحزاب والتكتلات السياسية. ولا يوجد أدنى شك بأن العلاقة بين مقتدى الصدر ونوري المالكي وصلت إلى مستوى “كسر العظم” بعد نشر “تسريبات المالكي”، وأن محاولات المصالحة بينهما لا جدوى منها. وبناءً على دعوة من مصطفى الكاظمي، رئيس مجلس الوزراء، يوم الأربعاء 17 آب/أغسطس 2022، ٱجتمعت الرئاسات الثلاثة مع قادة القوى السياسية الموالية لإيران في العراق، وبحضور ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، “جينين بلاسخارت”، لمناقشة التطورات السياسية في البلاد، بينما قاطعها التيار الصدري. وفي اليوم التالي، الخميس 18 آب/أغسطس 2022، وجّه مقتدى الصدر ٱنتقادًا لاذعًا لمناقشات الٱجتماع حيث وصفها على لسان الناطق الرسمي، محمد صالح العراقي، بأنها “لا تُسمِن ولا تُغنِي من جُوع”. وأضاف “إنّ جلستكم السرية لا تهمّنا بشيء”.
أعقد من “البيضة والدجاجة”
وبسبب عمق الخلافات السياسية بين الفرقاء وعجزهم عن حسم الأمور فقد أخفق مجلس النوّاب ثلاث مرات في ٱنتخاب رئيس للجمهورية، متجاوزًا بذلك كل المُهَل التي ينص عليها الدستور، ولكن بدون أية عقوبات ضد أعضائه. وحسب فهمهم للنصوص الدستورية، ومن أجل تخطي الٱنسداد السياسي، فقد ٱقترح البعض حلّ مجلس النوّاب وتنظيم ٱنتخابات جديدة، ولكن لا يمكن حلّ المجلس النيابي إلا بقرار من مجلس النوّاب نفسه، وهذا المجلس لا ينعقد إلا بحضور أكثر من ثُلُثَي الأعضاء، ولكن “الإطار التنسيقي” بقيادة نوري المالكي منع الٱنعقاد بعدما أحرز أكثر من الثُلُث بقليل. من ناحية أخرى، طالب مقتدى الصدر بتغيير الدستور وقانون الٱنتخابات والمفوضية العليا للٱنتخابات، قبل أن يدعو إلى ٱنتخابات مبكرة جديدة. ولكي يحدث ذلك لا بد من ٱنعقاد مجلس النوّاب أوّلًا ليتولّى مهمة تغيير الدستور وقوانين الٱنتخابات والأحزاب، إلخ.
الإسفنج المُخرَّم هو عنوان الدستور العراقي لسنة 2005
ومن العيوب الخطيرة في الدستور العراقي الحالي أن المُدَدَ الدستورية هي تنظيمية فقط وليست جزائية، أي أن مخالفة إجراءات ٱنعقاد النِّصاب وٱختيار رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النوّاب ورئيس الوزراء لا تترتب عليها سقوط الحقوق والٱمتيازات الواردة في تلك الإجراءات. والمحكمة الٱتحادية العليا لم تحدّد عدد المُدَد الزمنية أو الحد الأقصى. وذلك يعني من الناحية الدستورية أن قادة الأحزاب والكتل السياسية يمكنهم الٱستمرار بالمخالفات إلى ما لا نهاية حتى يُطأطِئ الطرف المقابل رأسه ويتنازل مقابل تنازل الطرف الأول عن بعض الغنائم الٱنتخابية. وهذا هو جوهر المحاصصة الطائفية التي تأسّس عليها الدستور الرديء والقوانين العراقية الظالمة في عهد الٱحتلال الأمريكي البريطاني منذ سنة 2003 حتى الآن.
مع ذلك، حتّى لو أخذنا بالدستور العراقي الرديء لسنة 2005 على عِلّاتِه فنحن نعتقد بوجود خطأٍ في تفسير المادة (64، أوّلًا) من الدستور. إذ نلاحظ أن تركيز خبراء القانون والقضاء مُنصَبٌّ على ضرورة موافقة مجلس النوّاب في الحالتين، حسب تفسيرهم للنصّ التالي:
(أوّلًا: يُحَلُّ مجلسُ النوّاب بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بناءً على طلبٍ من ثُلُثِ أعضائه، أو طلبٍ من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية، ولا يجوز حل المجلس في أثناء مدة ٱستجواب رئيس مجلس الوزراء). ٱِنتهى النص الأصلي.
هنا، نعيد كتابة الفقرة (أوّلًا) بطريقة إملائية وصياغة مختلفة فقط لتوضيح المعنى المطلوب كما يلي:
(يُحَلُّ مجلسُ النوّاب بإحدى طريقتَين:
أ. بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه الحاضرين؛ بناءً على طلبٍ من ثُلُثِ أعضائه الحاضرين.
ب. بِطلبٍ من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية، دون الرجوع إلى مجلس النوّاب).
ونَرى أن الجملة الثانية بعد حرف العطف “أو”؛ وهي “طلب من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية”، لا تحتاج إلى ٱنعقاد مجلس النوّاب أو موافقته إطلاقًا، وإلّا فإن ذكرَها عبثي أساسًا.
وفيما يتعلّق بتفسير المادة الدستورية (70، أوّلًا) التي تنصّ على:
(أوّلًا: يَنتخِب مجلس النوّاب من بين المرشَّحين رئيسًا للجمهورية بأغلبية ثُلُثَي عدد أعضائه)، نرى أن تفسيرها يكون بإضافة كلمة “الحاضرين” في نهاية الجملة، فتكون (بأغلبية ثُلُثَي عددِ أعضائه الحاضرين)، أي الموجودين فعلًا في مقاعد مجلس النوّاب. وبما أن التيار الصدري سحب أعضاءه كُلّهم (73 نائبًا) ٱحتجاجًا على مماطلة “الإطار التنسيقي” في ٱنعقاد المجلس، فإمّا أن يعود هؤلاء إلى المجلس وينعقد النِّصاب بسرعة بأيّ عدد من الحاضرين، بحيث يُصوِّت الثُلُثَين منهم على ٱختيار رئيس الجمهورية، أو يتمّ حلّ المجلس والإعداد لِٱنتخابات جديدة، كما ذكرنا في المناقشة أعلاه للمادة الدستورية (64، أوّلًا). في الحالة الثانية، أي حلّ المجلس، ونظرًا لغياب مجلس النوّاب فإن القوانين الخاصة بالٱنتخابات لن تتغير وإنما يحتاج تغييرها إلى قرارات رئاسية صادرة عن رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، ورئيس الجمهورية الحالي، برهم صالح، وتفسيرات متَّسقة معهما صادرة عن المحكمة الٱتحادية العليا. ولِمَن يقول، لا يوجد نص دستوري على هذا الإجراء، نقول، نعم، وكذلك لا توجد نصوص دستورية على إباحة المحاصصة الطائفية ولا إباحة النهب المنظَّم لثروات الشعب العراقي ولا الفساد العام ولا الإرهاب والتعذيب ولا التبعية لدول أجنبية ولا التخلف والفقر والمرض والأمية. فهذا هو الدستور الرديء الذي وضعه عملاء مؤتمر لندن (لِسَنة 2002) بمساعدة الإسرائيلي الأمريكي، نوح فيلدمان، وبإشراف الحاكم الأمريكي المطلق ومجرم الحرب “باول بريمر”، وبتغييب الشعب العراقي تمامًا وبطريقة مُحكَمة، ثم تمريره على العالم سنة 2005. ومن بين أعضاء لجنة كتابة الدستور، نوري المالكي ومسعود البرزاني وجلال الطالباني وعبد العزيز الحكيم.
إضافة إلى ذلك، أكّد خبراء القانون الدستوري والقضاة، وحتّى رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان نفسه، أن المحكمة الٱتحادية العليا أخطأت وتراجعت عن قرارات تفسيرية كثيرة للدستور أصدرتْها في مناسبات متنوعة تتعلق بالسوابق القضائية والحصانة النيابية (لعضو مجلس النوّاب) والأغلبية البسيطة والأغلبية المطلقة والكتلة النيابية الأكثر عددًا. ويؤكّد الباحث السياسي العراقي باسل حسين على إمكانية حلّ مجلس النوّاب بدون أن يحلّ نفسه، موضّحًا أنّه “على سبيل المثال، تُقرِّر المحكمة أنّ مجلس النوّاب فَقدَ مشروعيته الدستورية، بتجاوزه المُدَد الدستورية، وبهذا فإنّ مَن فَقدَ المشروعية الدستورية هو بحكم العدم ولا يستطيع الٱستمرار بعمله”. ولكن، لِأنّ المحكمة الٱتحادية العليا خاضعة عمليًا للتيار الإيراني المتمثِّل في نوري المالكي وعمار الحكيم وهادي العامري وقيس الخزعلي، فلا نتوقع منها قرارًا صائبًا لكي لا تخذل أولياء نعمتها، وإنّما نتوقع منها مصيبة جديدة.
ما علاقة “المعضلة-22” بالأزمة الدستورية في العراق؟
لقد أَوصَل الحُكّام الفاسدون أنفسهم بأرجلهم إلى “المُعضِلة-22″، وأخفقوا في تشكيل الحكومة على مدى 10 أشهر يتقاضون خلالها رواتب ممتازة كاملة. وللتوضيح السريع نقول إن “المُعضِلة-22” (Catch-22) هي رواية أمريكية ساخرة للمؤلف “جوزيف هيلر” (Joseph Heller)، صدرت عام 1961 وتحوّلت إلى فلم سينمائي طريف عام 1970، وتتناول جانبًا من مآسي الحرب العالمية الثانية بطريقة لاذعة غير معهودة. ويمكن تلخيصها بتجريد رمزي شديد كما يلي: لِكَي تَتخلَّص من الورطة “أ” تحتاج أوّلًا أن تتخلص من الورطة “ب“، ولِكَي تفلت من الورطة “ب” لا بد أن تهرب من الورطة “أ” أوّلًا. وبذلك تبقى مِحنة الإنسان مُدَوَّرة بلا نهاية، ما لَم تنتهِ أسباب المحنة ذاتها، وهي نهاية الحرب في هذه الحالة.
لذا فإن الأمر في العراق يحتاج إلى حَلٍّ جذري، وليس إلى حلول ترقيعية وتجميلية. وكما يقول المثل الإنكليزي من الأصل الألماني: “الخنزير خنزير حتى لو وضعتَ على وجهه أحمر الشفاه”.
الحَلُّ الجذري لكل الأزمات السياسية وأسلحة الفساد الشامل
بِغَضِّ النظر عن مآل ما يُسمّى “الأزمة السياسية الدستورية” في العراق وقرارات المحكمة الٱتحادية العليا في نهاية شهر آب/أغسطس 2022، فنحن نرى أن الحلّ الواقعي الأفضل على المدى القريب والبعيد هو الحلّ الشعبي الثوري الذي يُطيح بالنظام الفاسد في الدولة الفاشلة. حيث يتولّى الشعب العراقي بنفسه الآن وضع فقرات الدستور والقوانين الخاصة بالٱنتخابات والأحزاب والرقابة المتبادلة والعقوبات الرادعة ومناقشتها علنًا بكافة الوسائل المتاحة، ويُنهِي كل مظاهر الٱحتلال والعصابات الحزبية المسلحة، ويستعيد كافة الأموال المنهوبة منه على مدى عشرين سنة من الٱحتلال وعملاء الٱحتلال. ومِن الناحية العملية، نقول صراحةً، إن مقتدى الصدر والتيّار الصدري غير مؤهَّل لهذا الدور القيادي الكبير لأنه جزء من المحاصصة الطائفية والفساد الإداري والجرائم العظمى، ولأنه يفتقر إلى المشروع الوطني السياسي المُوَحَّد للشعب العراقي، ولأنه يعتمد بالدرجة الأولى على ٱِسم عائلته للترويج لنفسه، ولأنه متقلِّب المزاج ولا يمكن الوثوق به. وإن أفضل شيء يقوم به مقتدى الصدر هو أن يَنْضَمَّ إلى قوى الثورة الشعبية القادمة بصفته الشخصية وليست القيادية، وبدون قيدٍ أو شرطٍ.
الدكتور علي جاسم العبادي
20 آب/أغسطس 2022