ناهدة الرمّاح: الأيقونة التي أعطت للمسرح عيونها
د. عبد الحسين شعبان
الدنيا مسرح كبير”
وليم شكسبير
رحلت الفنانة الكبيرة ناهدة الرمّاح (22 آذار / مارس 2017) بعد رحيل الفنان الكبير يوسف العاني (10 أكتوبر / تشرين الأول 2016) بخمسة أشهر وبضعة أيام. كنّا حينها في جلسة استذكار لها عائليًا ومع بعض الأصدقاء، حيث كان يصادف عيد ميلادي، واعتادت ناهدة الرمّاح على مدى يزيد عن ثلاثة عقود ونصف من الزمن أن تبادر للاتصال الهاتفي أو إرسال رسالة صوتية أو باقة ورد “ورقية” بالبريد، إذا لم يكم بإمكانها الحضور.وأتذكّر أن مثل هذا الحضور البهي كان له أكثر من معنى وأعمق من دلالة في العام 2004، حين كانت والدتي نجاة حمّود شعبان قد وصلت إلى لندن قبل فترة وجيزة من هذا التاريخ، وكان هذا أول احتفال لها بمناسبة عزيزة عليها، وكم كانت المفاجأة كبيرة حين رنّ جرس باب المنزل وإذا بناهدة الرمّاح تمطرنا بسلسلة هلاهل عراقية بصوتها العالي، وحاولت والدتي أن تجاريها دون أن تعرف هويّة القادمة من تكون وقتها، لكنّها قدّرت أنها صديقة حميمة.
وقد أضفتْ تلك اللفتة الجميلة حرارة كبيرة على المناسبة، علمًا بأن ناهدة الرمّاح كانت تعرف ما تعرّضت له العائلة في بغداد طيلة عقدين ونيّف من الزمن، وانقطاع الصلة بيننا وما سبّبته من كدمات روحية وآلام نفسية، وكانت هي في فترة أواسط الثمانينيات صلة الوصل مع العائلة باعتبارها “معلمة” ابنة أختي سلمى (فرح)، وكانت تقوم بالاتصال بين فترة وأخرى من لندن لتبلغني حيث أكون بآخر الأخبار. اليوم أتذكر ذلك ويحزّ في نفسي توديع صديقة حميمة وعزيزة وفنانة رائدة رحلت ويمتلئ حلقها مرارة بسبب الجحود والزيف والتنكّر، وهي التي أوقفت حياتها كلّها للمسرح والجمال وحبّ الناس.
والدتي و“شربت إنكليز“
تعرّفت على ناهدة الرمّاح لأول مرّة في أواخر العام 1967 حين كنت ما أزال طالبًا في الصف المنتهي في جامعة بغداد، وكنت قد شاهدت لها عددًا من المسرحيات وكان آخرها مسرحية “النخلة والجيران” للروائي الكبير غائب طعمة فرمان، الذي سألته في العام 1973 حين كنّا نحضر مهرجان توركي (بريطانيا) لجمعية الطلبة العراقيين في المملكة المتحدة، أي الممثلات والممثلين عبّر عن روح نصّك وأقصد في مسرحيته العتيدة “النخلة والجيران”؟ فكان جوابه على الفور ودون تردّد أو لحظة انتظار: إنها الرائدة ناهدة الرمّاح التي شعرتُ أنها معجونة بالنص ومدافة في حروفه، وكلّ ما كانت تنطق به كان يعبّر عنّي وهو ما وضعته ضمن خيالي الروائي، وتمكّنت ناهدة من تجسيده فعليًا على خشبة المسرح.
وكانت والدتي عند كلّ زيارة لناهدة الرماح إلى منزلنا في لندن تطلب منها بإلحاح تمثيل مشهد “شربت إنكليز” وكانت تضيف ” رديفة زوجة حمّادي العربنجي” كما تسمّي المقطع الخاص من مسرحية النخلة والجيران، ولم تكن ناهدة تتردّد بالاستجابة لطلبها، علمًا بأن والدتي عرفت لأول مرّة في لندن أن ناهدة الرمّاح ليست المعلمة الحقيقية لفرح كما زعمت وزعمنا، بل أننا استعنا بها وبهذه الصيغة كي لا يصاب الأهل بالذعر من حديث تلفوني من شخص يجهلونه، ومثّلت ناهدة الرمّاح هذا الدور أحسن تمثيل فتحدّثت عن اللغة العربية والرياضيات والدرجات الممتازة التي حصلت عليها فرح، واعتقدت والدتي حينها أنها فعلًا المعلّمة الحقيقية واطمأنت إلى التعاطي معها وإن ظلّت حذرة. وحين عرفت والدتي أن ناهدة الرمّاح هي من كان يقوم بدور معلمة فرح باتصالاتها من لندن ازداد حبّها لها، بل وتعلّقها بها، وكانت حين تأتي إلى منزلنا في لندن تبقى عدّة أيام وتستمتع الوالدة بوجودها، إضافة إلى حضور شقيقتي سلمى التي كانت قد تعرّفت عليها في الشام.
الريادة والطليعة
تعتبر ناهدة الرمّاح بحق إحدى أبرز رائدات المسرح العراقي الطليعي وقد انضمّت إلى فرقة المسرح الفني الحديث بعد أزادوهي صموئيل، وكانت خطواتها الاولى هي مشاركتها في تمثيل فيلم “من المسؤول؟” في العام 1956، الذي شاهدته مع عمي ضياء وعمي شوقي شعبان في العام 1957 في سينما بالصالحية. ولم يكن انتماؤها إلى الفرقة مجرد رغبة لديها في التمثيل، بل أدركت بوعيها الجنيني الأول ما للمسرح من تأثير كوسيلة للتعبير، خصوصًا لما تتمتّع به فرقة المسرح الفني الحديث من سمعة وتوجّه وريادة، وبرزت في دور المرأة الخرساء في مسرحية “الرجل الذي تزوّج امرأة خرساء” العام 1957، وهو العمل الأول الذي أخرجه سامي عبد الحميد وتمّ تمثيله في قاعة “الملك فيصل” التي سميّت لاحقًا “قاعة الشعب”.
زاملت ناهدة عددًا من الرواد الكبار مثل: ابراهيم جلال ويوسف العاني وسامي عبد الحميد وقاسم محمد وخليل شوقي وزينب ومجيد العزاوي وغيرهم. وتمتّعت بمرونة كبيرة في اختيار أدوارها، ولم تتوقّف عند لون واحد، بل حاولت أن تجرّب العديد من الأدوار ذات الأبعاد المركّبة، وهو ما منحها مكانة كبيرة على خريطة المسرح العراقي وحظيت بحب خاص في قلوب الجمهور.
وقد مثّلت عددًا من المسرحيات التي خلّدت اسمها مثل: مسرحية “الرجل الذي صار كلبًا” للكاتب الأرجنتيني أزفالدو دراغون Osvaldo Dragún والتي أخرجها قاسم محمد، ومسرحية “بغداد الأزل بين الجد والهزل” للمخرج قاسم محمد أيضًا، ومسرحية “الخرابة” ليوسف العاني وأخرجها قاسم محمد وسامي عبد الحميد، ومسرحية “النخلة والجيران” للروائي غائب طعمة فرمان وإخراج قاسم محمد، ومسرحية “الشريعة” ليوسف العاني وإخراج قاسم محمد، ومسرحية “نفوس” (لمكسيم غوركي) إعداد وإخراج قاسم محمد، ومسرحية “القربان” للروائي غائب طعمة فرمان من إعداد ياسين النصير وإخراج فاروق فياض.
ومثلّت كذلك مع فرقة المسرح الفني الحديث “أني أمك يا شاكر..” و”الخال فانيا” للروائي تشيخوف وإخراج عبد الواحد طه و”مسألة شرف” تأليف وإخراج عبد الجبار ولي. ومن أفلامها : من المسؤول؟ وسعيد أفندي 1957 والظامئون 1973 (مقتبسة من رواية عبد الرزاق المطلبي وإخراج محمد شكري جميل) ويوم آخر 1974.
وعلى الرغم من الخبرة الكبيرة التي اكتسبتها ناهدة الرمّاح من عملها المسرحي والجرأة الأدبية والقدرة على مواجهة الجمهور والبداهة التي تمتاز بها، فضلًا عن الحيوية والحضور الآسر، إلّا أنها كما أخبرتني كان يتملّكها نوعاً من الخوف أقرب إلى الرهبة في مقابلة الجمهور، وقالت أنها تشعر وكأنها تواجه الجمهور لأوّل مرّة حتى تكاد ترتجف، وهو ما أصابها عند أوّل مواجهة للجمهور. وبالطبع فذلك شعور بالمسؤولية من جانبها واحترامًا لجمهورها ولنفسها أيضًا، خصوصًا وقد توثّقت تلك العلاقة الحميمة بينها وبين جمهورها.
ولا غرابة في ذلك حتى وإن كانت نجمةً لامعةً يشار إليها بالبنان، فقد كان محمود درويش هو الآخر الشاعر النجم والخطيب المفوّه وصاحب الكلمة السحرية يشعر بنوع من القلق قبل أن يعتلي المنصّة ليقرأ قصائده ويحاول أن يختلي بنفسه أحيانًا ليغسل وجهه فينطلق كالسهم، وما أن يقابل الجمهور حتى تمتلئ القاعة بالتصفيق الحار، وهكذا تتبدّد آخر ذرّات الإرتباك.
تأثّر جيل ناهدة الرماح بمقولة بقينا نردّدها “أعطني خبزًا ومسرحًا أعطيك شعبًا مثقّفًا” وهي منسوبة إلى لينين. والمسرح باعتباره أبو الفنون، لأن المسرحية مبنية على الرواية، هذا الفن القصصي كمرآة للحياة، بما فيها من صراع وجدل وخير وشر وجمال وقبح وكفاح وخضوع، تدخل فيه الموسيقى وأحيانًا الغناء والرقص في لوحة ميلودرامية ممزوجة بحبكة فريدة.
الباشا
توثّقت علاقتي مع ناهدة الرمّاح في بيروت والشام ولندن فيما بعد، واستمرّت حتّى آخر يوم في حياتها، وحيثما توجّهت أو ذهبت كانت على اتصال مستمر بي، وحين قرّرت المشاركة في عمل مسرحي بعنوان “الباشا” مع الفنان الكبير سامي قفطان ومن إخراج فارس طعمة التميمي، أبلغتني بتوجّهها إلى الشام وكذلك كنت أتابع زياراتها إلى بغداد ومطالباتها باستعادة حقوقها التقاعدية بعد العام 2003 ومنزلها المصادر، وظلّت تطلعني على ما هو جديد والعقبات والعراقيل التي وقفت في طريقها والجحود والصدود الذي لاقته من البعض ممن أصبح متنفّذًا في دولة ما بعد الاحتلال.
وكان الصديق المحامي باسم البياتي هو من يتابع قضاياها ويطلعني هو الآخر على ما يقوم به. وكانت قد عبّرت عن خيبتها بالوعود التي كان المسؤولون يطلقونها، بعد أن قضت 7 شهور في بغداد على أمل استعادة حقوقها، ولكن دون جدوى. وقالت أن ما يصبّرها هو حب الجمهور لها الذي لم تمح السنين من ذاكرته أدوارها كما قالت لجريدة الزمان.
“القربان” و فقدان البصر
يوم فقدت ناهدة الرمّاح بصرها وهي على خشبة المسرح ضجّت بغداد كلّها متعاطفة مع فنّانتها الكبيرة، بل انشغل العراق كلّه بها وكانت تردّد قبل انطفاء بصرها “صرت فانوس الكل اللّي يعرسون”، وحين عادت من لندن بعد إجراء عملية لعينيها خرج المئات من الناس لاستقبالها في مطار بغداد وحملوها على الأكتاف، وقالت في حفل التكريم المتواضع الذي أقمته لها في لندن: حين أبصرت الجمهور الذي جاء لاستقبالي نسيت الظلام الذي عشته، وأردفت: أن حب الناس هو النور.
وربما لا يعرف كثيرون ما فعلته الغربة اللّعينة والمنفى الاضطراري لاحقًا بناهدة الرمّاح، خصوصًا وقد ازداد شعورها بالمرارة والوحدة وعمّق هذا الشعور من وجعها وعزلتها، فضلًا عن آلامها المبرحة بسبب ابتعادها عن خشبة المسرح تزامنًا مع ضعف بصرها ، فما بالك حين عانت من الغبن والاجحاف، وأستطيع القول أن هذا الشعور كان يمتزج بالخيبة والخذلان لدرجة الخديعة والغدر.
وأكثر ما كان يوجعها في المنافي الباردة والحزينة هو الإهمال وعدم التقدير، وتلك كانت شكواها المستمرّة، إضافة إلى الابتعاد عن التمثيل والعمل الابداعي، والمسرح يختلف عن بقية أنواع الفنون والآداب والكتابة، فهو عمل جماعي ويحتاج إلى مستلزمات عديدة منها المكان المخصّص، ناهيك عن تحضير قد يستمّر لشهور من ملابس وإكسسوارات وماكياج وتدريبات وبروفات، وقد يحتاج إلى موسيقى وغناء، مثلما يحتاج إلى جمهور أيضًا ، في حين أن الشاعر أو الكاتب أو الباحث أو الرسام أو النحات أو الملحّن يمكنه أن ينجز عمله الإبداعي بمفرده وفي منزله أو مع بعض المستلزمات البسيطة، على عكس العمل المسرحي والسينمائي، الذي لا يمكن إنجازه فرديًا وإنما هو عمل جماعي، وهو ما عانى بسببه جميع المبدعين المسرحيين.
وكانت ناهدة تدرك مثل هذه الفوارق و تراودها حيرة وأمل وتحاول أن تتعاطى مع ما هو ممكن وتتحمّس لمبادرة ما، لكنّها في الوقت نفسه لا تجد الوسائل الكفيلة بتحقيقها أو الاستجابة لها أحيانًا من ظروف المنافي القاسية، سواء من دولة أو وزارة ثقافة أم مؤسسة سياسية أم إعلامية، والكل يتذرّع بالأولويات، خصوصًا سبل العيش ناهيك عن شحّ الإمكانات، وهو ما عبّرت عنه في كلمة عند تنظيم فعالية تكريمية لها في منزلي بحضور نخبة من المثقّفين العراقيين والعرب، وقدّمت فيها أحد المشاهد المسرحية ورقصت وغنّت وهو ما جاءت عليه في رسالتها إلى اللجنة التحضيرية لمنحي وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان في القاهرة (العام 2003)، والمنشورة في كتاب “عبد الحسين شعبان : الحق والحرف والإنسان”، القاهرة، البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان، 2004. وكنت قد جمعتها في لقاء آخر مع الشاعر الكبير مظفّر النواب والفنّان سعدي الحديثي والموسيقي أحمد مختار في دعوة خاصة، بحضور صديقات وأصدقاء مميّزين.
وكان أكثر ما يؤلمها في السنوات الأخيرة هو الحاجة والعوز لدرجة القهر، خصوصًا في وضعها الصحّي وضعف البصر الذي أخذ يتراجع بسرعة كبيرة لدرجة أقرب إلى العمى، وهو شعور بالعجز لفقدان القدرة على القيام بمتطلّبات الحياة اليومية بصورة مستقلّة ودون الحاجة إلى مساعدة أحد.
فقدت ناهدة الرمّاح بصرها وهي على خشبة المسرح في مسرحية “القربان” تؤدي دور زنوبة (10 كانون الثاني / يناير 1976)، واتضح أنه تلف أصاب شبكية العين، لكنها استمرّت في تقديمها، وقبيل إغلاق الستارة كادت أن تقع فتلقّفها زملاؤها ليعلنوا خبر فقدانها المفاجئ للبصر. وحينها أوعز الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر لمعالجتها في لندن على حساب الدولة، وأرسلها بتوصية إلى السفارة العراقية التي قامت بواجبها أحسن قيام. وخضعت لعمليات عديدة لترقيع الشبكية. وعلى الرغم من تحسّن بصرها إلّا أنه سرعان ما عاد للتدهور مجدّدًا، الأمر الذي احتاج إلى علاجات طبيّة وتداخلات جراحية جديدة.
عطر الياسمين الدمشقي
في الشام كتبت رسائل عديدة إلى الحزب الشيوعي لمساعدتها في العلاج بالاتحاد السوفييتي، لكن دون جدوى. وطلبت منّي تنظيم لقاء لها بالرفيق عزيز محمد الأمين العام للحزب بعد أن كتبت رسالة شخصية له، وفعلًا استضفتهما في منزلي بدمشق. وعلى الرغم من وعود “أبو سعود” بمساعدتها، لكن الجهات السوفيتية حسبما يبدو لم ترغب في التداخل الجراحي بعد عملية لندن الكبرى وكان هذا هو الجواب الرسمي الذي أُبلغت به. وتم تقديم بعض المساعدات المادية البسيطة لها للسفر إلى لندن، علمًا بأنها كانت تتقاضى راتبًا من منظمة التحرير الفلسطينية، وكنت عند رأس كل شهر أسلّمه لها، وحتّى حين يتأخّر الراتب أحيانًا أقوم بدفعه لها إلى حين وصوله، وكانت صلتها بالحزب من خلالي، وكذلك الفنانة الكبيرة زينب، التي تم ترحيلها إلى لجنة ضمّت مصطفى محمد غريب (أبو أزاد) وساهرة القرغولي ورفيق آخر.
كانت أجواء ناهدة الدمشقية أكثر استقرارًا وانسجامًا وشعرت بشيء من الثقة والطمأنينة بعد فترة بيروت العاصفة، وكم كانت تعشق الياسمين الدمشقي وتتغنّى بعطره، وحين كتبت سرديتي عن الشام “هي التي علمتني حب الصباح” كم كانت تعتزّ بها وطلبت من أحد الأصدقاء قراءتها لها. وكانت علاقتها وطيدة مع الأخ عبد الأمير رمضان، إضافة إلى الفنانين الكبار جواد الأسدي ومنذر حلمي وقاسم حول ، وكانت على تواصل مع المخرج السوري سعد الله ونّوس والروائي عبد الرحمن منيف، وقد عرّفتني عليهما في مطلع العام 1981، وقضينا أكثر من سهرة في دمشق في منزل سعد الله ونوس في مساكن برزة، وكنّا نلتقي أحياناً في منزل طارق الدليمي في منطقة العفيف الذي عرفته عليها. وقمت بتعريفها على الفنان محمد ملص وشاهدنا سويّة الفيلم “أحلام المدينة” وكان يحضر معنا الرفيق عبد الرزاق الصافي.
وكانت قد تعرّفت على شقيقتي سلمى في الشام، وظلّت تزورها باستمرار وغالبًا ما يكون بوجودي، وأحيانًا دون وجودي لسفري. وبعد مغادرتها إلى لندن وذهابي إلى كردستان، لم نلتقِ حتّى انعقاد مؤتمر رابطة الكتاب والأدباء والفنانين الديمقراطيين العراقيين في دمشق العام 1986، وجاءت لتمثيل فرع لندن مع الصديق فايق بطّي. وكانت ناهدة قد شاركت في المناقشات التحضيرية لتأسيس فرع الرابطة في دمشق التي ضمّت أكبر عدد من المثقفين العراقيين المهاجرين، و الذي ترأسه الصديق عبد المنعم الأعسم.
حين حصلت مذبحة بشتاشان العام 1983 بحق الأنصار الشيوعيين على أيدي قوات الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، كانت ناهدة تتصل يوميًا، بل وأكثر من مرّة باليوم بشقيقتي سلمى في الشام، عسى أن تسمع خبرًا إيجابيًا، ولم تكن سلمى تعرف ما الذي حصل في اليوم الأول، وبسبب تكرار الاتصال بها أدركت أن ثمة ما تخبئه هذه الاتصالات، خصوصًا وقد عرفت بعض التفاصيل التي انتشرت مثل النار في الهشيم في الشام، وكاد القلق والانتظار أن يأكلها، إلى أن جاءها الصديق قاسم سلمان (أبو الجاسم) ليبلغها أنني من الناجين، وهو ما أبلغته لناهدة الرمّاح التي كان سخطها يزداد وكذلك قناعتها بعدم جدوى ذلك الطريق، وهو ما قالته لي صراحة حين عرفت بنيّتي التوجّه إلى كردستان.
ولا أنسى اتصالاتها المتكرّرة بأخي حيدر عند خضوعي لعملية جراحية كبرى في بيروت (2015)، وإلحاحها على الحديث معي مباشرة، وحين شعرت بالتحسن قمت أنا بطلبها لأطمئنها. فقد كانت صديقة حميمة وحنونة وإنسانة تتدفّق مشاعرها بصدق في مثل هذه اللحظات، وتعرف قيمة هذا التواصل في أوقات المرض والضعف التي يتعرّض لها الإنسان. ولا يمكنني الحديث عن ناهدة الرمّاح إلّا بتداخل الخاص بالعام والذاتي بالموضوعي، فتلك هي العلاقات الإنسانية التي يقوم البشر بتمثيل أدوارها على مسرح الحياة الكبير.
في لندن كانت تشارك أحيانًا في بعض فعاليات المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وقد انضمت إلى اللجنة العربية لإجلاء مصير منصور الكيخيا (الشخصية الليبية التي اختفت قسريًا بتعبير الأمم المتحدة في القاهرة 10 ديسمبر / كانون الأول 1993، حين كان يحضر مؤتمرًا للمنظمة العربية لحقوق الإنسان)، وكانت اللجنة تضم شخصيات مرموقة واختارت مكتبًا تنفيذيًا ضمّ إضافة إلى ناهدة الرمّاح كلّ من: مصطفى كركوتي (رئيس جمعية الصحفيين الأجانب) وفاطمة أحمد ابراهيم (نائبة سابقة ومناضلة يسارية سودانية) و د. محمد الهاشمي الحامدي (صحفي وكاتب تونسي) وعبد الحسن الأمين (صحفي لبناني – رئيس تحرير مجلة النور) و د. خلدون الشمعة (أديب وناقد سوري) ود. محمد المهدي عبد الوهاب (كاتب سوداني)، وترأسها الشاعر بلند الحيدري.
العسف
عانت ناهدة من عسف سياسي بسبب ميولها اليسارية، واعتقلت في العام 1963 في موقف خلف السدّة بغداد ، ومكثت فيه عدّة شهور، كما فصلت من عملها حيث كانت موظفة في أحد البنوك. وقد أعيدت إلى الوظيفة في العام 1968 بعد قرار إعادة المفصولين، وتم تعيينها في مصلحة السينما والمسرح، وكانت عضوًا في نقابة الفنانين منذ العام 1960 ، ويعتبر عقد السبعينيات هو العقد الذهبي بالنسبة لناهدة، حيث تبلورت شخصيّتها ونالت فيه عدّة جوائز، كما شاركت في مهرجانات وفعاليات دولية، لكنها اضطّرت إلى الرحيل في العام 1979 بسبب توتّر الوضع السياسي، وعاشت في منافي متعدّدة. وظلّ حنينها في العودة إلى المسرح جارفًا.
جدير بالذكر أن ناهدة الرّماح منذ شبابها الأول زارت العديد من السجون العراقية، سواءً سجن نقرة السلمان أم سجن بعقوبة أم سجن الكوت، وذلك لمواجهة شقيقها أو زوج أختها عبد الوهاب الرحبي، كما أن والدها كان نقيبًا لعمّال ديالى حسب ما يورد الصديق صباح المندلاوي.
سيرة لم تستكمل