ببيت شعر واحد اختصر مظفر النواب مأساة كل شاعر عربي حر اليوم ككل شعراء العراق.
اقتبست هذه البداية لمقالة أحلام مستغاني بمناسبة رحيله والتي تقول فيها أيضا:
“رحل الشاعر لكنه لا يموت”
حقا الشاعر لا يموت, رغم أنه عاش سنواته الأخيرة شبه ميّت في غربته الخليجية.
تعرفت على مظفر النواب, أول ما تعرفت, أظن, هنا في ألمانيا, عن طريق رسالة من صديقي
سامي سلمان, كتب لي فيها, بخط يديه, قصيدة مظفر النواب” يا ريحان, أو انتظرت عرسها المستحيل”
وهي قصيدة هزت وجداني, كما هزت وجدان سامي ووجدان الكثير من العراقيين, لا لكونها تتحدث عن تراجيدية الفتاة العراقية, التي تنتظر عريسها الذي لا يأتي, فقط, بل, وهذا هو تفسيري اليوم للقصيدة, تتحدث عن استحالة تحقق الحب, عموما, وليس في العراق فقط, بل في العالم كله, استحالة تحقق الحب انطولوجيا.
لاحقا, صرت الاحقه لحضور أمسياته الشعرية في أوروبا, من لندن إلى زيورخ. في لندن حدثته في غرفة صغيرة, قبل بداية الأمسية, حيث كان يتناول كأس الكونياك, عن أمكانية تنظيم أمسية شعرية له في فرانكفورت. اهتم بالأمر وطلب مني أن أكلمه ثانية بعد نهاية الأمسية. ولكني تراجعت عندما رأيت عدد المنكبين حوله, يريدون مخاطبته.
ثم شاءت الاقدار أن تحضيني بفرصة مرافقته لبضعة أيام هنا في فرانكفورت, ربما في آخر رحلة أوروبية له.
جاء إلى فرانكفورت للعلاج والاستجمام برفقة شاب سوري اسمه حازم. كان ذلك قبل عشر سنوات ربما. كان طبيب الأطفال العراقي الصديق جبار سيد فليح – رحل قبل قرابة ثلاثة أعوام – قد تكفل بترتيب مواعيد الأطباء وحجز شقة سكنية له ومرافقه. كانت الشقة قريبة من سكني وسكن الدكتور جبار أيضا. اثناء مروري على الشقة رأيته جالسا في الشرفة المطلة على الشارع. سلمت عليه وتبادلنا الحديث. وتبين أنه يعرف جد أمي خطيب الكاظمية الشيخ كاظم ال نوح وابنه محي, حيث كانا سوية في المدرسة, وهو صديقه. يقيم محي حاليا في أميركا.
دعاني للصعود إلى الشقة. توثقت العلاقة لاحقا وبدأنا نرافقه إلى المطاعم والمقاهي ونطلعه على معالم فرانكفورت. بتنا شلة صغيرة تضم مظفر النواب ورفيقه حازم وصديق آخر هو آزاد أضافة إلى جبار, ثم جاء هاشم المشاط من كولونيا لزيارته لبضعة أيام, حيث كان يعرفه من أيام سوريا. بعد قرابة أسبوعين توجه شاعرنا إلى مشفى للعلاج الطبيعي في مدينة صغيرة قريبة من فرانكفورت حيث رافقته إلى هناك للترجمة. كان يقطن هو وحازم في المشفى وانا في هوتيل.
جاء الرسام سلام الجابري (أسمه الحقيقي رحمن) خصيصا من مدينة مانهايم لرسم بورتريه للشاعر في شقته. لم يرق الرسم لمظفر النواب فترك اللوحة بعد رحيله لديّ, وهي تزيّن حاليا حائط غرفة نومي. وأتمنى أن يأتي اليوم الذي تجد فيه مكانها المناسب, ربما في إحدى المتاحف العراقية الفنية.
أقام العراقيون أمسية للشاعر في إحدى قاعات الجامعة, أٌلقيت فيها الكلمات. جاء الناس من كل حدب وصوب. اجهشت إحدى العراقيات بالبكاء عندما دخل مظفر النواب القاعة مستندا إلى يدي, وكأنها رأت في ضعفه ووهنه ما حل في العراق. حازم, رفيقه, فضل الانزواء في الخلف لعدم إثارة حساسية العراقيين كونه سوري! لا أظن أن مظفر النواب القى كلمة أو شعر في هذه الأمسية. حضوره وحده كان يكفي لجعل الأمسية حدثا استثنائيا, امتزجت فيه مشاعر الفرح والحزن.
ترددت أن اكتب عن مظفر النواب الآن. خشيت أن أبدو كمن يتشدق بحظوة مرافقته والتعرف عليه عن قرب. سألت نفسي: ما جدوى الكتابة عنه, وقد تصدى العشرات للكتابة بمناسبة رحيله, لكني قررت أخيرا الكتابة, ربما بسبب شعوري بأن من حق الناس التعرف على هذه التفاصيل, رغم بساطتها.
كيف عايشت مظفر النواب في تلك الأيام؟ وجدته انسانا دمثاً, خفيض الصوت, على عكس ما عرف عنه في امسياته الشعرية الصاخبة. لا شك أن المرض والوهن لعبا دورا في ذلك. كان يعاني من مرض الباركنسون الذي يؤدي إلى الرعشة وضعف النظر أيضا, أي صعوبة القراءة والكتابة. الغريب أنني لا أتذكر شيء من الأحاديث التي كانت تدور بيننا, واشعر بشيء من الندم لأنني لم أطرح عليه الكثير من الأسئلة التي تدور في ذهني الآن. فهناك جوانب من حياته لم يكن ليّ علما بها, منها ممارسته للرسم, لا سيّما وقد بدأت نفسي امارس الرسم قليلا في الآونة الأخيرة. ومنها أيضا اهتمامه بالفلك والعلوم الحديثة. استقيت ذلك من مقابلات متلفزة معه اطلعت عليها أخيرا بعد رحيله. لعب ذلك دورا مهما بلا شك في صقل نظرته إلى العالم وحتى مخيلته الشعرية. غير أن الظرف الذي التقيته به, أي مرضه والعلاج ووهنه وتوخي النقاهة والاستجمام لم تشجع ربما على الخوض في مواضيع معمقة. كما لعب دورا بلا شك عدم اطلاعي الحقيقي على منتجه الشعري وسيرة حياته وقصوري المعرفي عموما. عسى أن يشكل رحيله الجسدي حافزا للخوض عميقا في بحر مظفر النواب, لنكتشف الصَدَف والدُر الكامن فيه, إذ “رحل الشاعر لكنه لا يموت”.