حقوقنا..بين سراق الأمس..ولصوص اليوم
وليد عويد حسين
من تاريخ أدبنا العربي وعلى وفق ما جاء في مراجعه حول الحديث عن العصر الجاهلي وعلى وجه الخصوص حول الشعراء الصعاليك، أنهم كانوا يسرقون من الأغنياء لإطعام الفقراء والإحسان إليهم، ويتصدر هؤلاء الصعاليك عروة بن الورد العبسي، الذي يروي عنه صاحب الأغاني ((كان عروة بن الورد إذا أصابت الناس سني شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف، وكان عروة يجمع أشباه هؤلاء … في الشدّة ثم يحضر لهم الأسراب ويكنف عليهم الكنف ويكسبهم، ومن قوي منهم خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبًا، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا وذهبت السنة ألحق كل إنسانٍ بأهله وقسم له نصيبه من غنيمته… (فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى)ِ.
كان عروة ومن معه ((يؤثرون على أنفسهم وإن كان بهم خصاصة)) كانوا يشعرون بحجم المسؤولية تجاه فقرائهم ممن لا يملكون قوت يومهم، وتراهم إذا جاؤوا بما يشبع بطون الناس فرحوا بكرمهم تجاه فقراء قبائلهم، قال الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان: (( من قال أن حاتمًا أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد)). سارق بمكارم الأخلاق، خلّدت سيرته وشعره في سجل التأريخ العربي، وذلك لأنه كان صاحب رؤية لمجتمعه، وكان ذا فلسفة عميقة في حل مشاكل الحياة، وكما يروى أن عروة قرر أن يصبح صعلوكًا يسرق الغني لإطعام الفقير بعد أن فشل في إنقاذ حياة طفلة وأدتها أسرتها لفقر الحال. كم هو عالٍ هذا الإحساس بالمسؤولية وكم هو عميق في الذات البشرية التي أحست بضمير يتقد بإنسانية كبيرة مرتبطة بمنظومة من الحقوق والواجبات تجاه الغير، فهي مسؤولية لا منتهية وأنها تغادر الحسبة الذاتية صوب الآخرين، وإذا عدنا بأدراجنا إلى تاريخ العرب الأدبي نلحظ أن الصعاليك كانوا أدباءً في ثقافاتهم، كانوا ذا فهمٍ ودراية في تبويباتهم الفقهية للسرقات، يروي القاضي التنوخي أن سارقًا يدعى إبن يسار سُئل ذات مرة عن الأسباب التي ألجأته أن يمتهن هذا العمل- أي السرقة- فأجاب – بما لا يستطع سراق المال العام اليوم في البلاد أن يجيبوا عنه – قائلًا: (( قرأت في كتاب الجاحظ عن اللصوص أن من أسباب ظهورهم في المجتمعات عدم إخراج التجار لزكاة أموالهم، فصارت أموالهم مستهلكة… واللصوص فقراء إليها… فإذا أخذوا أموالهم كان ذلك مباحًا لهم، لأن عين المال مستهلكة بالزكاة)) وبصرف النظر عما يتعلق بهذا التبويب من كونه مخالفًا للثوابت، إلا أننا أردنا تبيان علوِّ كعب سرّاق الأمس من حيث اطلاعهم وتأويلهم وتبويباتهم الفقهية، تأويلًا ينم عن دراية ثقافية للكتب، لا سيما وهم شعراء وأدباء بنفس الوقت، فضلًا عن أنهم كانوا يسرقون بقدر الحاجة الملحة لفقرهم وسدّ حاجتهم أو حاجة فقراء قبائلهم.
فنلحظ مما سبق أن منهم – سرّاق الأمس – ذا إحساس بالمسؤولية وذا ثقافة وأدب، كانوا شعراء خُلّدت أشعارهم وسيرهم على مرّ العصور، رفع الله تعالى قدرهم الدنيوي بتخليد ذكراهم بالرغم من أنهم سرّاق، سرّاق برداء الشرف والإحساس والضمير، لا لصوص برداء الجشع والجهل ، فلو قارنا بين سرّاق الأمس ولصوص اليوم ممن آلت إليهم بعض الأمور التي تتيح لهم التحكم ببعض حقوق الغير من الناس، نلحظ بما لا يقبل الشك أو الانتظار في إطلاق الحكم – غير جزاف- أنهم يسرقون من الفقير ليزداد فقرًا، ويرتوون على حليب طفلٍ لم يشبع من ثدي أمه التي أنهكها الفقر، ومما يزيد الطين بلة أن لصوص اليوم ليسوا كسراق الأمس من حيث أنهم لا يملكون درهمًا أو دينارًا، بل هم ممن يدخرون ويكتنزون المال، لصوص اليوم امتهنوا السرقة بحرفية أعجزت الشيطان عن القيام بها وأبهرته (( صفق لها إبليس مندهشًا)) للحد الذي قال فيه إبليس معتذرًا لهم (( ما عاد لي دور هنا … دوري أنا أنتم ستلعبونه))، فقد تجاوزا الأخلاق والقيم، وتعدوا على حرمة المال العام الذي هو أشد حرمة من غيره، لأن المال العام تتعلق به حقوق كثيرة، وبسرقاتهم لا يبالون غير مكترثين أن النار أولى بهم (( كل جسدٍ نبت من سحت فالنار أولى به))، ومما لا يخفى على كل ذي لب أن الشأن العربي في بعض بلدانه أصبح تحت وطأة السرّاق الذين لا تقف سرقاتهم عند حدٍ معلوم، تتعدد سرقاتهم وتتنوع، إذ لم تكن هذه السرقات محض صدفة أو وليدة لحظة إنما هي عمل منظم، ومن جملة هذا التنظيم أن يجتمع فيه أفراد مجردون من الضمير، ذو عقول خاوية، لا يفقهون ولا يرقبون، لا يهبون ولا يدبون، أفراد في عداد المتردية والنطيحة لا يرقبون في الناس إلًا ولا ذمة، تراهم يتوسدون أمر العامة، وهم عن هذه بعيد، تراهم بلا مؤهلات، ينطقون بلا حكمة، وبلا خجل من كل أمر فاسق هم عاملوه… فسراق الأمس كانوا ذا شرف ودراية، ولصوص اليوم في خبث وشراهة بلا هوادة، غير مبالين بأكل أموال الناس ومستحقيها بالباطل، غير مكترثين بأنين امرأة ثكلى، أو صرخات الأيامى، أو مظلمة شباب سلبت ماء عيونهم في أثناء دراستهم من أجل الوصول الى أبسط مستحقاتهم وهي الوظيفة التي بذل من أجلها الغالي والنفيس، وهي الغاية التي يترقب كل أب وأم أن تكحّل عيونهم بفرحة تأمين مستقبل أبنائهم… ترى جميع هذه الحقوق تسلب من مستحقيها وتباع إلى زبانية السرّاق من غير وجه حق، تاركين خلفهم لوعة في فؤاد المظلومين، لكن لهذه اللوعة موعد عند الله تعالى الذي لا يظلم عنده أحد …. ((…إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب))
* العراق – طالب دكتوراه في الأدب العربي