قرين الشاعر في (الفرح المتأخر يغمرني)
الدكتور هشام عبدالكريم العكيدي
يستهل الشاعر العراقي فارس مطر قصيدته الطويلة ( الفرح المتأخر يغمرني ) :
أجهلني
لا شيء يُعرّفني عني
أتحسس أوصالي
أبحث عن جسدي
وأقول لمن يجمعني
لا أتشابه .
بهذا التصريح المثير للحزن رسم الشاعر صورته التي كان للحرب الدور الكبير في تشكيلها ، إذ كما نعلم أن الحرب هي تقويض لكل أشكال الحياة والفرح والجمال .
والقصيدة هنا ـ وبشكلها العام ـ جاءت على شكل استذكارات لما مر به الشاعر خلال فترة الحرب التي عاشها وكان جزءاً منها فتحول عمره إلى ( جرار كسرت ) . بعد أن رأى آلاف الشبان يتحولون إلى محض ركام محترق . أما هو فتحول إلى يباس بفضل ما تركته الحرب في نفسه من انكسارات :
آذار أتى
وأنا لم أزهر
من يسأل عن نبتي
ويباسي ؟
لا أحد سيسأل في ظل الزمن المعطوب حيث :
الموت نوافيرُ
وشظايا لا تهدأ
حولي جثث تخبرني
أن الضوء تهشم
هكذا قضى الشاعر الشوط الأول من حياته في سوح الحرب التي أخذت منه ما أخذت ، لكن هل يستسلم وهو الروح الرقراقة التي جبلت من طينة الشعر والجمال لذا ما كان عليه إلا أن يختار منفاه علّه يستطيع فتح كوة للفرح فيصبح قادرا ً على مواصلة حياة فيها نوع من الهدوء وصفاء الروح وهكذا نجده مثل أي نبيل يروح معتذرا ً لدجلة قبيل أن يفارقه إلى منفاه :
سأقول لدجلة
أقدامي تعبت
فاتركني أحبو فوق نميرك
آخذ من موسيقى موجك
أغنية ً للمنفى
وفي منفاه لم يستطع الشاعر التغلب على ما أصاب الروح من عطب كبير :
برلين الشرقية هادئة
تنعش يأسي
وتساقط أوراقي يوميا ً
الكوب الفارغ يسألني
عن ترك القهوة في منتصف الشعر
ليبقى في بال الكلمات
الخفقان المقلق
على الرغم من وجوده في برلين الهادئة إلا أن صدى تلك الأيام التي قضاها في الحرب ما زال ينغص عليه بعض أيامه التي رأى فيها الشعر ملاذا ً لروحه التي مازالت تتأرجح ما بين ماض موجع وحاضر مازال يحاول التأقلم معه ونفض غبار سنوات الحروب والألم .
لقد كان الشاعر موفقا ً في استخدامه بحر المتدارك في قصيدته التفعيلية الطويلة ، فبحر المتدارك ( الخبب ) يجعل القارئ في حالة انسجام مع القصيدة حتى نهايتها ، فضلا ً عن ذلك فإن لغة هذه القصيدة كانت لغة ً ناضجة طيّعة ً بين يدي الشاعر مما جعلها تشكل إضافة نوعية جميلة وقد استطاع الشاعر من خلالها أن يعبر عن موضوعة الحرب بطريقته الخاصة إذ ـ وكما نعلم ـ لكل شاعر رؤية ينطلق من خلالها للتعبير عن الأشياء التي تعتمل في دواخله .
ومن جهة أخرى ، أرى أن الشاعر حاول أن يأسر أكثر من شيء في هذه القصيدة التي كانت الحرب عمودها الفقري ، فمن خلال موضوعة الحرب راح يستحضر أكثر من حالة فنراه أحيانا يتحدث عن الحب وأحيانا ً عن الغربة والتوق إلى مرابع الطفولة وأحيانا ً يروح ساردا ً أزمته الوجودية ورؤيته لكل ما عاشه على هذه الأرض ، وهو من خلال هذا كله استطاع أن يقدم لنا قصيدة صافية ازدانت بالصور الجميلة والانزياحات الأجمل .
بعد كل هذا لا بد لي من أن أعرج على مصطلح القرين الذي استشفيته من خلال قراءتي لحالة انقسام ذات الشاعر التي كان متشظية ً بين الأنا والآخر أي القرين فالقرين الذي أعنيه هنا هو آخَر الشاعر إن صح التعبير ، وهذا بدوره يشي بالهم الكبير الذي وقعت تحت طائلته ذات الشاعر .