رواية فؤاد التكرلي (( المسرات والأوجاع ))
د. عدنان الظاهر
من هو توفيق لام ؟؟
أبدأ دراستي بهذا السؤال لأن توفيق لام هو محور الرواية ومحرك أحداثها وشخصها الأول . لعب فيها الدور الأكبر ففصل من وظيفته وتحمل ما تحمل طوال فترة الفصل . وخلافا لكل ما قيل عن المؤلف أو عن بطل روايته … أرى أن هذا الحدث بالذات هو جوهر الرواية وعمودها الفقري وأن توفيق لام يمثل فيه أرفع مستوى خلقي وسياسي وأنساني . لقد راح هذا الأنسان ضحية ما حدث في العراق في تموز 1968 اذ رفض ظاهرة صعود وتحكم الجهلة وفراشي الأمن والمخابرات في الدوائر الحكومية مستهترين بألمألوف والمعروف من القيم والتقاليد وقوانين الدولة . تصدى لها بشتى الأساليب فبدأت متاعبه ومحنته موظفا في احدى الوزارات ملاحظا ومن ثم مديرا لقسم التحرير . نقرأ على الصفحة 93 ما يلي :
(( مضت الشهور اذن والسنوات, والحياة تتراوح بين تدن وارتفاع, ورغد في العيش وشظف, وملل كثير وسعادات قصار, فأنقضت سنة 1968 وما حدث فيها، تبعتها سنة 1969 ومثيلتها 1970، وكان أبو فتحية يزداد ثرثرة ونقمة, فهو لا يرتاح , باطنيا, لأي تغيير لا يجده منطقيا ولا مناسبا, ولكنه, في الظاهر, يمتدح كل ما يجري ترتيبه. بداية سنة 1971 دخل عليه ببعض الهياج فأخبره بأن سليمان فتح الله الملقب بالأعرج قد عين, وهوفراش, مسؤول الأستعلامات وأنه يجلس مثل الموظفين, في مكتب مدخل الوزارة, يسأل كل من يروم الدخول عمن يريد مقابلته وماذا يريد منه .
– قل لي بصراحة يا سيدي, أليست الدنيا في طريقها لتنقلب أم ماذا ؟ هون عليه, ضاحكا, واستغرب في قرارة نفسه هذا التعيين, فسليمان لا يستطيع القراءة والكتابة الا بصعوبة, اذ لم يكمل دراسته الأبتدائية, فكيف يمكن اعتبار تعيينه قانونيا ؟ )).
هنا نجد مفارقات كثيرة منها ازدواجية البعض من بسطاء العراقيين ( وغير البسطاء ) , فهم يخفون شيئا ويظهرون أشياء أخرى مناقضة للأولى . هذا هو سلوك الفراش أبو فتحية . ثم اختيار المؤلف لأسم الفراش الأمي الذي قفز موظفا ليعيث بأصول المعاملات وسلم التدرج الوظيفي المتبع في دوائر الدولة العراقية منذ تأسيسها . فسليمان هو مليك الجن والريح في التوراة والقرآن . ثم هو ( فتح الله ) … فأية فاتحة يسلطها الله على عباده ؟ ثم هو أعرج مشوه الخلقة لكأن الله ابتلاه بما هو أهل له . ولكن لماذا يبتلي الله عباده بالمجانين والمشوهين ومحترفي القتل والأجرام والسموم ؟
لقد جاءت نهاية توفيق لام المأساوية على يد هذا المسخ الأعرج الأمي . فقد تسبب في فصله من وظيفته يوم الخميس الموافق 17/11/1977 ليغدو بعد حين مديرا عاما في الوزارة نفسها ( الصفحة 301 من الكتاب).
توفيق لام هو العراق وشعب العراق معا , وسليمان فتح الله الأمي الأعرج هو رمز لمافيا دموية . وانها لمفارقة أخرى أن يحمل هذا الموظف التعيس المفصول والمحروم من مصدر رزقه اسم توفيق . أهذه هي قسمة البعض منا في الحياة ؟
إذا قال المرحوم طه حسين في معرض كلامه عن الشاعر أبي الطيب المتنبي : (( ثم تريد الظروف التي تحب المزاح أحيانا … )) في كتابه ( من تأريخ الأدب العربي , المجلد الثالث , دار العلم للملايين . بيروت, الطبعة الثالثة 1980 , الصفحة 335 ) فلقد قال توفيق لام شيئا قريبا من ذلك :
(( كانت الأيام تتحايل, لتجلب لنا أمورا مضحكة حقا … , الصفحة 129)) .
أعود لأسأل ثانية : من هو توفيق لام ؟
لقد نجح الأستاذ فؤاد التكرلي في رسم الصور الدقيقة المتألقة صعوداً ونزولاً لبطله توفيق لام ( ولعله هو بالذات مع بعض الإضافات وربما الحذف ) طفلا وصبيّا وشاباً جامعياً يدرس القانون والمحاماة في كلية الحقوق في بغداد وبعد تخرجه في الكلية تم تعيينه شهر تموز 1954 موظفا بدرجة ملاحظ في احدى الوزارات العراقية. توفيق لام رجل مفعم بالحس الإنساني ودائم التذكير بقيمة الأنسان في الوجود. نقرأ على الصفحة 122 :
(( هل في الإنسان مادة غير مادية يمكن أن تسحق أو تداس, والى أية درجة من الضعف وتقبل المهانة باستطاعة هذا الأنسان أن يصل ؟ )) . ثم قد قال على الصفحة 160 :
(( لست ضعيفاً ولا قابلا للكسر, وهذا الإنكماش الذي يعتريني بين الحين والحين, هو علامة من علامات دفاع النفس عن وجودها, فأنا الأنسان, أعز من أضيع تحت أقدام مهووس بالسلطة ونتن كسليمان فتح الله, أو مخبولة مثل كميلة )). كما أنه كان رائعا في متابعته لخط نمو وتطور غسان ابن صديقه الرسام عبد الأله كمال. لقد كان بارعا في رسم صعود الخط البياني لحياة هذا الأنسان الذي تركته أمه طفلا لتتزوج رجلا آخر غير أبيه .
هل في العراق الكثير ممن هم على شاكلة توفيق لام؟ لقد كان شاباً لاهياً قبل الزواج ومقامراً يخون أحد زملائه في لعب القمار ( سليم مروان ) . يدخل بيته ليلعب ويأكل ويشرب ثم يخونه مع زوجته الفرنسية ( آديل ) . وظل يراود ( أ نوار ) زوجة أحد أبناء عمومته ويتشهاها بقية عمره رغم فارق السن الكبير بينهما . وأخيرا اغتصابه لفتحية الأرملة الشابة ابنة فراشه في الوزارة , والتي آوته في بيتها بعد فصله من وظيفته وبعد أن طلقته زوجته كميلة ولفظته من بيتها فلم يجد له مكانا ينام فيه حتى في بيت شقيقه عبد الباري . لربما يثير هذا الأمر الكثير من التساؤلات !! زد على ذلك الألحاح الشديد في ذكر الطعام . فلقد جاء الكتاب مليئا بذكر الأكل والجوع والموائد والطعام . فهل كان قصد الروائي الكريم أن يعطي الأنطباع أن ليس في الوجود ما هو أكثر أهمية من الجنس والطعام ؟؟
ما الفرق بين الحيوان والأنسان اذن؟
لا أحدَ يُنكر القدرة الفائقة للمؤلف على وصف العمليلت الجنسية سواء مع زوجته كميلة ( وتلك ظاهرة غير مألوفة في الأدب والأداب العراقية ) أو مع آديل زوجة صديقه الفرنسية ثم مع فتحية إبنة فراش دائرته . التركيز المفرط والمبتذل أحيانا على الجنس والطعام لدى توفيق لام أمر يتناقض مع كونه مثقفا لم يعرف الفاقة والعوز في حياته قبل فصله من الوظيفة . فهو مثقف من الطبقة الأولى . قرأ تولستوي ونجيب محفوظ وكامو وكافكا وديستويفسكي وهمنغواي وأندريه جيد وستندال ومورياك وتورجنيف ثم استوعب ( أيام ) طه حسين ولم يعجبه أنه يتكلم بضمير الغائب , علما أن كتاب ( المسرات والأوجاع ) جاء هو الآخر خليطا من الكلام بصيغة الأنا حينا وبصيغة ضمير الغائب أحيانا أخرى .
توفيق والأم و ( آديل )
لم يقدم المؤلف تعليلا مُقنعاً واحداً يُفسِّرُ به أسباب جفاء والدته التي حرمته حتى من حقه في بيت أبيه الا ما ورد على الصفحة 114 حيث أفاد (( سألتها بهدوء مبالغ فيه … هل تعتقد بأني لست ابنها ؟ بهتت ونظرت الي لأول مرة, فأعدت عليها السؤال مضيفا بأن تصرفاتها اللامعقولة توحي بأنها تعتقد هذا الأعتقاد الشاذ … – ولا أدري هل أن سبب ذلك هو أن الله سبحانه وتعالى أراد لي أن أكون بخلقة تختلف عن خلقة أبي وأخي وأولاد أعمامي, أم أن ضميرك لا يزال يعذبك لأنك تصرفت بأموال لي وضعت أمانة بيدك وأنك تنزعجين من رؤيتي لأني أذكرك بذلك ؟ )) . علاقة توفيق بأمه يعتورها بعض الغموض, وما كان يسميها الا ( أم عبد الباري ) !! لهذا – من المحتمل – كان يرتمي في أحضان ( آديل ) الدافئة طلبا للحنان المفقود واستجابة غريزية لسكب الدموع على صدور الأمهات، عقدة أوديب؟ أجل، كانت آديل له أمّاً وعشيقة في عين الوقت . فعلى الصفحة 66 قالت له (( أنت خسران مع الجميع, الا معي … يا حبيبي )) ثم قال هو على الصفحة 67 (( فأحتضنته وشدته الى جسمها كأنها تحميه من شر يلاحقه. كم شعر بأمان غريب )). الغريب أن كافة لقاءاته الهامة مع هذه السيدة الفرنسية تمت في شهر أعياد ميلاد السيد المسيح ورأس السنة الميلادية . فلقد تم اللقاء الأول بينهما في بيت صديق مسيحي لأحد أصدقائه مساء 31-12-1952 وكان اللقاء الثاني في يوم 4-12-1959 على مائدة قمار زوجها, في حين جرى اللقاء الأخير في شهر كانون الأول عام 1979 . فما دلالة ذلك؟ أهو ولع توفيق لام بالأجواء الأوربية الغربية وتوقه الشديد لأن يتمتع بمثل هذه الأجواء في بغداد ان لم يستطعها هناك؟ السيدة آديل امرأة غريبة : عملت موظفة في مصرف الرافدين في بغداد أولا وكانت معها أمها فقط . ماذا عن أبيها ومن هو؟ وكيف وقعت هذه الفرنسية الجميلة في بغداد؟ ثم ما الذي يدفعها الى خيانة زوجها التاجر الموسر مع أحد زملاء القمار؟ أليس وجودها في بغداد سرّاً لا يعرفه الا الراسخون في العلم؟ قُتِلَ زوجها سليم مروان بعد الثامن من شباط 1963 فباعت الدار وهرّبت أموال زوجها وتركت العراق خِلسة! فأي نوع من النساء أحب السيد توفيق لام, وأي نوع من النساء هي آديل؟ الأكثر غرابة هو أن توفيق قد وقع فعلا في حب هذه المرأة في حين لم يستطع أن يحب زوجته كميلة ولا المسكينة الأرملة الشابة فتحية التي مارس معها الجنس ضد رغبتها مستغلا بعض نقاط ضعف النساء الطبيعية. نعم لقد اغتصبها بلغة القانون الذي درسه توفيق والذي يفهمه جيدا .
ما يلفت النظر أكثر من سواه هو التزامن المدهش بين محنة الفصل من الوظيفة يوم 17-11-1977 وطلاقه من زوجته في أوائل عام 1978، أي في غضون بضعة أشهر وقعت على رأسه بليتان، الواحدة أدهى وأسوأ من الأخرى .
توفيق وعقدة العقم الجنسي. اتفاق تجنّي الطبيعة وظلم أنظمة الجور والطغيان :
كان الأستاذ فؤاد التكرلي بارعا أيّما براعة اذ جعل مشكلة العقم الجنسي في الرجل الجزء المتمم لمحنة الأنحراف واللاعدالة في بعض أنظمة الحكم . فالعقم الجنسي فيه حرمه من زوجة وسكن مجاني لائق وطعام جاهز دوما. أما انحراف الدولة والنظام السائد بالقوة فلقد حرمه من وظيفته ومن مصدر رزقه وسعادته ومن شخصيته الأجتماعية المكتسبة بالإعتبار الوظيفي وهيبة الدولة التي يقدم لها الخدمات المطلوبة منه . لقد جرد توفيق لام منها جميعا في غضون شهرين من الزمان ففقد السعادة والهيبة ومظاهرالأبهة المضافة بالأنتماء الى دولة .
ثم – وهذا في نظري – قمة ابداع الروائي اذ جعل من فحولة الرجل الطبيعية السوية نقطة ضعفه القتاله. كان توفيق شديد النشاط الجنسي سواء مع زوجته أو مع سواها من النساء . وكان دائم التهيج ودائم الركض وراء بنات حوّاء. لكنه للأسف كان عاجزا عن تخصيب أنثاه التي بذلت ما تستطيع من جهود كي تنجب طفلا وكان ذاك على رأس حقوقها الطبيعية كأمرأة : حاملة وناقلة لدورة الحياة الأبدية. لقد توقف فيه قانون وناموس حركة ديمومة بقاء الكائنات الحية في الكون. خالف السُنّة فحق عليه العذاب واستحق عقوبة مغادرة فردوس الحياة المزدوج : الوظيفة والزوجة . لماذا تقص الطبيعة شعر شمشون الجبّار!! لماذا تأمر الشمس تفاعلاتها النووية التحاما وانفصاما بالتوقف كيما تنطفيء جذوة الأبد في رأس (بروميثيوس )؟ هل لطغيان جبروت الجنس لدى توفيق لام من جهة وعجزه عن التخصيب من الجهة الأخرى علاقة بتمرّده على الإنحراف عن سوية الأشياء الطبيعية وعدم قدرته على (( التكيّف )) وتطويع الذات على تقبّل ما لا تألف وتنسجم؟ لم يستطع أن يمارس الإنتهازية السياسية – كأغلبية الناس – كي يدرأ عن نفسه استفزازات سليمان فتح الله ومن لف لفه، وأن يتبوأ عالي المناصب وبالسرعة القصوى ليجد نفسه بين عشية وضحاها مديراً عاماً أو رئيسَ مؤسسة أو عميد كلية أو وزيرا؟ كلاّ، أمثال توفيق لام لا يستطيعون. شرف الحياة في رؤوسهم أعلى من الوظائف المشتراة بذُلِّ النفوس
توفيق لام وغسان
هل لوجود غسان، إبن الرسّام عبد الاله كمال من أهمية حيوية بالنسبة للسياق العام لأحداث رواية ( المسرات والأوجاع )؟ أحسبُ أنَّ الجواب لا ونعم . لا لأن مصير توفيق لام كان يمكن أن ينتهي نهاية جد سعيدة بالزواج من الشابة الأرملة ( فتحية ) المكتفية بما لديها من عقار مؤجر وشقة سكنية خاصة بها. ولديه راتب تقاعدي قد يخفف من وطأة الأحساس بنوع من العبء الحياتي على زوجته . ثم أن علاقته بأبي ( فتحية ) علاقة متينة وجيدة قبل وبعد فصله من وظيفته على حد سواء . ثم ما كان لديه حلٌ آخرٌ فجميع الأبواب موصدة أمامه. لم يتعاطف معه في محنته الكبرى حتى شقيقه ( عبد الباري ) فضلا عن أصدقاء السهر السابق والقمار أمثال عبد القادر .. بل وأسوأ من ذلك : فقد ادعى صديقه خالد – الصفحة 266 (( أنه فصل من الوظيفة وأعتقل بعد ذلك ومن المحتمل أن يكون قد قتل )) ردّاً على سؤال ( آديل ) عنه بالتلفون . فزواج توفيق من ( فتحية ) نهاية طبيعية ونهاية سعيدة بالنسبة لجميع الأطراف سيّما لتوفيق لام نفسه المشرد التعيس والمطرود من وظيفته ومن كافة ( جنات عدن ). لا داعيَ إذاً لوجود غسان على خشبة مسرح الأحداث حيث انتهت الرواية به وبسببه نهاية مأساوية مزدوجة. وكان توفيق لام هو المستفيد الوحيد من هذه المأساة. ونعم، لأنَّ مؤلف الرواية أراد أن يستعرض نظريته في الحياة، فقد قال على الصفحة 90 :
(( كان توفيق , كبقية البشر, يحمل بذرة شقائه في صميم وجوده )) لكأنه يردد صدى بيت الشاعر أبي الطيب المتنبي :
أبوكمْ آدمٌ سنَّ المعاصي وعلّمكمْ مفارقةَ الجنانِ
وقال على الصفحة 434 : (( ثم خطر لي أن الحياة لا تستحق أن تعاش حقا وأن الإنتحارَ ليس أسوأ منها بكثير )) الأمر الذي يذكّرني ببيت أبي العلاء المعري الشهير :
تَعبٌ كلّها الحياةُ فما أع جبُ إلّا من راغبٍ في ازديادِ
فغسان يمثّلُ رمزاً حيّاً لعبثية الحياة ولا جدوى أن نحياها. نُكِبَ طفلاً بأمّه لكن هذه الأم التي خانت أباه أوصت له فأورثته المال والعقار الكثير. ولقد أفاد توفيق لام نفسه من هذا المال إذ ترك له غسان قُبيل استشهاده في الحرب العراقية – الأيرانية مبلغا كبيرا ( خمسين ألف دينارا ) .
لقد وقف توفيق لام ضد الحروب أيام ما كان شغوفا بقراءة روايات ( الحرب والسلام ) و ( وداعا للسلاح ) … كما أحسب. ولقد قال في محاورة مع غسان حول رواية ( الحرب والسلام ) ما يلي :
(( قال إنَّ المتعة التي حصل عليها من قراءة ” الحرب والسلام ” لا مثيل لها اطلاقا، ويكفي أن الرواية عزلته تماما عن جو المعسكر الكئيب )). ثم تساءل غسان (( هل يمكن أن يكونوا قبل أكثر من مائة وخمسين عاما على هذه الدرجة من العلاقات الرفيعة السامية ؟ لقد أحسست أنه مجتمع سعيد، لا يجب أن يفكر أفراده بالحروب وبتقتيل الآخرين، ومع ذلك فإنَّ الحروب تقع باستمرار ولا يمنعها رُقيُّ المجتمعات، أليس هذا تناقضاً ؟ )) . الصفحات 347 و 348 .
ثم إنَّ هذا الرجل الطيب المسالم الذي لم يؤذِ أحداً في حياته وقع مراراً ضحية للعنف وموت العدالة والإنحرافات من إقصاء عن الوظيفة ثم الإعتداء الأثيم الذي تعرض له يوماً في مدينة أهله وذويه خانقين . فلنقرأ ما كتب على الصفحة 250:
(( كانوا أربعة رجال مسلحين…, سألوه عن اسمه الكامل وأطلعوا على بطاقة هويته ثم طلبوا منه مرافقتهم الى مقر المنظمة للسؤال منه عن بعض الأمور…، كان ذلك اليوم يوم الأوجاع حقا. تكالبوا أربعتهم عليه في غرفة عارية الجدران فضربوه بشدة وحقد حتى تهالك فاقد الوعي، حينذاك تركوه مُدمّى موجَعاً حائرالروح يومين بلا عناية ولا طعام أو ماء. جاؤوه في اليوم الثالث أوالرابع, وكان محموما منتفخ الوجه مشوه الملامح, لا يكاد يدرك تماما ما يدور حوله. لم يستطع الوقوف على قدميه فسحبوه سحباً الى غرفة أخرى يجلس فيها شخص وراء طاولة ويدخن بهدوء …)). أرى أن ما كتبه الروائي المبدع الأستاذ فؤاد التكرلي على هذه الصفحة وما جرى لبطله توفيق لام على أيدي كلاب الزمهرير… أرى فيه أبلغ إدانة لحكم المُنظَّمات. أرجو أنْ يلاحظ القاريء الكريم عبارة (( ثم طلبوا منه مرافقتهم الى مقر المنظمة )).العراقيون كافة يعرفون طبيعة هذه المنظمة التي فاقت بكثير سادية ووحشية غزاة بغداد ومدمري حضارة وتأريخ العراق من مغول وتتار وسواهم.
بعد هذا العرض الطويل أعود لمسألة ضرورة وجود ( غسان ) في هذه الرواية وإمكانية تبريرها بما يلي من الأسباب :
1- لقد أدان توفيق لام , في استشهاد هذا الشاب , الحرب العراقية – الإيرانية . كما أدان ضمنا أولئك الذي أشعلوها .
2- ترك غسان الحياة ولمّا يكمل مسيرتها التي عانى توفيق من ويلاتها وقال رأيه صريحا فيها.
3- لكن غسان هذا قد شرع فعلا في النهوض بالدور الذي تتطلبه الحياة منه : مواصلة خطها الأبدي بالتناسل والأنجاب . فلقد ترك في أحشاء ( فتحية ) جنينا. فالحياة إذاً تفرض نفسها علينا بالقوة الخارقة ( الجنس )، شئنا أمْ لمْ نشأ .
4- وفرَّالجنين الذي تركه غسان في أحشاء ( فتحية ) حجة وغطاء مناسبين لتوفيق للتهرب من مسؤولياته الخلقية والأجتماعية تجاه ( فتحية ). لو لمْ يمُتْ غسان لكان تزوج من ( فتحية ) وكان هذا قراره الأكيد ( الصفحة 397 ). لكنَّ غسان القتيل قد فارق الحياة تاركا لتوفيق لام إمرأة وطفلاً في رحمها غير شرعي .
5- وأن توفيق لام قد أدرك قصد غسان اذ أوصى له بهذا بالمال الوفير فقال على الصفحة 463 :
(( كنت مُتعباً، مُتعباً. نحيّتُ الحقيبة الخضراء جانبا وحشرت نفسي معها على السرير، ملفوفا بلحافي ومعطفي، ثم أغمضت عيني. أن يقول لي بصراحة…هذه الفتاة، أنت تحبّها مثلي، فلا تتركها من بعدي تعاني مما فعلته بها، وخذها زوجة لك . حينذاك سيمكنني أن أجيبه أنا الآخر بمثل صراحته وأرفض رفضا قاطعا هذا العرض المشبوه )) .
توفيق لام يرفض بإباء وشمم فكرة الزواج من فتحية، عِلماً أنه سبق وأن عرض عليها الزواج ذات مرة قبل تورطها بالعلاقة مع غسان( الصفحة 333 ). موقف توفيق هذا بحاجة الى وقفة طويلة ويسمح لنا أن نتقبله بواحد من تفسيرين الأول – أن رجلا مثله عانى ما عانى كيما يبقى رأسه عاليا في الحياة، نظيفاً شريفاً يأنف ويترفع عن الدنايا، لم يسرق ولم يكذب أبداً. وعليه فان هذا الأنسان العراقي (المولود عام 1932 في محلة الحيدرخانة في بغداد ) المثالي في واقعيته والواقعي في مثاليته والمتناقض كما هي الحياة لا ولن تسمح له نفسه الأبية هذه أن يتستر على جنين غير شرعي بالزواج من شابة حملته سِفاحاً. التفسير الثاني ـ وهو الأضعف – يخبرنا علانية أن توفيق المُشرَّدَ والجائعَ في بعض الأحيان قد أصبح ثريّاً وليس بحاجة الى مَنْ يحميه ويؤيه … ليس بحاجة الى طعام وشقة ( فتحية )، فلماذا يتورط في صفقات مشبوهة قد لا تجلب له إلّا العار وملحقاته ؟
لا يبدو قرار توفيق هذا إنسانيّاً، ويتناقض مع طيبته وبراءته وانحيازه لبسطاء الناس وفقرائهم، لكنه قرار رجل عراقي صميم .
ملاحظات ختامية :
++ أشعر بالسعادة والغبطة أن أرى بيننا كاتبا عراقيا على هذا المستوى الرفيع من فن القص الروائي . لقد سحرتني لغة الأستاذ فؤاد التكرلي , ففيها قوة وفيها حلاوة وسحر . ثم القدرة الفائقة على رصد سلوك الأنسان في حياته المعاشية اليومية بحيث لم تفته صغيرة ولا كبيرة . فكيف تسنى له أن يتابع أفعال وردود أفعال هذا الخليط العجيب من البشر في سرائهم وفي ضرائهم ؟؟ وكيف استطاع أن يراقب نفسه بهذا القدر من الدقة والبراعة بحيث لم يهمل حتى أدق دقائق تفاصيل حياته ؟
++ لقد وجدت رواية ( المسرات والأوجاع ) نسيجا رائعا وفتانا حتى أني لم أكتشف أية ثغرة في السياق الروائي الفني المحكم لدرجة أذهلتني وجعلتني أردد مع نفسي : بك نفتخر نحن العراقيين يا فؤاد , وبأمثالك يتشرف العراق أدبا وشعبا .
++ كما لا بد لي من الأعتراف أن ناقداً واحداً لا ولن يستطيع أن يخرج بدراسة وافية شافية لرواية ( المسرات والأوجاع )، مهما حاول. ذلكم بسبب تشعب الموضوعات والمشاكل والعقد التي عالجتها هذه الرواية التي استغرقت 464 صفحة .
++ الرواية تُفصحُ عمّا فيها … لذا لا أراني بحاجة لأن أدافع عنها وعن كاتبها ضد بعض أشباه الكتبة وأنصاف الأميين الذين لم يحاولوا أو لم يستطيعوا فهمها كما أراد الروائي الفذ. لقد أساءوا اليه كما أساءوا اليها عن عمى وجهل . لقد أدان المؤلف الحروب أبلغ إدانة وأكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة …, يستطيع أن يدرك مغزاها كل من له عينان سويتان في مقدمة رأس سوي . كان المؤلف بارعا في سوق هذه الإدانة وبأرفع مستوى فني متاح. لا شعارات فارغة ولا دجل ولا تهريج رخيص مَلّت سماعه آذان العراقيين .
++ لم يستطع المؤلف إقناعنا كيف وُلِدَ توفيق (( طفلا نادرا في جماله …الصفحة 17 )) وقد تحدّرَ من عائلة نشأت أصلا في ( دربونة شوادي ) وقد درج على وصف وجوه أفرادها بالتفاوت بين وجوه الضفادع والقرود! أهي الطفرة البايولوجية غير المتوقعة والقرود تتقافز وتنط بطبعها أم أنها إحدى مفارقات الدنيا التي (( تتحايل لتجلب لنا أمورا مضحكة حقا … الصفحة 129 )) أم أن توفيق لام قد ولد من غير أبيه … وقد صارح مرة والدته بهذا الأمر (( سألتها بهدوء مبالغ فيه … هل تعتقد بأني لست ابنها ؟ الصفحة 114 )) .
++هل كانت علاقة توفيق بغسان علاقة والد بولد؟ أجلْ. كان غسان محروماً من الأم، وكان توفيق بعقمه الجنسي محروما من الأطفال . كلاهما إذاً بحاجة ماسة الى الآخر. يبقى أخيراً السؤال غامضا : لِمَ اشترك الإثنان في ممارسة الجنس مع امرأة واحدة؟ نزعة وطبع وسلوك عالم القرود !
++ لقد ذكَّرَنا الأستاذ فؤاد مشكورا بشارع الرشيد ومقهى ( حسن عجمي ) والمنصور وحي دراغ وبعض المقاهي المُطِلّة على نهر دجلة لكنه تركنا نتساءل عن سبب اختياره ( حي العامل ) بعد فصله وطلاقه سكناً مؤقتا مع ( فتحية ). ما كان الأمرُ محضَ مصادفة عرضية فالصدفة هي شكل تجلّي الضرورة كما يقول الفلاسفة. لقد عمل توفيق قبل فصله من الوظيفة في دائرة حكومية خدم فيها أبو فتحية فرّاشاً للسيد توفيق. ثم شاءت الصدف أن يرتبط توفيق بالأرملة الشابة فتحية بعلاقات غاية في التعقيد ليس أقلها ممارسته الجنس معها حتى بوجود أبويها في الشقة. ثم وقوعها في علاقة غرام مع ( غسان ) الذي ما تعرفت عليه الا من خلال هذا التوفيق. تُرى هل كان قصد مؤلف الرواية الإيحاء أنْ ليس بعد الفصل من الوظيفة الا الإنتقال الى وضع ( طبقي ) أوطأ؟ أو أنه أراد تأكيد انتمائه الى الفئات البسيطة والفقيرة من المجتمع العراقي؟ أجدني أميل الى الإحتمال الثاني إذ قدْ أشارالمؤلف في روايته الى إعجابه الشديد بالشخصية الروائية الروسية (الأمير موشكين ) بطل مسرحية ( الأبله ) للكاتب ( دستويفسكي ). وكان هذا الأمير بسيطا ونبيلا وبريئا براءة الأطفال. لم يُخفِ ولم يستطع أن يُخفي أيَّ أمرٍ خاص به مهما كانت طبيعته. أليس هذا هو توفيق لام بقضّه وقضيضه؟
++ بالتمعن الدقيق ( والخبيث قليلا … ) يمكن قراءة الرواية بتفسيرات أُخَرَ لم يشأ أنْ يُفصحَ المؤلف عنها مثلا :
أولا – كميلة هي المصابة بالعقم الجنسي وليس توفيق ولا زوجها الثاني جاسم الرمضاني .
ثانيا – إنَّ الطبيب البريطاني المحتال كان قد زرع في رحم كميلة بويضة مخصبة انتفخ بها رحمها فالحبل ليس من حيامن جاسم الرمضاني .
ثالثا – وأن جنين فتحية حصل من توفيق لام وليس من غسان. فالحيامن الضعيفة تستطيع اخصاب البويضات الأنثوية خاصة بعد تقويتها بالحبوب. لا غرابة في هذه التفسيرات اذ قد قال لنا توفيق لام (( إنَّ الحياة تتحايل لتجلب لنا أمورا مضحكة حقا )) .
لقد أزاح الموتُ كميلة من الوجود. دفعت حياتها ثمناً لتعلقها الجنوني بالحياة. أرادت المسكينة أن تخلد نفسها بالحياة وأن تخلد الحياة بأنجاب أولاد يكملون الدورة فنفقت قبل أن تحقق مأربها. هل هي ارادة الحياة تحصِّنُ نفسها وتقويها وتنقّيها بالتخلص من العناصر الضعيفة فيها بازاحتها عن المسرح بالموت على قاعدة البقاء للأفضل والأقوى؟ هل نضحك كما نريد أم نبكي علينا وعليها كما تريد الحياة؟
تنتهي الرواية شهر شباط 1981 باستشهاد غسان في إحدى جبهات الحرب مع ايران. يسدل الستار دون أن نعرف شيئا عن مصير فتحية والجنين الذي تركه غسان ( أو توفيق لام ) في رحمها .
أخيرا … إنَّ كلمة ( لام ) التي تتكون من ثلاثة حروف فقط، يمكن أن تعني بإعادة ترتيب حروفها : ( مال ) أو ( ألم ) أو ( لما ) أو ( ملا ) أو ( أمل ) . وإنَّ لام تعني باللغة الإنجليزية الخروف الصغير – الحمل LAMB ( الإنجليز لا يلفظون الحرف B في هذه الكلمة ) وباللغة الألمانية هي LAMM وتلفظ كما تلفظ بالعربية تماما .. لام.