الكتابة “مُعضلة!”
يحيى علوان
تَرَجّلْ ..!
فالنسيانُ دابّـةٌ حَـرونْ ،
تَرَجّلْ! فمـا أَنتَ بالأوَّلِ ولا الأخيـر ..!
كانَ / النسيانُ / حماراً! لَـه عليكَ فضلٌ … وفَّـرَ لَكَ، بعـدَ عقـودٍ ، فرصَةَ الإطلال على ذاكرتِكَ والإستمتاعِ بأعادةِ صيـاغَةِ ، تشكيلِ ، وتَلوينِ ، بل ومُساءَلَةِ ، ما مَررَتَ بـه – دونَ حُـزنٍ أو نَـدَمٍ – من أجلِ أنْ تَفَـوزَ بمعرفِـةٍ تَمتَـدُّ لجِـذورِ الأشياءِ … لإستنباطِ “الثابِتِ” و”الكامِنِ” تحتَ قِشرَةِ اليوميِّ ، بهَدَفِ جَلْوِهِ من غُبـارِ العابِرِ …
فَقَـدْ أَورَقتِ المُفرداتُ والمعانِـي ..
تَعَتَّقَتِ المَشاعِرُ ، رَحُبَتِ الظِـلالُ وغــدا النَـصُّ قانِـيَ الحُمـرةِ .. يَستَفِزُّ ” ثَـورِ” الكتابَـةِ المجيـدِ!
عَـلَّ الذِكـرى تُضـيءُ دَربَ المعنـى فـي غَبَشِ الكلمـاتِ ، وفِـي غَسَقِ العُمـرِ .. فالحَنينُ لَمّـا يَزَلْ صغيراً ، مـا شِبَّ عنْ “غِمـده ” بَعـدُ! يُمسِكُ بنياطِ النسيان ، يكـادُ يُقطّعهـا .. ..
تَرَجَّلْ ، وإبحثْ عن لُغَةٍ ، تَرفِسُ لحظةَ الخطابةِ والشعار ، لتكونُ واحَـةً للتأمُّلِ ..
…………………………..
عقُـودٌ مرَّتْ سِراعاً .. تَغَيَّرَتْ أشياءٌ وأَشياء ، لكنَّ ذلكَ الحبل أمسى متيناً …ستُضيفه إلى ما تعلّمتـه في مجـرى العيش : ..” شيئان تزدادُ قيمتهما ، يغـدوانِ أَطعَمَ ، إنْ تَعَتَّقَا … النبيذ والجبنة ” وستُضيفُ لهما، من عندكَ ، ذلك الحبلُ ، الـذي يشدُّكَ إلى مَنْبَتِك الأوّل ، الذي لَـمْ تَخْتَره!!
عَلَّمَكَ ” الجَبَلُ “، وقبلَـه المُعْتَقَلُ ، مـا دونـه كل شيء.. فِقـهَ الحُـريَّـةِ ..!
تـَعَلّمتَ كيفَ تَصنَع حبـلاً سِريّاً ” ليسَ من مَسَدْ!” معَ أَرضِ البِدايـاتِ ، أرضِ الحروفِ الأولـى ، والحبِّ الأوَّلِ ، والرعشَةِ الأولى … والـ”كَفِّ” الأولـى ، التي تلَقّيْتَهـا على وَجهِكَ … تُحِسُّها بعدَ أكثر من خَمسين عاماً ، فَتَمُـدَّ يَدَكَ – لا شُعوريَّـاً – تَحُكّ مكـانَ الصفعَـةِ ، كأنهــا حَدَثَتْ تَـوَّاً .. وما زالَ أَثَرُهـا حـارّاً ..!
على حَجـرِ النِسيانِ ، سَتَصقِلُ الذِكـرى وتَشحَذُ شَفيرَهـا ، حيثُ مُمكنة تَغدو الكتابَـةُ
عمّـا تَخَمَّرَ في جُنُبـاتِ اللاوعيِ .. ولَمْ يَتَغَيَّرْ بِفِعلِ عادِيـاتِ الزمـانِ … فأضحَى ملجأً يُبَدِّدُ
مرارةَ الحيـاةِ .. ويَصيـرُ حُلمـاً، تَغـدو الحيـاةُ منْ أجلـهِ مُبَرَّرَةً . فالعَيشُ يقتَضَي بقـاءَ الحُلُمِ ..
فأِنْ تَحَقَّق ” أَخْفَقَ “!
مفتوحـاً ، طرِيَّـاً ظلَّ جُرحُ الذكـرى .. في عـالَمٍ ضَنينِ السعادة ، كريم الشقاء ..!
…………………………..
خيـاراتٌ وجوديَّـةٌ كثيرةٌ ، أَهملتَهـا ، كـي تُرضِــعِ ذاكـرتكَ البَصَريَّـةِ والحسيَّةِ ..
حتى راحَتْ تُحضِـرُ لكَ روائـحَ وعطـورٍ ، يَقْشَعِرُّ لهـا زَغَبُ ” العِجْمَةِ “، وَتُقَدِّمُ
لَكَ أَطباقَـاً من المباهِـجِ الصغيـرَةِ، من قَبيلِ ..
” أَنَّ حُـبَّ الوطَـنِ لا يحتَـــاجُ إلــى “وسـيطٍ “أو “سمسارٍ”، أَيَّـاً كانَ !
تماماً كمـا العلاقـةَ بالرب، لا تحتـاجُ إلـى وسيطٍ! “
ما زالَت الحَيرةُ تَنهَشُكَ ، إنْ بالحُبِّ فاضَ قلبُكَ ، فهـو أَصغرُ من قلبِ لاعبِ كُرةٍ قدم ،
لكنَّه أكبَرُ ، قَطعـاً ، من قلبِ مُستبِدٍّ!
خِلافَاً لآخريـن إستوطنَ العاقول قُلوبهـم .. تروحُ تُغمِضُ عينيكَ فتستخرجُ وطناً آخـرَ ، غيرَ هـذا الخراب ..
ستظلُّ حارِسَ الشرَرِ في الأحلام .. فقد تنسىِ الشرارةُ نفسَها ، وتَتقـادم فتنتهي إلى ومضَةٍ خجـولةٍ .. لذلكَ ستسرقُ ، من بابٍ موارَبٍ لَفحَةَ النُجيمـاتِ ، من مستورِ سَهرَتهـا ، فَلَرُبّمـا شاءَتْ مساءاتُ المنافي أنْ تَتَدفَّـأ بالذكـرى فقط .. حَدَّ التمادي ..!
…………………………..
* أَنكونُ فَقَدنـا الأوطانَ لأنَّ “حادينا” تاه عنّـا ، فلَمْ نَعُـدْ نُصـابُ بالحنينِ إلى جحيمهـا .. ؟!
أَلذلكَ صَبرَتْ علينـا المنافـي ولم تأبه ، عندما يفيضُ بنا الحنين فـي وَحشةِ الصمت .. لشُرُفاتٍ هَجَرَهـا الحَمَـامُ وأَخَـذَ هَديلَـه معـه … فنَظلَّ نرنو إلى نجـوم ليلٍ عتيـق ؟!
*ماذا جَنَيتَ ، يا هذا ، حينَ أضرَمتَ المـاءَ في الصمتِ ، والصمتَ في الكلام ؟!
ماذا جَنيتَ تبحثُ ، مثلَ قردٍ ، على صفحة المـاء ، عن شخصٍ آخرَ سواك ؟!
لمـاذا تسألُ الرياحَ عن أُمِّهـا والموجَ عن أبيه ؟!
… عَتَبي على مَنْ وَرَّطَني بالمفردةِ ونَسِيَ أنْ يُوصيهـا كي تَتَرفَّقَ بِـيَ !
كانَ أبي يقولُ لِي، يومَ كنتُ صغيراً لايفقه المعنى سوى الحِفظ .. آفَـةُ الفيلِ عاجُـه ،
وآفَـةُ البئرِ دَلـوُه .. وآفَـةُ الشِعرِ النَظمُ والجَرَسُ ..!
… بأزميلٍ من صوتِ حَنجرَتِه العريضةِ ، حَفَرَ في صخرَةِ ذاكرتي الفَتِيَّةِ ، بيتاً من الشِعرِ ،
قاله مُنبِّهـاً إيايَ يومَ حمَلتُ صينيةَ الشاي إلى غرفةِ الضيوف وشَرَعتُ أُقدِّم الكؤوسَ ، دونَ
معرفةٍ بـ”الأَتَكيت”!، إبتداءاً من أَقربِ شخصٍ إلى الباب يساراً .. قالَ:
“مَنَعتِ الكاسْ عنَّـا أُمَّ عَمرٍ ……. وكانَ الكاسْ مَجـراهُ اليَمينَا “!
يومها إحمرَّ وجهي خجلاً ، كما أظن ، لأنني إستشعرتُ حرارة في أُذني ، مُذاك ما نسيتُ هذا البيتَ أَبداً !!
………………………………..
نَـمْ قَريرَ العينِ ..! فَصغيرُكَ صـارَ شيخاً هَرِماً… لكنه لَمْ يُشفَ من ظَمَأه .. ولَمْ يُغـادر بُستانَ الحَرْفِ .. ما فَتِىءَ يصطادُ شُهُبَ المعنى وظلالَهـا ..
لَمَّـا يَزَلْ على تِلكَ الدرب ، التي سَلَكها، أَبونـا الأوَّل مسكوناً بشَغَفِ إنبلاجِ المعنى .. لَمْ يُرهِبه التابـو ، لا الوعيـد ، ولا حتى الخروجُ من “الجنّـة” ..!!