الانتخابات الاخيرة وتراجع التأثير الإيراني في الشأن العراقي
د. عقيل عباس
تحدثت مصادر صحفية وسياسية عراقية عن زيارات لوفود إيرانية إلى العراق، آخرها زيارة قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني إلى بغداد والنجف لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الشيعة لتنظيم مشاركتهم في الحكومة المقبلة وإقناع بعضهم بالقبول بأن يكونوا خارجها.
لم تتمخض هذه الزيارات عن نتائج حاسمة لصالح ما تريده إيران في العراق وسيكون على إيران أن تتعاطى مع البروز المتزايد لنزعة استقلالية عراقية.
كان الموقف الإيراني التقليدي بخصوص تشكيل الحكومات العراقية المختلفة منذ ٢٠٠٣ مكوناتياً بامتياز ويستند على الوحدة السياسية في داخل كل مكون وتعاونه مع المُكُوَنين الآخرَين في إطار مفهومي التوافق والمحاصصة.
ولذلك تَركز دورُ إيران، في جانبه الشيعي العراقي، على ضمان هذه الوحدة السياسية الداخلية للأحزاب الشيعية عبر دخولها الانتخابات في تحالف واحد وبالتالي تفاوض هذا التحالف مع التحالفين الكردي والسني اللذين كانت إيران تدعم ايضاً وحدتهما الداخلية انتخابياً وبرلمانياً. وعبر جلوس ممثلي هذه التحالفات الثلاثة، وبمساعدة وضغط إيرانيين غالباً، تُعقد الصفقات الكبرى المتعلقة بحسم الرئاسات الثلاث (البرلمان والجمهورية ومجلس الوزراء) وحصص الأحزاب من المناصب والامتيازات، فضلاً عن الاتفاق على الخطوط العريضة للسياسات.
اشتغل هذا الترتيب الصعب للسياسة على مدى دورة انتخابية واحدة (٢٠٠٦-٢٠١٠) ثم بدأ يتفكك تدريجياً، عندما دخلت الاحزابُ الشيعية انتخابات ٢٠١٠ بتحالفين مختلفين. عملت إيران تالياً وبقوة على توحيد جهودهما لمنع ائتلاف العراقية الذي قاده اياد علاوي، الفائز بانتخابات ٢٠١٠، من أن يصبح الكتلة البرلمانية الأكبر ويتولى تشكيل الحكومة. لكن التحديات تواصلت، اذ اطاح نوري المالكي عملياً في حكومته الثانية (٢٠١٠-٢٠١٤) بمبدأ التوافق الذي كان يعني مشاركة السنة والأكراد في صناعة القرار.
لم تكن نهاية التوافق بالضرورة شيئاً سلبياً لو استبدلته صناعةُ قرار منطقية وحكيمة تهتم بترسيخ حكم المؤسسات وتعميق السلم الأهلي الناشيء حينها بعد هزيمة تنظيم القاعدة، وبناء شبكة مصالح وطنية، اقتصادياً وسياسياً، تجمع العراقيين باختلاف انتماءاتهم حول دولة تخدم طموحاتهم المتنوعة. ما حصل كان العكس تماماً، إذ انفرد المالكي بالسلطة ليتخذ قرارات كارثية غذت الارتياب الطائفي وأفرغت المؤسسات من استقلالها الهش اصلاً، وحولت المؤسسة الامنية الى اداة لمطاردة خصوم رئيس الوزراء، ونشرت الفساد في الدولة، والجيش على الأخص. ظهرت نتائجُ هذه السياسات السيئة باحتلال تنظيم داعش الموصل في ٢٠١٤ وانهيار معظم الجيش العراقي.
ساعد التخلص من المالكي واستبداله بحيدر العبادي واستنفار الوطنية العراقية والجهود الدولية والإقليمية الجبارة العراقَ على الوقوف على قدميه اخيراً وهزيمة التنظيم الإرهابي وبسط سيطرته على كل أرضه.
حتى مع نهاية التوافق وفقدان النظام السياسي العراقي لاحدى قدميه، استطاع هذا النظام الاستمرار بالوقوف على قدم واحدة: المحاصصة التي تعني توزيع المناصب الحكومية حسب الأوزان البرلمانية للأحزاب الفائزة بمقاعد في البرلمان. بقيت المحاصصة راسخة وكافية لجمع الفرقاء السياسيين حول طاولة واحدة. وواصلت إيران دعمها لهذه الصيغة التي ضمنت لهولاء الفرقاء استمرار مكاسبهم المعنوية والمادية عبر اقتسام الغنائم، وبالتالي دفعهم للعمل سويةً وتجاوز خلافاتهم السياسية.
عبر هذا، نجحت إيران في الحفاظ على مصالحها الأساسية في العراق المرتبطة بضمان بقائه سوقاً مفتوحاً لبضائعها وحليفاً سياسياً يعمل لحماية الامن القومي الايراني. التحدي الرئيسي الذي فشلت المحاصصة في تجاوزه هو فشل الأداء المؤسساتي للدولة بسبب استحالة الرقابة الفاعلة عليه في إطار السكوت المتبادل بين الفرقاء السياسيين على الأخطاء والخطايا في الأداء.
قاد هذا الفشل الى تبرم المجتمع الذي حُرم من الخدمات والفرص الاقتصادية واحتجاجه المتكرر ضد الطبقة السياسية التي صنعت هذا الفشل واستفادت منه.
ثم جاءت احتجاجات تشرين التي كانت نقطة التحول المهمة في العلاقة المأزومة اصلاً بين المجتمع والطبقة السياسية، فلم يعد ممكناً الدفاع عن المحاصصة. عكست الانتخابات الأخيرة، بالقانون الانتخابي الجديد الذي اجريت في ظله، هذه الحقيقة الاساسية. فقد اظهرت نتائج الانتخابات، في جانبها الشيعي الذي ينتج رؤوساء الوزراء، فرقاً كبيراً في المقاعد التي حاز عليها المتنافسون على نحو يُمكِّن الحاصلين على المقاعد الاكثر من تشكيل الكتلة البرلمانية الاكبر واستثناء الاخرين من عضوية هذه الكتلة.
يعني هذا عملياً امكانية تشكيل حكومة اغلبية سياسية. لأول مرة منذ ٢٠٠٥، تنتج انتخابات عراقية فائزين وخاسرين سياسيين برغم حصولهم جميعاً على مقاعد برلمانية. في كل الانتخابات السابقة، كان يكفي الحصول على أي عدد من المقاعد البرلمانية لضمان الفوز السياسي المتناسب مع عدد المقاعد والدخول في الحكومة. جوهر الصراع الشيعي-الشيعي الآن هو هذا: القبول بحيز سياسي جديد لم يكن موجوداً سابقاً هو حيز المعارضة، أي الخروج من السلطة لكن البقاء ضمن الدولة من خلال المعارضة البرلمانية.
أدركت إيران التغيرات التي تجري في المجتمع العراقي، ونقمته الهائلة على الطبقة السياسية المدعومة ايرانياً وفهمت أنه يمكن لهذه النقمة أن تكلفها خسائر مستقبلية فادحة اذا قررت تجاهلها والاستمرار على النهج القديم. لذلك اكتفت إيران مؤخراً بمراقبة التطورات السياسية مع إبداء النصح لحلفائها الشيعة الإسلاميين باهمية العمل سويةً، من دون السعي للتدخل القوي بينهم كما اعتادت في السابق. تقبلت إيران البراغماتية اخيراً فكرة حكومة الاغلبية السياسية، بعد أن فشلت في إقناع الفرقاء الشيعة في تشكيل تحالف واسع بينهم يعيد الحياة لطريقة العمل القديمة والفاشلة.
جاءت زيارة قاآني الاخيرة تمثلاً لهذه البراغماتية، إذ حاول الرجل إقناع بعض أهم الخاسرين، دولة القانون وعصائب اهل الحق، بالقبول بالذهاب الى المعارضة مقابل ضمانات معينة من التيار الصدري ترتبط اساساً بعدم تعقبهم مستقبلاً. لم يفلح الرجل في سعيه هذا. هذا أمر جيد، فمن المهم أن تقرر الوقائع السياسية العراقية الوجهة التي يمضي فيها البلد.