حديث الجمعة رسالة الى ابنتي المعلمة وصايا
بقلم علي الشافعي
قبل فترة ـ يا سادة يا كرام ــ فتحت (الفيس بوك ) على عادتي، وإذ بي أفاجا بطلب صداقة من أحد طلابي الذين درستهم قبل حوالي خمسة وثلاثين عاما، إبان عملي في المملكة العربية السعودية الشقيقة، مع رسالة يقول فيها : أستاذي الفاضل بحثنا عنك طويلا بعدما أنهيت عملك عندنا وعدت لبلدك، وحاولنا أن نراسلك أو نتواصل معك، وكم اسفنا لفراقك , وأرسلنا من سأل عنك ، لكننا لم نهتد على عنوانك. إلى أن هدانا الله عبر وسائل التواصل . أستاذي أنا أحد طلبتك، وأنا الآن مدير الثانوية التي كنتَ تعمل فيها، لا أدري إذا ما كنت تذكرني، لكن يشهد الله ما زالت كلماتك عن الصدق والأمانة والشرف والرجولة ترن في أذني، ولا زلت أحتفظ بكراسات التلخيص وأوراق الامتحانات، وتقديرا لجهودك فقد قمت انا وزملائي من طلبتك بعمل أرشيف لك في المدرسة، يضم دفاتر التحضير والعلامات والامتحانات والنشاطات والأناشيد التي الفتَها، والمسرحيات التي كنت تقيمها في المدرسة، حيث كنت أحد المشاركين فيها، وأحمد الله أنني اهتديت لعنوانك، وسأخبر باقي زملائي للتواصل معك.
صراحة فرحت كثيرا وزهوتُ بنفسي لدرجة الغرور، قلت : الظاهر أنني كنت معلما ناجحا لا يشق له غبار، وبما أنني كنت جهبذا فلابد أن أفرد عضلاتي وأنقل بعض خبراتي التي امتدت على مدار ثمانية وثلاثين عاما من العمل في ها المجال، لم تسقط خلالها الطبشورة من يدي، وقد مر من تحت يدي أجيال وأجيال، وتعرضت لمواقف وطرائف، فلمَ إذن لا أنقل خبراتي في هذا المجال لابنتي التي هي على أعتاب الحياة العملية، فلها ولأمثالها من المعلمين الجدد أقول :
يا ابنتي : بما أنك اخترت مهنة الأنبياء، أشرف المهن وأنبلها، وأصعب المهن وأتعبها، فاعلمي أن حملك ثقيل، ودربك عسير وطويل، واعلمي أنك تخوضين معركة الحياة العملية فأعدي لها ما استطعت من قوة ذهنية ونفسية وبدنية ، ولا تنوئي تحت أعبائها ثقلا، ولا تشتكي لها حملا، فمهنة الأنبياء لا تعطى إلا لمن أحبهم الله واصطفاهم وجعلهم لها أهلا، واعلمي أن موقعك أنت أهم بكثير من موقع أبيك، فأبوك كان يعلم طلابا ليكونوا رجالا ليبنوا الوطن ويحموا حدوده ، أما أنت فستعلمين الأمهات اللواتي سيلد ن ويربين هؤلاء الرجال.
كوني ــ يا ابنتي ــ لطالباتك أما، ولزميلاتك في المهنة أختا، ولمديرتك ورؤسائك ابنة، أدي واجباتك ولا يخذلنك تقاعس الآخرين وتثبيط الهمم، ولا تتنازلي عن حقوقك، ولا تتزحزحي عن موقفك إن كان صائبا مهما كلفك الثمن، فالحق أحق أن يتبع. واعلمي أنك تتعاملين مع أسر مختلفة وبيئات متعددة بعدد الطالبات التي تعلمين، فعليك أن تحتفظي بسجل تفردي فيه صفحة لكل طالبة، تسجلي فيها كل البيانات ؛عن جوها الأسري والاجتماعي والصحي، والبيئة القادمة منها ومستوى ذويها التعليمي والثقافي، حتى طبيعة المنزل والحي الذي يسكنون، وعدد أفراد الأسرة، وذلك من خلال ملفها المدرسي، أو سؤال المديرة، ولو اضطررت لزيارة الأسرة لاستكمال البيانات الناقصة، لان كل ذلك سينعكس على نفسيتها وأسلوبها في المعاملة والتحصيل، وستتعاملين مع كل طالبة حسب تلك المعطيات. واعلمي أنك ستعلمين من سيصنعن بأيديهن مستقبل الأمة، فاغرسي فيهن القيم والفضائل بأنواعها والاخلاق ورفعتها، وسمو النفس وعزتها وشموخ الفتاة وعفتها، قبل أن تعلميهن قواعد اللغة وآدابها .
إياك ــ يا ابنتي ــ أن تدخلي حصة إلا وأنت معدة لها الإعداد التام، ولا تستهيني بأي سؤال تطرحه إحدى الطالبات مهما كان تافها في نظرك، ولا تتسرعي في الإجابة، فلأنْ تقولي لطالباتك : لست متأكدة من الإجابة، سأطالعها في المراجع لتكون إجابتي أكثر دقة أفضل ألف مرة من إعطاء الطالبات معلومة مغلوطة أو منقوصة، فالمعلم في نظر تلميذه لا يخطئ، فإن اهتزت هذه القناعة خسرت الكثير .
ادخلي الحصة مرحة هاشّة باشّة، فهموم البيت والعمل اتركيها خارجا، ولا بأس من دعابة بين الحين والآخر تبدد كآبة الحصة وجمودها وجديتها، فالعلم ثقيل والتلقين أثقل،
إياك ــ يا ابنتي ــ وتقريع أو تعنيف أو إهانة إحدى الطالبات أمام زميلاتها، فالفتاة بطبيعتها حساسة، وإنما توصليها ما تريدين بينك وبينها، وبالهين اللين من الكلام، واعلمي أن الانسان إذا غضب فقد توازنه وعقله، وأصبح الشيطان قائده. واعلمي أن من يستعمل يده كأداة للعقاب يكون قد عجز عقله عن حل المشكلة. ولا يكون عقابك انتقاما لشخصك وإنما للتقويم والتهذيب. وإياك والعقاب الجماعي، لأنه يشعر الطالبات بالغبن، وعدم مقدرتك على إيجاد المسبب الحقيقي للمشكلة، وابتعدي عن الألفاظ التالية، أو امحيها من قاموس حياتك العملية (غبية، استيعابك قليل، كلامك سخيف، قليلة أدب وقليلة حياء، كاذبة، ألا تفهمين ) وغير ذلك من الكلمات المحبطة ، لأن هذه الكلمات تنزع ثقة الطالبة بنفسها، ونحن نريد أن تعزز هذه الثقة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
ولا تقطعي ــ يا ابنتي ــ حوارا دار بينك وبين إحدى الطالبات بالإسكات القسري، لأن الطالبة وإن سكتت احتراما أو خوفا فسيكون له تأثير على نفسيتها أو مكانتك في عينها. ولا تحرجي طالبة أمام زميلاتها ولا تفشي سرا من أسرارها أو أسرار بيتها، ولا تهتكي لها سترا، لا تحكمي على الأمور من ظواهرها، فقد تناقلت وسائل الاعلام قبل فترة شريط فيديو، هو قصة مؤلمة لطالبة بائسة في إحدى مدارسنا تقول القصة :
إحدى الطالبات في الصف السادس الاساسي اشتكت لمديرتها سرقة علبة الهندسة من حقيبتها، فكلّفت المديرة إحدى المعلمات الجديدات متابعة الأمر، فقامت المعلمة بتفتيش حقائب جميع الطالبات، إلى أن وصلت الى طالبة ما إن مدت يدها على حقيبتها حتى انتفضت الطالبة، وأمسكت بها بشدة راجية ومتوسلة للمعلمة ألا تفتشها، وعيناها تقولان : لا تفضحي سري، أصرت المعلمة وبحكم قلة خبرتها على تفتيش الطالبة أمام زميلاتها فاشتد بكاء الطالبة وإصرارها وتمسكها بحقيبتها، سمعت المديرة الصوت فادركت أن هناك سرا وراء شدة تمسك الطالبة بحقيبتها، فاصطحبتها مع الحقيبة إلى الإدارة، وأمرت بإخلائها من المعلمات، ثم نادت الطفلة : تعالي يا حبيبتي لا تخافي، اقتربت التلميذة وهي ترتجف هدأت المديرة من روعها ثم قالت لها ناوليني الحقيبة ولا تخافي، فتحت المديرة الحقيبة لتجدها مليئة ببقايا ساندويشات الطالبات، قالت الطالبة على الفور : يا مس والدي مسجون وأمي مشلولة وأنا كبيرة إخوتي، لا يوجد عندنا طعام، وهم ينتظرون عودتي، فأنا أتأخر بعد الفرصة أجمع بقايا ما تتركه الطالبات وآخذه لإخوتي ليتغدوا عليه. عندها نزلت الدمعة من عين المديرة وقالت لها حبيبتي لا تخافي سرك في بئر، ولن يطلع عليه أحد.
وبعد فهذا بعض ما دار في خلدي خلال هذه العجالة، ومع ذلك فلكل حصة ظروفها ومواقفها ومفاجآتها، والكيّس من اتعظ بغيره، طابت أوقاتكم.