عراق الجدود بين مقتدى ومسعود
إبراهيم الزبيدي
ماذا يريد الناس من حكوماتهم، ولماذا اخترعت البشرية لعبة الانتخاب الحر غير المزور، وغير المدبر، وغير المغشوش؟.
من هذين السؤالين يمكن أن نتصور شكل الدولة العراقية الجديدة التي أصبح كثيرون من العراقيين المتفائلين موعودين برؤية ولادتها على يدي مقتدى الصدر وهادي العامري ومسعود البرزاني ومحمد الحلبوسي وخميس الخنجر ومثنى السامرائي ومشعان.
فهكذا قضى الزمن على عراق الجدود الذي أنتج العبقريات وصنع المعجزات وحكمَهُ العظماءُ الشرفاء بأن يسيّره الإيراني القادم من وراء الحدود، ويقوده الجاهل والأحمق والمزور والعميل.
وبناءً على الملابسات التي تعرقل ولادة الحكومة المنتظرة، وسوف تستمر في تأخيرها، لا أحد منا يتوقع أن تكون صحيحة البنية وناضجة وقوية، أو منهكة القوى، مختلة العقل والحواس والبصيرة.
ويحدثنا التاريخ عن أمم ٍ كانت شامخة، عزيزة الجانب، وفيرة الخير والصلاح والرخاء، فأذلَّها واحدٌ وثقت به فاختارته لقيادتها في ساعة غفلة وسذاجة وضلال، أو جاء بانقلاب عسكري أو ديني أو قبائلي أو بمعونة دولة أجنبية، فعبث بأمنها وبعثر أموالها وأذل أهلها، وأفقرهم وشتت شملهم، وجعلهم مهجَّرين داخل الوطن الواسع، أو مهاجرين في أرجاء المعمورة الرحيبة، فخان الأمانة، ونزل بهم وبدولتهم أسفل سافلين.
كما حدثنا عن أمٍ أخرى كثيرة هرمت ومرضت ثم ماتت، فأعادها إلى الحياة قائدٌ شهمٌ ونزيه وحَّد عقلاءَها، وأيقظ شبابها وعنفوانها من جديد.
يتحدث مسؤول في دولة محظوظة من دول المنطقة عن سرِّ قلة الفاسدين والمختلسين في حكومتهم فقال، “عند أول يوم عمل لرئيس الحكومة الجديد أحيط علما بأن أحد أقرب مستشاريه إلى قلبه قد اختلس، فأحاله إلى القضاء على الفور، وحلف أغلظ الأيمان، على شاشات التلفزيون، على أنه سيعاقب أي مسؤول يهبُّ لنجدة هذا المختلس، أو يتوسط له، أو يتستر عليه. ومن يومها وكلُ موظف، كبير وصغير، َيعُد إلى العشرة قبل أن يقبل رشوة أو يختلس أو يخون”.
تخيلوا، إذن، ماذا كان سيحدث لو أن صدام حسين ضرب على يد ولده عدي، وعلى أيدي أخوته برزان وسبعاوي ووطبان، وخالته بدرة طلفاح، وصهره حسين كامل، عند أول اعتداءٍ على أموال الدولة، أو عند أول حالة استغلال قرابة؟.
ثم ماذا ولو امتنع أعضاء مجلس الحكم 2003 عن احتلال قصور المنصور والحارثية والجادرية والنجف وكربلاء، وعن السطو على البنوك، وتزوير الشهادات، وتشكيل المليشيات؟.
وماذا لو سارع أياد علاوي، عندما كان أول رئيس وزراء عراقي، إلى إصدار أوامره العاجلة باعتقال حازم الشعلان وزياد القطان ولؤي العرس قبل هروبهم من البلاد، ولو منع تهريب أيهم السامرائي من سجنه، ولو منع أخاه من تأسيس الشركات والمؤسسات النفطية والغازية والمصرفية المختلفة في العراق وكردستان والأردن ولبنان ولندن ودبي؟.
ولو ضرب نوري المالكي على يد ولده أحمد أو على يد ابنته إسراء، وعلى أيدي أصهاره وأبناء أعمامه وأخواله، ولو منع الاختلاس والاعتقال الكيفي وتزوير الشهادات وتأسيس ثقافة العمولات؟
وبمناسبة الحديث عن محاولات تشكيل الحكومة القادمة لابد، هنا، من الاعتراف بأن النظام الذي أقيم في عراق ما بعد الغزو الأمريكي ووريثِه الاحتلال الإيراني مصممٌ لكي يكون معوَّقا غيرَ قابل لتبديل أو تعديل أو إعادة صياغة.
ولذلك فإن أياً من الأطراف المتصدّية، الآن، لصناعة الدولة العراقية الجديدة محكومٌ بالسباحة في نفس بحيرة المياه الراكدة الآسنة التي اخترعها الحاكم المدني الأمريكي، بول بريمر، بمشورة المرجعية وأحمد الجلبي وموفق الربيعي.
والغريب أن الإعلام العربي والأمريكي متفقان، هذه الأيام، على خطة عمل متقاربة تقوم على أساس النفخ في صورة مقتدى، ومنحه صفة الثائر الوطني العراقي الشاهر سيفَه بوجه إيران ومسلّحيها، والقادر على سحب سلاح المليشيات في سبعة أيام، وغربلة الحشد الشعبي، وجر الفاسدين، أكبرِهم قبل أصغرهم، إلى ساحة العدالة، وأولُهم نوري المالكي المتهم، وحده، بأطنان من ملفات الفساد واستغلال الوظيفة وخيانة الأمانة والتخابر مع الأجنبي.
تصوروا أن قناةً أمريكية ناطقة بالعربية تذيع أن مقتدى الصدر رفض طلبين تقدم بهما إسماعيل قاءاني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني للقائه، خلال زيارته السرية الأخيرة للنجف، رافضا، بشجاعة، أية وساطة يسعى بها قاءاني لفرض جماعة الإطار التنسيقي على حكومة (الأغلبية الوطنية) التي يريدها.
ثم سارعت فضائيات عربية أخرى إلى التقاط الإشارة وإعادة ترويجها لتصبح من أخبار جهينة، وعند جهينة الخبر اليقين.
وهنا في هذا المقال أرفض هذا الزعم، جملة وتفصيلا، وأؤكد، استنادا لمصدر عالي الجناب من داخل العملية السياسية المتكسرة، أن مقتدى، رغم أنه صاحب تقلبات دراماتيكية معروفة، ولا يُستبعد أن يقترف حماقة من هذا الوزن ومن هذا النوع، يَعرف من هو قاءاني، ومن هو الحرس الثوري وقدراته في العراق. وعليه فهو لا يمكن أن يكون قد بلغ هذا الحد من الشجاعة ليعلن نفسه خارجا على ولاية الفقيه، ومعارضا لاحتلال الحرس الثوري، ورافضاً الحديثَ مع أي واحد من قادته الكبار.
إضافةً إلى أنه، في كل أحواله السابقة والجديدة، لم يكن أكثر من إبنٍ مخالفٍ مشاكس داخل الأسرة الولائية الإيرانية الواحدة في العراق.
ويُسجل له أنه أول من باشر في العام 2003، بإيعاز أو بتشجيع من إيران، جهادَه المقدس ضد النصارى في البصرة، وأول من أجرى استعراضا عسكريا بسلاح جيش المهدي في أوائل 2004 في شوارع العاصمة، على مرأى ومسمع قادة الجيوش الأمريكية وجماعات المحاصصة الآخرين.
وهذا يبطل نبوءات العرب والأمريكان، ويبرهن لهم أن العسل لا يخرج إلا من النحل، والمن والسلوى لا تخرج من الأرض بل تهبط من السماء.
وأما عن ثاني اللاعبين الكبار، محمد الحلبوسي، فلم ولن يكون أكثر من حليف إيراني بائس وسطحي وصغير لا حول له ولا قوة. وأمرُ بقائه نافشا ريشه على فقراء الرمادي هو وحدَه الذي يفكر به ويسعى إليه ويخاف عليه.
أما ثالثُهم، مسعود البارزاني، فواهمٌ جداً من يحلم بأن يكونَ أمنُ المواطن العراقي وكرامتُه وحريته وماؤه وغذاؤه ودواؤه من بعض اهتماماته، أو من بعض اهتمامات أسرته الحاكمة في العاصمتين، أربيل وبغداد هارون الرشيد.
وأما المؤكد حدوثه فهو أن العراقيين أمام أمرين لا مفر من أحدهما:
الأول أن يحترم التيارُ الصدري مشاعرَ الشعب العراقي فيرفض تنصيب وزير سابق كان هو نفسُه قد طرده من الوظيفة في 2016 لفساده، فيخسر مقاعد البرزاني، ويضطر، بعد ذلك، إلى العودة إلى (أشقائه) الإطاريين، ويشكل معهم حكومة محاصصة، ويرمي وعودَه الإصلاحية في أقرب سلة مهملات، ليعود العراق إلى أيام قتل المتظاهرين، وإهانة القائد العام للقوات المسلحة، وإطلاق المسيَّرات والصواريخ على المنطقة الخضراء، وعلى المعسكرات التي يتواجد فيها أمريكيون.
والثاني أن يرضى بجمهورية رئيسُها هوشيار زيباري، ورئيسُ برلمانها محمد الحلبوسي، ورئيس وزرائها مصطفى الكاظمي، ويمشي على جثث الإطاريين، لتعاود داعش الظهور، وليدخل العراق، من جديد، في أربع سنوات جديدة من اللطم والبكاء وجهاد الدراجات البخارية والكواتم وجنائز المغدورين.
ألم يهدد أبو علي العسكري الناطق بلسان كتائب حزب الله بـ “أن أياما عصيبةً ستمرُّ على العراق؟
الله يستر.