صَفَحاتٌ من سِفْر الشباب
عدنان الظاهر
1 ـ مُقدّمة للرِثاءِ
أسمعُ أصواتاً شتّى
توقظُ حُرّاسَ خزائنِ كِسرى
ومدائنِ ” صالحَ ” في هورِ الحمّارِ
يا قومُ جحافلُ هولاكو
تنصبُ للرائحِ والغادي أفخاخا
وتطوّقُ بغدادا
طاوعتُ سماعي أبواقا
وطبولاً تقرعُ أبوابَ خرابِ
وتشقُّ البرقَ توسِّعُ أحداقي
يا ضاربَ عودِ الأخشابِ
النغمةُ أعلى من دَقّةِ ضربِ المسمارِ
لا تُصغي لا ترفعُ فوقَ البرجِ العالي أعلاما
النصرُ قصيرُ
بَصرٌ يتدّرجُ مسحوقا
مُشتاقُكَ ملعونٌ مهجورُ
نوِّغْ لوحاتِ الجهدِ المستوفي أقصى حاجاتي
ألوانُ اللوحةِ جمهرةٌ تتضاعفُ أكداسا
ما لي والنزَعُ المتبقي في سقطِ متاعي ؟
أغرقتُ الديوانَ دموعا
تتخفّى تهربُ منّي
شَبَحاً .. رؤيا أشباهِ الموتى
تفصلُنا ألواحُ زجاجِ
تعتوتمُ قبلَ غيابِ الأسماءِ وحِدّةِ نورِ الشمسِ
أنشدُ فيها داري وشميمَ ثيابٍ لا تبلى
وصفوفَ رفوفِ الأسفارِ
الذاهبُ يذهبُ رُغْما
لم يرحلْ ودّعَ مَنْ قبلا
واستقطبَ آلامَ الدُنيا
وتحمّلَ عسفَ الريحِ وكَسرِ الباسِ
صيفٌ يتبعُ صيفا
أبطأَ أو غذَّ السيرا
يومٌ يأتي بالبشرى
أسوأَ ما خطَّ الرسّامُ على سيقانِ البردي
يحملُ في تابوتٍ نَعْشا .
2 ـ قوسُ قُزَحْ
لا ترفعْ رأسكَ قوساً
قُزحاً وشرارةَ إنذارِ الأوتارِ
الحُصنُ العالي نفخُ الريحِ العجزى
صوتُكَ أعلى … أعلى
لا تُصغِ حتّى لو قامَ الموتى
منْ ذا يُصغي والنجمةُ في بُرجِ الذيبِ
أصواتٌ ترغو
تتعالى دَقّاً دَقّا
مثلُكَ لا يتقلّبُ شَكلا
إرفعْ كأسا
الشاربُ مخمورٌ كسلانُ
يركبُ طراودةَ أفراسَ رِهانِ
صَبرَكَ ما أكبرَ يا ربّانُ
أمكثُ أو أطفو
صاحبةُ الحانةِ أدرى بي منّي
عطشى لشظايا جسدٍ في الخمرةِ مُنحلِّ
طوْرٌ لا يُشبهُ طورا
وجسومٌ تمضي …. تتريثُ أُخرى
الراحةُ في الصامتِ لا يكشفُ سرّا
طوّقني حتى فاضتْ أنفاسي
وتزلزلَ بُنيانُ مكاني أيّاً ما كانا
أبكوني أحياءَ
وبكوني لمّا غابوا أفلاكا
آثارٌ منهمْ تبقى
تحفرُ في الرملةِ أنفاقا
أُمَي قومي لصلاةِ الفجرِ
عادَ الراهبُ يحملُ أجراسا
جرّبَ خابَ وجلجلَ أصداءَ .
3 ـ كُحْلٌ وحنّاء
هلْ قلبُكَ أرقى
من نارِ صريحِ الثلجِ المندوفِ صقيعا
قالتْ لولاكَ لكنتُ الأشقى في الدنيا
أرملةً ثكلى
تتعثرُ في الدربِ المرصوفِ تُرابا
تتكلّمُ والأحجارَ الأثمنَ في دُنيا الأحجارِ
تتسلى بالتينِ وزيتِ الزيتونِ
بصمةُ إبهامِ الشكوى اليسرى
أيسرُ ما فيها سَفَرٌ في نُتفٍ من طينِ
يحلمُ فيهِ رائيهِ معصوبَ الرأسِ المشجوجِ
ياجوجاً ماجوجا
زُبَرٌ وجدارُ حديدٍ منضودِ
طاويهِ يتفتتُ ياقوتا
شأنَ المُتحرِّقِ شوقا
لسماءٍ سقطتْ كِسفاً كِسفا …
كيف أواري وجها
نكّسَ في عَرْضِ المِحنةِ أعلاما
شخصٌ خصَ ملامي
جَرَساً دقَّ فأيقظَ مَنْ في بابي
أهلي كانوا أيقاظا
شاءوا أنْ يسقطَ فوقي ظلّي
ويُسلّمَ للغارقِ ميزانَ حسابي
وجسوراً مُدّت فامتدّتْ
تاقتْ حَنَتْ أثوابي
سَلِمتْ عيناها كُحلا
سَلِمَ الدربُ يُطأطئُ رأسا
نبأٌ يأتي منها
يختصرُ الدُنيا قاعاً قاعا
أينَ منازلُ أهلي
أينَ الخيمةَ لا تحملُ أجراسا
ومُقامي لا يسندُ قاماتِ صعودي
لا يُطفئُ أحزانَ مدائنِ أنفاقي.
4 ـ ساعةُ ميلادي
أَحسنتم قالتْ
ما أَحسنّا ولِمنْ أَحسنّا يا مملكةً غابتْ شمسا
خلّتنا أقواساً أشباحا
جَرَشتنا بَعْدَكِ أعلامُ حِدادٍ سودُ
وأسنّةُ أرماحِ عبيرِ الفردوسِ المفقودِ
ما أبقتْ للصبيةِ في بيتِ الثكلى أقواتا
أبقتْ أعواماً عجفاءَ
ومتاعبَ تتبعُ أتعابا
شمسٌ تأتي أقسى مِنْ ضربةِ شمسِ
تخلو من جذوةِ نارِ عيونِ الذئبةِ في غابةِ ليلى
ما هذا الكونُ المترامي أطرافا
إنْ لمْ يضمُمْ أوصافكِ وصفاً وَصْفا
الوِزرُ الأكبرُ أخفى ما عندي من سرِّ البئرِ
ما أكثرُ دِفئا
من صدرِ الأمِّ تُداعبُ في مهدٍ طفلا
أحسنتِ وأنتِ الملآُ الأعلى
في الدُنيا والأُخرى
أنتِ الكاملُ في بحرِ خِضّمِ اليمِّ …
صبّحتُ فألفيتُ النجمةَ في رأسِ الخيمةِ مِصباحا
ضوّى قبلي نوّرَ بعدي وأطالَ الإيضاحا
عَجّلَ في هذي الرؤيا
مَنْ سَجّلَ إعلانَ النصرِ صبيحةَ عيدِ
جازَ محطّاتِ الصبرِ الأولى قَفْزا
وتمهّلَ يطلبُ نِذرا
هلْ أبصرَ حينَ تولّى خلفَ سحابةِ صيفٍ مُرِّ
دربَ الهجرةِ في آثارِ قِطارِ الإبلِ
هل نادى أحياءَ البَرِّ مِراراً مثلي
الدُنيا مُدنٌ للموتى
ونواويسٌ جُرْدٌ غبراءُ
جرّبتُ الميزانَ فأهوى بي
وسقاني سُمّاً عَذْبا
يا ساقيَ أحزاني بَلّغْ أهلي أنّي
أتمارضُ كي لا أشقى
وبأنّي في جُبِّ البئرِ أخوضُ سرابَ الوهمِ
بُعدي عنها حوَّلني قَفَصاً من تبنِ
شَبَحاً لا يقرأُ ما في العينِ
وجنيناً يصرخُ في بطنِ الأمِّ
هيّا حانتْ ساعةُ ميلادي.
5 ـ ماذا يتراءى لي ؟
مِنْ خلفِ ضبابِ جِدارِ السجنِ العالي
أتوحدُ فيهِ لأُناقشَ أخطاءَ عبوري جسري
ــ أعبرُ أكثرَ مِنْ جسرِ ــ
قبلَ وبعدَ مُعاقرتي شيطانَ الخمرِ
يتركني أضألَ حتّى من رقمِ الصِفْرِ
الكوكبُ أحزانٌ في كرِّ دواليبِ العُمْرِ
أبحثُ عنهمْ علّيّْ ألقاهمْ أحياءَ
إنْ عادوا عادوا أجداثا
لا تمشي تحفرُ للباقي أنفاقا
كنتُ الداخلَ للخندقِ وَحْدي
أسحبُ أقفالَ حديدِ الرِجلِ
ألاّ يهربَ منّي ظِلّي
ليُكلِّمَ أصدائي غيبا
أَقفلَ بابي لُغماً موقوتا
جفّفَ دمعَ الشمعةِ في ماءِ القنديلِ
الساعةُ قبلَ الدقّةِ عرجاءُ
لا تمشي إلاّ زَحْفا
تتجنّبُ حفلةَ إعدامي
إطلاقاتُ الموتِ رصاصُ دِماءِ الجلاّدِ سموما
أتلفّتُ لا داري لا أهلي
لا حتّى منخولُ تُرابي…
6 ـ أينَ أراهم ؟
أتيمّمُ في مسحوقِ رَمادِ عِظامي
وأُوجّهُ أمري صوبَ الركنِ الثاوي في بابي
أسألُهُ فيردُّ بأنَّ مُرادي في مسقطِ رأسِ الشمسِ
وبأنَّ وجودي في لُجّةِ أحلامِ الغيّابِ
أينَ أراهمْ ؟
وارِ أنفاسكَ قبلَ سقوطِ النيزكِ في بُرجِ الأحبابِ
إسألْ بابَ المسجدِ والنجمةَ في هامةِ حبلِ الإعدامِ
الحاجبُ أقصاني
أبعَدني وأهانَ حواجزَ تمتينِ الكِتمانِ
يا حاجبُ مَهْلاً
هلاّ أنطقتَ جِدارَ التسليمِ الآلي
وسحبتَ مقالةَ ما قالَ القوسُ لضربةِ أوتاري
الصاعقُ أولاني
وتربّعَ عَرشاً مغشوشاً من قَشِّ الأوباشِ
إرفعْ ثوبكَ للأعلى
وتدّفقْ عَصفا
عصفُكَ مأكولٌ نِصفا
قالَ وولّى مُبتلَّ الأجفانِ.
7ـ مع الوالدة في بيروت
[ 1965 ــ 1966 ]
هل تأتي
لتزورَ مرابضَ قريةِ مِحرابي
فصّلتُ مُقامي فيها فصْلاً فصْلا
ونشرتُ ثيابي لصدى أهوائي حَبْلا
ضمّتني غُصُناً في قبرِ
وبكتني برّاً في بحرِ
ومطاراً لعهودٍ طالتْ … أفنتني … كادتْ
من ثُمَّ رأيناها رأيَّ التُفاحةِ في العينِ
شَبَحاً أسودَ في ظلِّ جِدارٍ مُنهارِ
صَرَختْ ثم انهارتْ
جمّعتُ الأنفاسَ ولمْ تنهضْ
مَنْ ينهضُ والصوتُ العالي مأزومُ
يترددُ في مركبِ نُوحٍ في عَرْضِ اليمِّ
أُمّي ! آهٍ أُمّي آهٍ أُوّاها
خَفتَ الصوتُ ومرَّ المركبُ مرَّ الوهنِ
هل بقيتْ بيروتُ كما كانتْ
وكما شاهدتُ خطوطَ النملِ على رملِ الأهلِ ؟
بيروتُ حنينُ الناقةِ للحِمْلِ
حَمَلتني من بهوِ الطبِّ لبارِالجنِّ
شقَّ البدرُ جناحاً
يحملُ أُمّي بَرْقٌ من جُندِ
وحلولِ الجسدِ النازلِ في ليلةِ قَدْرِ
قَدَري هذا .. قالتْ نَزَلَتْ تسقيني ماءَ الحُمّى
وأُعاطيها أخبارَ الجنِّ الحُمْرِ
تُبعِدُني … تخشى العدوى !
بيروتُ مناجلُ عيدِ الإعصارِ
وبنادقُ شقِّ الأنفاقِ
تركتني أُحصي أنفاسَ البحريّةِ والطوقً الأمني
أُخفي دَمْعاتِ الموجِ بحبّاتِ الرملِ
أسمعُ فيها دقَّ طبولِ حِدادِ الأهلِ
فأقولُ سلاماً
تركتني عَظْماً يقرأُ آياتِ الفجرِ..
أوقفتُ خسائرَ فادحةً
في قلبِ الإعصارِ الضاربِ في سوءِ الظَنِّ
طارَ صوابُ الجاني والسادرِ في أنصافِ الحَلِّ
والغافي تحتَ الظُلّةِ في قيلولةِ عِزِّ الصيفِ
ما يعني شأني للضاربِ طُنبورَ أخاديدِ النسيانِ ؟
هيّا .. نبدأُ عصرَ التجديفِ المُرِّ
لا بحرٌ يبدأُ فينا لا ريحٌ لا قوسٌ لا بحّارُ
مِجدافُ البحرِ يُعطِّلُ موجاتِ الريحِ
أشرعةُ المدِّ قِصارُ …
قلّبتُ الدُنيا فانقلبتْ بي
وتقلّبَ جرّاها منظورُ التعبيرِ
ما كانَ الوزنُ الصافي معروفا
أو كانَ الدِرعُ الواقي مصفوفا
وجّهتُ التوقَ لوجهةِ فوجِ التدريبِ الإجباري
لأُراقبَ ما يجري خلفَ متاريسِ الأنصابِ
هذا توق الماشي عَكْسَ التيّارِ
كُفّوا يا ناسُ خذوا رأسي مقصوصا
الحربُ سِجالُ
قاصيها أحمقُ دجّالٌ معزولُ
والنارُ سعيرُ سُعارِ الأبراجِ ..
جاءتْ تتخطّى ماضي الأشواقِ
تمشي الدُنيا تتوكّأُ شِبْراً شِبْرا
تُحصي السيّارةُ أنفاسَ هدوءِ الصدرِ
تفتحُ أنوارَ الشرقِ مصابيحا
هل وجدتني أنزلُ مِعراجَ النورِ رويدا
وأصفُّ الدمعَ شموعا
لطريقِ العُزلةِ في الدربِ النائي
صَرَختْ أُمّاهُ تعالوا
هَفَتتْ غابتْ
سَقطتْ من بُرْجِ النوءِ العالي
قَمَراً ينزفُ مخسوفا.
8 ـ الضوءُ
الليلُ نهارُ
أطفأتُ النجمةَ ليلةَ حاقتْ أقماري
وترصّدتُ القنديلَ وما يتبقّى من دمعِ التأويلِ
حَطَبٌ في نارِ المندى
وزهورٌ ينشرُها حبلُ غسيلِ النجمِ الهاوي
حُبٌّ هذا لهوٌ هذا مولانا ؟
أرهقني جوُّ ثقيلِ الضوضاءِ
فقأتْ عيني صُورٌ تهتزُّ كموجةِ أجراسِ الإنذارِ
خضّتْ عَصباً ينتأُ لا يرعى عَهْدا
لا يحفظُ للشاهدِ وُدّا
غَرِقتْ أحواضُ سفينِ المرسى
وتآكلَ زنجيلُ المرساةِ ونادى فوق الصاري رَبّانُ
هذا موئِلُ من فارقَ أحبابا
وتسلّقَ عامودَ الضيقِ يُبعثرُ أوراقا
يتنفسُّ من سَرَفِ الجمرةِ في عينِ الذيبِ
تهوى عيني
تتباطأُ ضَرباتُ الأوتارِ بصدرِ الشوقِ الضاري
قَدَري هذا
شأنُ الراكبِ أسواطَ نقيقِ الرَعْدِ
عَلُّقتُ تباشيرَ الإصباحِ على حرفِ شرابِ الأقداحِ
أنْ أنهجَ دربَ صحيحِ الأفراحِ
الصبرُ المرُّ سمومُ الصوتِ الصدّاحِ …
الضوءُ مُضِرٌّ جِدّاً
يتراكمُ جيلاً جيلا
يتخفّى ما بينَ شقوقِ الجدرانِ
ويُنيرُ مداخلَ أجوافِ الإنسانِ
لا ضَجّةَ لا هزةَ سفحٍ مكشوفٍ
لا علّةَ فوقَ المعلولِ
لا مأربَ مأمولا
الضوءُ الساقطُ ينتحلُ الأعذارا
يستقطبُ رُهبانَ خفافيشِ الليلِ
لا يسقطُ عفوَ الخاطرِ يستجدي عَطْفَ الظلِّ
هئّْ للضوءِ الساقطِ نِبْراسا
جَهّزْ للرحلةِ أبواقا
وسُرادِقَ للماشي خوفَ الإملاقِ .