قول في ـ دعيني أصارحْك ـ للشاعر عبد الإله الياسري
خالد جواد شبيل
أحسب أن هذه القصيدة، قد طرقت مسمعي ولا أدري كيف؟ ومتى؟ وأرجّح أنه قرأها عليّ عند زيارتي ل “أوتاوا” وما كانت يومها مكتملة..
وباركت هذا المنحى الجديد في مسيرته الشعرية الحافلة الذي يتشح بالفلسفة والتلوين الصوفي والترميز الديناميكي اللّماح.
سؤال لابدّ أن يقفز أمام القاري المتأنّي وهو يسير على النص:
من هي التي يريد الشاعر أن يتعرّى أمامها مرة:
وإني تَعرَّيتُ وجداً
وأَلقيتُ عنِّي أمامكِ كلَّ الثيابْ
وبتُّ بعينيكِ أَحلمْ
فلا تكتمينيَ سرّاً
إذاما انجذبتِ لضوئي انجذابي إليكْ
إذا ما صعدتِ لأفقي صعودي لديكْ
……
ثم يريدها مُلحّاً أن تتعرى أمامه هي الأخرى (ربي كما خلقتني!):
تَعرَّي!
لمَ الأقنعهْ؟
لماذا السرابْ؟
تَعرَّي! تَعرَّي!
أَريني بعريكِ سرَّ المرايا،ونزفَ الشموعْ.
أَريني ابتسامَ الربيعِ بعينيكِ،أمزجْه صرفاً بماءِ الدموعْ.
أَريني رفيفَ الفراشةِ فيَّ.
يريدها ويلح عليها لتكون صادقة عارية كالمرآة ليرى نفسه العارية من خلالها وياله من تفاعل خلاّق ينقض مرآة (سجنجل) امرىء القيس!
لا يتطلب الأمر فِطنة كبيرة لفهم أن الشاعر يعاني من اغتراب وسَخط على واقع مغلف بأغلفة سميكة من الرياء ضاعت بينها معشوقته المنشودة “الحقيقة” لقد ضاق نفَسَه متطلعا الى هواء نقي، وأن صخب الأصوات قد كتم عن المسامع تغاريد الطيور وعلا نقيق الضفادع على كل صوت موسيقي جميل! وأصبح المشهد العام قبيحاً لا يني يزداد قُبحاً إنها لمعاجة شعرية خلاّقة لتلوث زاد على تلوث البيئه من هواء وماء وغذاء إلى تلوث يشغل العالم، والشاعر هوضمير هذا العالم وأعني به التلوث السائد بشِقيه: التلوث السمعي والتلوث البصري!!
فمن ذا الذي يلوم الشاعر حين يريد لمعشوقته الساطعة كالشمس أن تكون عارية يسمو نحوها كحقيقة مطلقة التي بحث عنها قبله الحلاج وابن عربي وغيرهما..
هذا النص الشعري فيه الرمز فاعل ومتحرك، تولّدَ من نفْس الشاعر اللوّامة المعذّبة المغتربة، وتشعب وتلوّن بعيدأ عن واقع مادي ينحطّ ويضمحل!!
ربّما أجد الشاعر أودونيس أول من أخرج الصوفية من خبائها ليرسم عليها من وجدانه وفلسفته خطوطاً سوريالية بمعانٍ مكثفة ولغة تستوقف القارىء ليتمعن ويتفكر ويتذوق طعماً غير مألوف!
ومن يقرأ تراث الشعر الصوفي يرّه في معظمه شعراً بسيطاً في شكله يقترب من العامية ولا يسلمُ من رِكة وضعف مخيّلة وبساطة وغرابة في آن بسبب ما يكتنفه من أفكار فلسفية.. شذّ عن ذلك ابن الفارض “سلطان العاشقين” بلغته الثّرة وتراكيبه البلاغية من جناس وطباق ومقابلة واعتراض ومماحكة رمزية وخصب مخيلة وحسن لفظ ورقة متناهية كأني به يعزف بآلات مخلوطة من كل ماذكرت عزفاً سحرياً تفرّد به دون الآخرين.. فسواه لم يكونوا سوى متصوفة شعراء أما هو فهو الشاعر الصوفي وشتان بين المعنيين الاصطلاحيين!
قصيدة الشاعر الكبير عبد الإله الياسري هذه تبدو لي أقرب الى قصيدة الشطرين لغناها الإيقاعي وأسلوبها وجمال قوافيها رغم أنها تنتمي شكلاً الى شعر التفعيلة، ولا غرابة فالشاعر له باع طويل في القصيدة العمودية التقليدية ما ميّز صوته بين الأصوات.. وأرى في هذه القصيدة منحىً جديداً في تطور مساره الشعري شكلاً ومعنى .. إنها قصيدة حافلة بحق!