من ذاكرة طفل عن فاجعة 8 شباط 1963
د. لبيب سلطان
كان اليوم جمعة وكان الوقت صباحا نتناول الفطور حينما نادى جيراننا من حديقته المجاورة ان انقلابا قوميا قد وقع على الزعيم فركضنا جميعا الى الراديو لنستمع الى أناشيد مصرية وأعادة قراءة بيان رقم 1 صادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة الملئ بالتوعد بالقضاء على الشعوبية والقاسميين وأعداء الأمة العربية المعادين للوحدة العربية. جاء جيراننا الأخر وأخبرنا ان التلفزيون بدء بالبث وتجمعنا حوله ورأينا المذيعة الوطنية المعروفة كانت تلقي البيان ودموعها على مأقيها وبالكاد تتفوه بالكلمات فالواضح انهم أجبروها بقوة السلاح وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي رأيناها، وبدأت أختي الكبيرة بالبكاء معها فور رؤية المذيعة على هذه الحال، وحاول والدي ان يطمئنها ان الزعيم والشعب أقوى من القوى الرجعية وانه سيقضي عليهم خلال ساعات وكذلك صرح أخي الكبير وبقينا مشدوهين ومشدودين والدماء متجمدة في عروقنا ننتظر ماالذي سيحدث. جاء الى بيتنا صديق اخي الكبير وأسمه حطاب الموظف في مديرية الطابو ليطمئننا ان الشعب قد خرج الى وزارة الدفاع وسيسقط الأنقلاب وهو ذاهب الى هناك، وفورا انضم اليه أخي الكبير ولم تنجح محاولات والدتي بثنيه الا بعد وعده بانه سيلجأ الى بيت جدي الكائن في الدربونة المقابلة لوزارة الدفاع خلف وزارة الثقافة حينها في حالة وقوع أي حادث وهذا هو ماجرى ، حيث أستشهد حطاب ببطولة حينما واجه مع الالاف من العزل من انصار الزعيم دبابات كانت ترفع صورة الزعيم ثم شقت طريقها بينهم وبدأت بالتصويب الى وزارة الدفاع ، فاحاطت بها الجماهير واوقفوها باجسامهم وبرمي الطابوق وسقط العشرات من القتلى من رمي الدوشكات ونجى أخي باعجوبة ولاذ الى بيت جدي . ذلك اليوم كنا نرى الطائرات تقصف الوزارة من موقع قريب على بيتنا من على نهر دجلة واستمر اليوم بالوجوم والأنتظار لخبر اسقاط الأنقلاب الذي لم يأت ولم توجد اية اخبار أخرى غير مايذيعه الأنقلابيون عبر الراديو منها خبر اغتيال العقيد جلال الأوقاتي قائد القوة الجوية واستشهاد محبوب الشعب مرافق الزعيم العقيد وصفي طاهر وتصفية جيوب الشعوبيين أي الوطنيين العراقيين المناوئين لسيطرة عبد الناصر بأسم الوحدة . وهكذا مضى اليوم بين النحيب والأنتظار الى ساعة متأخرة من الليل ولم نرى الزعيم بعدها بوجهه المشرق والمبتسم الذي اعتدنا عليه الا في اليوم التالي على شاشة التلفزيون مقتولا مرميا على الأرض وجندي قذر يمسك بشعر رأسه يهزه يمينا ويسارا. كانت كل بيوت العراقيين تقريبا بما فيها شارعنا تبكي وتنحب وخصوصا في الأحياء الشعبية في بغداد التي قاومت الأنقلابيين في الكسرة والكاظمية وعكد الأكراد والسباع والصدرية، ومنذ ذلك اليوم بقيت صورة الزعيم وهذه الفاجعة في قلبي وانا في الصف الخامس الأبتدائي ولازالت ليومنا هذا لاتفارقني وهي تقول لي ولكل من عاش تلك الأيام ان كل بعثي هو قاتل وسافل، ولم تفارق العراقيين صورة الزعيم العراقي الوطني الطيب البشوش وبقي الكثير منهم يعتقد انه مازال حيا يرزق وسيعود يوما كونه هرب للاتحاد السوفياتي مؤقتا، وبعضهم رأى صورته في القمر و بقي عند الجميع في قلوبهم وعقولهم رمزا للوطنية للعراقية كما بقيت صورة البعثيين قتلة وعصابات متوحشة.
اتى الحرس القومي لبيتنا ليلا بملابسهم المدنية وهم يوجهون الرشاشات الينا جميعا وقاموا بتفتيش الدار فلم يجدوا غير اعداد من جريدة الأهالي القديمة كان والدي يحتفظ بها كونه من جماعة الجادرجي وكذلك اعداد قديمة من جريدة الرأي العام للجواهري الذي سماه احد الحراس القوميين “جرايد الكواد القاسمي” ولم يأسروا غير اخي الكبير واودعوه في النادي الأولمبي في ساحة عنتر وبعد وساطات سمح لي بأخذ الطعام له ودخلت الى القاعة في الطابق الثاني المكتظة بالمئات جالسين على الأرض وصادف ذلك يوم 3 تموز حركة حسن سريع . سألني احد الحرس عند خروجي على باب النادي بعد ان فتش السفرطاس الفارغ هل اخوك شيوعي ، قلت لا انه وطني ، هل تحب الأتحاد السوفياتي قلت ايطاليا أحسن، فبادرني ” امشي منا قبل ما أدفرك كلكم انغولة “.
منذ تلك الأيام ولليوم لم يسترجع العراقيون اية طمأنينة ولا امان ولم يروا في بلدهم غير الشقاء، هذه هي 8 شباط 1963.
د. لبيب سلطان