قبل أيام ، بعثت لي صديقة وكاتبة سوريّة ، تعرف مدى اهتمامي بالبحث والكتابة في موضوع الاستبداد ، لقطة طريفة وساخرة من موقف لمثقف/شاعر مرتزق ، كانت قد قرأتها في كتاب (أفواه الزمن) . بحثت عن الكتاب ، ووجدته ، في أكثر من موضع ، يسخر بعمق وهدوء عاصف من أعداء الإنسان ، أصحاب السلطة والمال وملحقاتهم ، من مرتزقة ومبخّرين ومدّاحين ، مثقفين ورجال دين وعامة الناس ، باختلاف الزمان والمكان . طرافة اللقطة وبساطتها ووضوحها دفعني للكتابة عنها لتعميم المتعة والفائدة ، فربما يقرأ البعض ويفهم ويتعظ :
(( قبل ألف سنة قال سلطان بلاد فارس : كم هو لذيذ .
لم يكن قد تذوق الباذنجان من قبل قط ، وكان يأكل شرائح منه ، متبلة بالزنجبيل وأعشاب النيل .
عندئذ امتدح شاعر البلاط الباذنجان الذي يمتّع الفم ، ويحقق المعجزات في الفراش ، لأنه في مآثر الحب ، أقوى من مسحوق ناب النمر ومن قرن الكركدن المبشور .
بعد لقمتين من ذلك ، قال السلطان : يا للقرف .
عندئذ لعن شاعر البلاط ، الباذنجان المخادع ، الذي يسبب عسر الهضم ، ويملأ الرأس بأفكار خبيثة ، ويدفع الرجال الصالحين إلى مهاوي الهذيان والجنون .
– علق أحد الماكرين : قبل قليل رفعت الباذنجان إلى الفردوس ، وها أنتذا تلقي به إلى الجحيم !
الشاعر الذي كان أحد أنبياء وسائل الاتصال الجماهيري ، وضع الأمور في نصابها :
– أنا نديم السلطان ، ولست نديم الباذنجان ! )) .
هذا الموقف (الباذنجاني) ، مدفوع الثمن ، استحضر في الذاكرة مواقف أخرى ، مماثلة يزخر بها تراثنا ، من بينها ما كان لأبي تمام مع (الأفشين) ، أحد قادة جيش الخليفة المعتصم العباسي ، والذي قاتل الروم ، وأبلى بلاءا حسنا في معركة (عمورية) ، ونال رضى واستحسان الخليفة ، ولفت نظر الشاعر أبو تمام فمدحه بأبيات جاء فيها :
وعندما دارت الأيام دورتها ، ونال الأفشين سخط المعتصم ، الذي أمر بصلبه وحرقه بتهمة الكفر والإلحاد ، لم يتردد أبو تمام في الدوران كما دارت الأيام ، وتوجيه البوصلة و(الإبداع) لينسجم مع موقف الخليفة – ولي النعم – فعاد وذم الأفشين في قصيدة طويلة مطلعها :
يمكن لأي قارئ للتراث ، أن يجد مثل هذه المواقف ، كقصائد المتنبي في مدح كافور الإخشيدي ومن ثم انقلابه عليه وهجاءه ، وأيضا مدح الفرزدق ، المحسوب كشاعر للشيعة ، لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ثم رثاءه ابن ، جلاد الشيعة ، الطاغية الحجاج وأخيه ، أما الحاضر فحدث ولا حرج .
الشارع الثقافي ، تقليديا ، ينظر بعين واحدة (عوراء) لمواقف هؤلاء (المبدعون) سواء كانت مع السلطان أو مع الباذنجان ! لذا من الضروري خرق هذا التقليد وفتح ثغرة في الجدار لتدخل منها حزمة ضوء تزيل الغشاوة ، ولو قليلا ، عن بصر وبصيرة البعض ممن يرى الصورة مشوشة ، وأحيانا بالمقلوب ، في دور المثقف ومسؤوليته ، المباشرة وغير المباشرة ، في توظيف (إبداعه) وتكريسه لخدمة السلطة والمال ، وإشاعة قيم وثقافة ونهج الاستبداد ، في الدولة والمجتمع ، على حساب مسخ عقل وكرامة الإنسان ، وسلب حقوقه ، وتحويله إلى كائن سلبي مهمّش وعاجز، ومهووس بالتقديس والهتاف لكل من هب ودب : ( بالروح بالدم نفديك يا ….. كافور ) !