قراءة في ألأخفاقات المتراكمة للتيار المدني واليساري في العراق
- قراءة تأريخية للأخفاقات
د. لبيب سلطان
تاريخيا، يمكن أعتبار الحزب الوطني الديمقراطي ممثلا للتيار المدني الليبرالي في العراق والحزب الشيوعي العراقي ممثلا لقوى اليسار الثوري فيه ،وكلاهما لعبا دورا أساسيا في بلورة فكر وتوجهات الحركة الوطنية العراقية في العهد الملكي ووضعا اسس الفكر المدني السياسي الوطني في المجتمع العراقي . كانت نقاط التلاقي بينهما كثيرة وصولا الى ثورة 14 تموز عام 1958 وأهمها مجابهة الأقطاع والعشائرية والحكم الأستبدادي والمطالبة بتطوير الحريات والحقوق المدنية للشعب العراقي، ولكن بعد الثورة أصبح الخلاف بينهما أيضا أساسيا وجوهريا ، ففي حين كان التيار الديمقراطي الليبرالي الذي يقوده كامل الجادرجي ومحمد حديد وحسين جميل يسعى لأقامة نظام جمهوري دستوري برلماني ، كان الحزب الشيوعي العراقي يركز على دعم حكم الزعيم عبد الكريم قاسم باعتباره حكما وطنيا معاديا للأستعمار والأمبريالية ، وأساسا فان فكر الحزب وقتها لايعترف بالنظام البرلماني باعتباره من مخلفات الرجعية، وفق النظرية اللينينة ،و البرلمان العوبة بيد البرجوازية ( وهذه النقطة هي نفسها كانت ألأساس في أنفصال الأحزاب الشيوعية اللينينة منذ عام 1919 عن الأحزاب الماركسية التقليدية وهي الأحزاب الأشتراكية الديمقراطية في اوروبا اليوم والتي تؤمن بالأصلاح البرلماني والأجتماعي التدريجي ، وأنما نجاحها في بناء وتطوير كافة بلدان اوروبا الغربية اثبت الواقع صحة فهمها للماركسية كمنهج مفتوح وليس ايديولوجيا ووصفة دوغماتية، في حين أنتجت الأحزاب اللينينة في أوربا الشرقية أنظمة أستبدادية قامعة فشلت كليا في كافة برامجها وخصوصا الأقتصادية والأجتماعية ولم يعد عمليا للفكر اللينيني وجود عدا في مخيلة شيوعي العالم الثالث ومنهم في العراق) .أن المد الثوري الفوضوي ( أي الذي بدون هدف) الذي ساد بعد ثورة 14 تموز أدى أن مطالبة الجادرجي بأنهاء سيطرة العسكر وأقامة نظام برلماني ووضع دستورمدني دائم للعراق بعد ثورة تموزأن توصف وحزبه بفكر وحزب الأفندية والبرجوازية الصغيرة ” البتي برجوا ” (1) ، وكانت تجابه بمؤلف قديم لفهد بعد رجوعه من الأتحاد السوفياتي ” حزب شيوعي لا أشتراكية ديمقراطية” ، وبحل الحزب عام 1961 تم القضاء فعليا على التيار الليبرالي الوطني العراقي الذي كان يركز على البرلمانية والأصلاح السياسي والأقتصادي وبناء صرح الدولة الديمقراطية المدنية الوطنية في العراق، وبه فقد العراق السكة الأمنة التي سارت عليها كافة الدول المتحضرة اليوم كما اثبتت التجارب في العالم ومنها الأنظمة الملكية المستقرة في المنطقة مثل الأردن والمغرب. وبه أيضا فقد العراق الأمل في أقامة نظام برلماني ديمقراطي مدني و دخل العراق في مستقبل مجهول ووقع في بودقة صراع الأيديولوجيات وهو أول أخفاق للحركة المدنية والوطنية اليسارية في العراق. والواقع انه ليس من المنصف اليوم وضع اللوم على الشيوعيين العراقيين ، فهم معروفون بوطنيتهم العراقية وتضحياتهم الباسلة وريادتهم بمقارعة الرجعية والقومجية في العراق ،فان القاسم المشترك بين الوطنيين الديمقراطيين والشيوعيين هو الوطنية العراقية حيث ان الحزب الشيوعي كان يضم خيرة الوطنيين العراقيين والطبقة المثقفة العراقية ، ولكن الحقيقة ان الحزب وليس قواعده كان مكبلا بالولاء الفكري للأتحاد السوفياتي الذي كان يكتفي ان يرى العراق بلدا مناهضا للأمبريالية وفق الهدف الذي حدده السوفيات فلايهمهم البناء الديمقراطي للعراق قدر هدفهم طرد نفوذ الغرب في صراعهم الدولي معه. ومقابل التيار الوطني العراقي برز التيارالأيديولوجي القومي الموالي لعبد الناصر الذي ضم البلطجية البعثييبن الذين دمروا الحزب الشيوعي والحركة الوطنية في العراق بعد استيلائهم على السلطة عام 1963 ، ولكن الحزب عاد وهادنه، وتحت ضغط السوفيت من جديد ويافطة معاداة الأمبريالية، ليتحالف مع البعث في السبعينات ومنها ظل العراق دون دستور مدني وحكم ديمقراطي يرزخ تحت الأستبداد والديكتاتورية والأرهاب والتدمير طوال النصف الثاني للقرن العشرين، وهو الأخفاق الثاني للحركة الوطنية في العراق.
. وكحصيلة تاريخية فان فشل التيار المدني واليساري في العراق يعود لعدم وضوح الرؤيا لبرنامج وطني مبني على اليات أنشاء وبناء الدول والمجتمعات المستقرة مثل البرلمان والدستور الدائم والأنتخابات والتداول السلمي للسلطة والحريات الديمقراطية والشخصية وبرامج اقتصادية للتنمية الأقتصادية بما فيهاالأستثمار الوطني والأجنبي وتنافس السوق ، وفضل السير بدلها بشعارات مرحلية مثل معاداة الأمبريالية واقامة الجبهات الوطنية والأنجازات التقدمية وغيرها من التلفيقات والترويجات التي غلفت الحياة السياسية العراقية حتى عام 2003.
- قراءة في أخفاقات اليوم
أن بروز التيار الأسلامي في العراق ، وفي المنطقة عموما ، هو نتيجة لفشل النموذج العلماني الذي قادته الأنقلابات والحركات الأيديولوجية في بناء دول مستقرة ونظم ديمقراطية ، مما مهد لقيام ديكتاتوريات قمعية، كنظام البعث في العراق وسوريا وعبد الناصر في مصر، والدول كالبشر حينما تقع في مصائب تتوجه الى الله لمساعدتهم والى رجال الدين لوعظهم، وهذا ما حصل في العراق وساد بقية دول المنطقة ووصل حتى لبنان وتونس. ولكن شعوب المنطقة وصلت من النضج أنها باتت ترفض الأسلاميين ، كما في العراق اليوم. فان فشل الأحزاب والحركات الأسلامية أجتماعيا وسياسيا وتنمويا وأخلاقيا في العراق بعد عام 2003 جعل الأرضية ممهدة للتيار العلماني للعودة والنمو وبقوة من جديد ليتبوأ مكانته لوضع العراق على سكة الأنقاذ الوطني والشروع في بناء دولة حديثة ومدنية ، واثبتت أنتفاضة تشرين المجيدة ان المجتمع العراقي يرفض النموذج اللاوطني العقائدي الأسلامي، وكذلك الفكر القديم المؤدلج، ويتوق الى الأخذ بالوطنية والليبرالية والمدنية للبدء في بناء دولته المهدمة . وبقدر ماوفرته ثورة تشرين من أرضية ودعم وفرص للتوجه الأجتماعي العام في العراق الداعم لنمو التيار المدني والليبرالي والوطني ،فنحن نرى سوء قراءة لهذه الفرصة من جديد ، ونرى أخفاق هذا التيار من جديد في مسايرة الوضع الأجتماعي والسياسي الذي خلقته الثورة الشعبية منذ عام 2019 .
ولعل أبرز أخفاق هو عدم قدرة مثقفي التشرينيين على تكوين حزب وطني عراقي موحد يجمعهم ويتحالف مع الحزب الشيوعي لخوض الأنتخابات ، وثانيهما هو الأنسحاب من الأنتخابات المبكرة التي ستجري تحت قانون أنتخاب جديد يقوم على الدوائر بدل القوائم وهي فرصة لم تجري قرائتها بشكل جيد وتحول نوعي في الحياة الديمقراطية الناشئة في العراق وأهم مكتسبات ثورة تشرين . فالعراقيون تواقون لأنتخاب ممثل نزيه لهم على مستوى دائرتهم في البرلمان الجديد ، وهل يختلف أثنان ان أي شيوعي او تشريني وطني معروف للناس بنزاهته ووطنيته قبل كل شيئ ، وهم موجودون ومعروفون في كل حي وكل منطقة في بغداد والبصرة والناصرية وفي النجف وكربلاء وديالى كما يعرفون جيدا الحرامي والفاسد والمعمم والميليشياوي وينتظرون الكفوء والنزيه والمثقف من الوطنيين العراقيين ، ولو امتلك الولائيون المال والسلاح ( حجة الأنسحاب) فالوطنيون العراقيون يمتلكون أصوات 80% من هؤلاء الذين لم يصوتوا عام 2018 وهم نفسهم من خرج في اكتوبر 2019 ولمدة عام كامل مطالبين بالتغيير . وهل أتت الديمقراطية يوما وفي اي بلد على الأرض على صحن فضي ، وألم يكن ماقدمه الوطنيون والشيوعيون العراقيون وعلى مدى عقود من التضحيات والسجون والتشرد بغير هذا الهدف ، فكيف يبرر من قرر الأنسحاب ومقاطعة الأنتخابات موقفه ، وهل يوجد بديل واقعي غير الأنتخابات وتعبئة الشعب حول برنامج وطني لطرد الولائيين من السلطة و منعهم من السيطرة على العراق . أني أحترم موقف الحركات التشرينية المقاطعة وقرارالحزب الشيوعي بما يقرره وقاعدته فله الحق كحزب وطني عراقي بخط طريقه ولكني أرى أنها سوء قراءة لما بعد تشرين وأخفاق جديد أخر للحركة الوطنية والمدنية واليسارية في العراق .
د. لبيب سلطان
- سمعت كلمة “بتي برجوا” من فم المرحوم كامل الجادرجي نفسه وفي مكتبه في جريدة الأهالي عام 1959 وكنت طفلا اصاحب والدي عند زيارته له في مكتبه بعد يوم واحد من نشر جريدة الأهالي مقالا تدعو لأقامة حكم جمهوري برلماني وسن دستور دائم للعراق وتعرض مكتب الأهالي والجادرجي نفسه لهجوم تهديدي وسب وشتم بانه “بتي برجوا” من قبل “مزعطة السياسة” كما سماهم الجادرجي وقتها .