وداعا .. أيها الصديق
بقلم جميل حسين الساعدي
أحقا رحلت يا منصور البكري؟! أحقا سوف لن نراك ولن نتحدث إليك ؟! أتختفي ضحكاتك فجأة ونوادرك ونكاتك الجميلة ؟! ، التي كنا نستأنسُ بها ونطرد بها الملل ونكسر طوق الرتابة ، الذي طوقتنا به حياة الغربة والمنافي .. أحقا سقطت الريشة من أناملك ، التي سرى فيها الموت على حين غرّة ؟! أحقا لن نرى الجديد من لوحاتك ؟! . أهكذا تتبدد الأحلام في لحظة !، وتختفي الألوان ، ولا يتبقى سوى لون واحد هو لون الموت الشاحب ، الذي يشيع الوحشة في الأماكن ، التي كانت تزهو وتتألق بإبداعاتك. لا أكاد أصدّق موتك المفاجئ !!، رغم أنّ الأطباء أعلنوا وفاتك ، في المستشفى، الذي كنت ترقد فيه . توقفّت نبضات القلب وخمدت الأنفاس ، وتدفقت دموع أحبتك ، حين رأوك ساكنا بلا حراك . إنّها نظرات الوداع الأخيرة يا منصور ، أيّها الينبوع المتدفق إبداعا ، رحيلك خسارة كبيرة ، فالمبدعون لا يعوضون ، فلكل مبدع عالمه الخاص به وبصمات روحه التي يتركها في نتاجاته، والتي تميّزه عن غيره. لقد رحلت يا منصور قبل الأوان ، كان لديك الكثير لكي تنجزه وكنا بأمس الحاجة إلى المزيد من العطاء ، الذي نستعين به على غربتنا ، ونبدد فيه وحشة أيامنا .. لم نكن نتوقع هذا الموت المفاجئ . الموت لا يمهل ، يداهم بغتة مثل الذئب ، وقد أخبرنا عنه من قبل الجواهري حين قال:
ذئبٌ ترصّدني وفوقَ نيـــوبه
دم أخوتي وأحبّتي وصحــابي
لقد افترس هذا الذئب أحبتنا وأصدقاءنا ، وها هم الأصدقاء يختفون الواحد تلو الآخر . بعيدين عن أحبتهم في الوطن . يا لقسوة القدر؟! ، حين نموت بعيدين عن الوطن والأهل ، نحن الذين لم نعرف سوى الحب ــ حب الإنسان والأرض والحرية . آه منك أيها الزمن . كيف رفعت الوضيع وأنزلت الرفيع ؟! ، كيف ساويت بين الضعة والرفعة ؟!، لقد صدق المتنبي حين قال عنه:
تبّا لوجهك يا زمانُ فإنّه
وجهٌ لهُ مِن كلَّ قُبحٍ بُرقعُ
لقد كتب علينا أن نموت في ديار الغربة غرباء ، بعد أن عانينا الغربة في أوطاننا وإن حالنا ينطبق عليه قول بشار بن برد:
أولو الفضلِ في إوطانهم غرباءُ
تشذُّ وتنأى عنــهمُ القربــــــــــاءُ
وبعد غربة الوطن ، الذي أصبح منفى ، والذي عانينا فيه ، حتى بلغ السيل الزبى ، فلم يعدْ العيش فيه ممكنا ، شددنا الرحال إلى ألمجهول ، وتناثرنا في بقاع الأرض كتناثر النجوم في السماء ، فكانت الحال كما وصفها البياتي:
نحن من منفى إلى منفى
ومن باب لباب
نذوي كما تذوي الزنابق
في التراب
فقراء، يا وطني نموت
وقطارنا أبدا يفوت
إن يكن غيبك الموت عنّا يا منصور ـ فأنت حاضر بيننا على الدوام ، حاضرٌ بفنك بلوحاتك ، التي تذكرنا بالوطن الجريح ، التي توالت عليه الطعنات من كلّ صوب ، فلم يعدْ يعرف من هو الصديق ومن هو العدو . كلما أتأمل في رسوماتك أتذكر ما قاله ايليا أبو ماضي:
وطن النجوم أنــــــا هنا ؟
حدّق أتذكـــــرُ من أنــا ؟
ألمحتَ في الماضي البعيــ
دِ فتى غريراً أرعنــــــــا ؟
جذلان يمرحُ في حقو
للكَ كالنسيـــــم مدندنــــا
حين بلغني خبر وفاتك أصبت بالذهول وسيطر عليّ الوجوم ، فلم يعد باستطاعتي أن أقول شيئا ، لقد كان له وقع الصاعقة ، ذكراك ستظلّ حيّة يا صديقي ، ولن تفارقني صورتك ما حييت . ستظلّ كلماتك حاضرة في قلبي قبل مسامعى ، لقد قلدتني يوما وساما حين قلت لي : يا جميل الساعدي أنت آخر الديناصورات في الشعر العمودي . كنت إنسانا ودودا شفافا منفتحا على الجميع ، صادقا صريحا ، تقدّر الأشياء حقّ قدرها ، لا تبخس أحدا حقّه . زانتك الأخلاق فأحبّك كل من عرفك عن كثب وقلّدك الإبداع وسامه فكنت حقا ممن يفتخر به ويُباهى بفنه
تغمّدكَ الله بواسع رحمته وأدخلك فسيح جناته فقيدنا الغالي الفنان المبدع منصور البكري وألهم ذويك ومحبيك الصبر والسلوان .
إنّا لله وإنّا إليه راجعون
(( كلّ من عليها فانٍ ويبقى وجهُ ربّك ذو الجلالِ والإكرام ))
صدق الله العليّ العظيم